“نسرين بوزازي”: الصراع بين السلطة والمعارضة ذو طابع ثقافي
أجرى الحوار : كه يلان مُحمد
لايتبدلُ نمط التفكير ولاينهضُ العقل قبل تعدين آليات جديدة تقومُ عليها القراءات الرائدة للمعطيات التراثية،إنَّ الأزمات التي أخذت بتلابيب الواقع في محطات تاريخية متعددة تفاجئنا في الحاضر بظهورها بصورة أعنف.
وهذا مايؤكدُ بأنَّ جذور الأزمة في الأذهان وليس في الأعيان والحال هذه فمن الضروري الاشتغال على الجهاز المفاهيمي وتحويله من أداة للدراسة إلى موضوع الدراسة والتمحيص وبهذا يتمُ فضُ الاشتباك القائم على المستوى الدلالي واللغوي وتتبلور رؤية مختلفة للمفاهيم التراثية التي أصبحت أداة للسيطرة بدلاً أن تكون إمكانية للمعرفة.
بادرت الباحثة التونسية نسرين بوزازي بمُعالجة اشكالية متجذرة في العقلية الإسلامية وهي موقع إرادة الإنسان من أفعاله موضحةً الفرق في كتابها ” مفهوم الجبر بين الديني والسياسي /في الصراع الأموي –الجهمي” بين نوعين من الجبر وكان لنا حوار مع بوزازي حول مسعاها المعرفي.
1-اخترت مناهج متعدّدة في معالجة الإشكالية الّتي يتمحور حولها مسعاك المعرفيّ، لماذا يتطلّبُ فهمُ المراحل التي مرّ بها مصطلح الجبر وجود آلية تحليليّة ورؤية إبستمولوجية في آن واحد؟
اقترن مفهوم الجبر في الفكر الإسلامي القديم بدلالة واحدة وهي الإقرار بأنّ الإنسان مجبر على إتيان أفعاله المقدّرة عليه منذ الأزل، ونسبت هذه الدلالة إلى الأمويّين الّذين وظّفوها لتبرير سياساتهم وفي الآن ذاته إلى معارضهم الشرس ومنظّر القول بخلق القرآن الجهم بن صفوان.
هذه المعطيات جعلتنا نتساءل عن المنطق الّذي يكون به الثائر على الأمويّين سياسيّا هو ذاته المدافع عن نظريّتهم في الجبر دينيّا؟ وكيف يمكن لمن تبنّى نظريّة خلق القرآن الّتي تشكّل مع مقولة الحريّة الإنسانيّة وجهين لذات العملة، أن يكون منظّرا للنظريّة المعاكسة الجبر؟
وبعودتنا إلى المصادر القديمة قصد العثور على إجابة منطقيّة لهذا التضارب وجدناها تسكت عن اختلاف المفهوم الجهمي عن نظيره الأموي لمصطلح الجبر وهذا منطقي بالنسبة إلى خطاب كتبه أصحابه وهم محمّلون بخلفيّات مذهبيّة وإيديولوجيّة.
لكن تغافل الدراسات الحديثة عن هذا الاختلاف وعدم تساؤلها حول مدى الانسجام المفترض بين النظريّة والواقع والانسجام بين مكوّنات النظريّة الواحدة هو ما جعلنا نعي بوجود أزمة في قراءة التراث ممثّلة في جزء منها في سوء توظيف المنهج.
وهذا ما دعانا إلى إعادة النظر في المسألة استنادا إلى منهج تحليل الخطاب الّذي تكمن خصوصيّته في تمكيننا من دراسة المسألة ضمن أطرها المختلفة أهمّها الإطار التاريخي الّذي يضمن دراسة النظريّة بالتوازي مع المغزى الإيديولوجي لصاحبها، والإطار الإبيستيمولوجي الّذي يراعي تناسقها مع بقيّة مكوّنات البناء النظري الّذي أوجده منتجها.
وساعدنا ذلك في التوصل إلى نتيجة منطقية حول إشكالية الجبر، لكنه بث فينا الوعي أيضا بضرورة تحيين استعمالنا لآليات قراءتنا للتراث عموما حتى نتمكن من تقديم فهم أكثر موضوعية له ونتعامل على ضوئه مع واقعنا الحالي.
2- الاهتمام بالبعد الفيولوجي واضح في سياق رصدك لدلالات الجبر، هل يعني ذلك أنّ التبصّر بالمعطيات التراثية لا يكون قبل فضّ الاشتباك على المستوى اللغويّ؟
مازالت دراستنا للتراث تعتمد أساسا على ما حفظته لنا المكتبة العربيّة من مدوّنة نصيّة ثريّة ومتنوّعة، نتعامل معها استنادا إلى أدوات استقرائيّة من بينها الأجهزة الاصطلاحيّة والمفاهيميّة، والّتي تشترك مع المادّة المدروسة –النصوص- في انتمائها إلى جنس اللغة.
وهذه الأخيرة فعل واع يشكّلها صاحب الخطاب الأصليّ وفق موقعه التاريخي ومقاصده وغاياته الّتي يروم تحقيقها لهذا كان لزاما علينا تحويل هذه الأجهزة من أداة دراسة إلى موضوع دراسة ونقد ومراجعة.
علّ ذلك يفيدنا في توضيح ملامح التراث الفكري أكثر لاسيما وأنّ الجهاز الاصطلاحي والمفاهيمي هو انعكاس للفكر بل قل هو الفكر في صيغة مجرّدة وضبابيّته أو سوء فهمه يمكن أن يؤدّيا آليّا إلى تأخّره.
ومن جهتنا عملنا على تطبيق المنهج الدياكروني على لفظ “جبر” فتتبّعنا مراحل تشكّله عبر فترات تاريخيّة مختلفة وصولا إلى لحظة اتّخاذه دلالاته الجديدة في العصر الأموي. وقد أفدنا كثيرا من هذه القراءة حيث تمكنّا من استرجاع الدلالة الطبيعيّة لمفهوم الجبر والمنتمية إلى الجزء العقلي من المعارف.
واعترفت بالإنسان باعتباره عنصرا مفكّرا وفاعلا في الكون بعد أن نجحت الثقافة الرسميّة في طمرها مقابل عملها على غرس الدلالة اللاهوتيّة لذات المفهوم في العقل العربي مستندة في ذلك إلى استراتيجية معيّنة.
3- أشرت في مقدمة كتابك إلى الصراعات التي شهدها العالم الإسلامي بعد عهد النبوة في المجال السياسي وما تمخض عن ذلك من حراك فكري، هل تحوّلت المعرفة فعلا إلى جزء من تقنيات السيطرة؟
العلاقة بين المعرفة والسياسة في عمومها جدليّة وهو ما ينطبق عليها ضمن المجال الإسلامي. صحيح أن الأحداث الّتي شهدها المجتمع الإسلامي خلال النصف الأوّل من القرن الأوّل للهجرة، واصطلح على تسميتها مجتمعة بالفتنة الكبرى.
قد حفّزت العقل الإسلامي على السؤال والتفكير في مسائل العقيدة من قبيل مرتكب الكبيرة ومسؤوليّة الإنسان عن أفعاله وستتبلور لاحقا في شكل علم الكلام، لكن الصراع بين السلطة والمعارضة سيأخذ في شكل من أشكاله طابعا ثقافيّا.
لقد وعى السائس منذ وقت مبكّر بأن المعرفة تمثّل مصدرا من مصادر عديدة للسلطة لهذا وجدنا معاوية يؤسّس قواعد دولته على أسس ثقافيّة بدأ ذلك بإعلانه مفهوم الجبر الإلهي إيديولوجيا رسميّة لدولته وأمكنه تسييره في مختلف الاتجاهات فشرّع على أساسه لحكمه وبرّر سياساته الجائرة.
والأهمّ من كل ذلك تمكّن معاوية استنادا إلى هذا المفهوم من التحكّم في الطاقة البشريّة لرعيّته وشلّ فاعليّتها لضمان عدم ثورتها عليه.
ولا ننسى أيضا أنّه عمل على حماية هذه الإيديولوجيا بإيجاده لها أسسا نظريّة تحفظ توازنها على غرار انحيازه لمقولة قدم القرآن وإثبات الصفات الإلهية، علاوة عن شروعه في التأسيس للثقافة النصيّة بموجب انتقائه ما يخدم مقولته في الجبر من آيات قرآنيّة وإعطائه شارة البداية لاستنباط أحاديث تتطابق مضامينها مع مقولته في الجبر ونسبتها إلى الرسول.
حدث كلّ هذا في خضم تحالفه مع أصحاب الخطاب المحافظ في مقابل سيعمل مطاردته لأصحاب الخطاب الثقافي العقليّ لوعيه بخطورتهم وتهديدهم لغطائه الإيديولوجي إذ خلقوا نوعا من توازن القوى في مستوى الخطاب المروّج له بأن جعلوا من مقولة حريّة الإنسان في الكون ومسؤوليّته عن أفعاله منطلقهم لإعلانهم العصيان وتجييشهم العامّة ضدّ السلطة وقيادتهم للحركات الثوريّة.
ودعّموا هذا الرأي بمقولة خلق القرآن المثبتة لتفاعل الوحي مع الواقع والمنزّهة للذات الإلهيّة من أي شكل من أشكال التشبيه والظلم والتدخّل في حياة الإنسان وأفعاله. وما نعيشه اليوم من حالة ركود هو مظهر من مظاهر نجاح السلطة الإسلامية عصر التأسيس في تطويعها المعرفة لتكون أداة ناجعة للتحكّم في المجتمعات.
4- ميزت في محتوى كتابك بين الجبر اللاهوتي والجبر الطبيعي ما السبيل لإدراك الفرق بين الخلفية المعرفية وراء نشوء المفهومين؟
مفهوم الجبر في طبيعته الأولى عنصر ثقافيّ، والعناصر الثقافيّة تخضع أثناء عمليّة تشكّلها لتأثير بقيّة العناصر المكوّنة للمنظومة الحضاريّة الواحدة، على غرار حركة المجتمع والمستجدّات الثقافيّة والتحوّلات السياسيّة.
ولهذا ركّزنا في البداية على ضرورة فهم خصوصيّة المجال الحضاري لاسيّما الثقافي منه صدر الإسلام فألفيناه ثريّا منطويا على مشارب واختصاصات معرفيّة متنوّعة تراوحت بين نقليّة وأخرى عقليّة مستمدّة من الفلسفة فضلا عن توفّر سبل تواصل مع الآخر.
كل هذه المعطيات خوّلت لنا مواصلة البناء على فرضيّة اختلاف الجبر الجهمي عن نظيره الأموي وإمكانيّة تأثّره بالفسلفة الطبيعيّة.
وبالتالي: فلا جامع بين الدلالتين إلّا الاشتراك اللفظي، وقد بدت هذه النتيجة منطقيّة وتحقّق نوعا من التناسق الداخلي في مستوى البناء النظري الّذي يتبنّاه كلّ طرف من جهة، ثمّ التناسق بين النظرية والدور الّذي يضطلع بها صاحبها في الواقع من جهة ثانية،
فلئن وظّف الأمويّون القول بخضوع الإنسان لإرادة إلهيّة مسبقة لإخضاع الرعيّة، فإنّ الجهم استند إلى قوله بتميّز الإنسان بالقدرة والاختيار والإرادة رغم خضوعه لقوانين الطبيعة لتوجيه العامّة نحو الفعل الخلّاق والثورة على واقعها قصد تغييره.
5- صفوان الذي كان منظراً لثورة الحارث بن سريج يتنصل منه التيار الاعتزالي وينسب إليه التيار النقلي كل ما من شأنه تعبئة الخطاب الرسمي ضده وأنت بدورك تعتبرين أن ما قام به المأمون تجسيد لفكرة الجهم كيف نفهم هذه الصورة المركبة؟
تنظير الجهم بن صفوان لثورة الحارث بن سريج جاء انطلاقا من منظومته الفكرية القائمة على إثبات القدرة والإرادة والاختيار للإنسان والتشريع للخروج على السلطان الجائر، وهو ما يتناسق ضرورة مع ما نعلمه عنه من أنّه المنظّر الحقيقي لمسألة خلق القرآن.
على هذا الأساس يمكننا القول باختلافه الجذري مع أصحاب الخطاب الثقافي الرسمي أي المثبتين للجبر الإلهي والموالين للسلطة الأمويّة، أمّا عن خلافه مع المعتزلة فهو تفصيليّ مداره مفهوم الإيمان وليس مقولته في الفعل البشري.
كان الجهم يقرّ بخضوع الإنسان لنظام كونيّ معيّن مثله مثل الحيوان والنبات، لكنه يميّز الإنسان عن باقي هذه الكائنات بالمعرفة الّتي جعلها أساسا لتحديده مفهوم الإيمان بينما تضيف المعتزلة الفعل الإنساني إلى المعرفة في تحديدها لهذا المفهوم.
وتقوم المراسلات الّتي جمعت واصلا بن عطاء بالجهم دليلا على حقيقة هذا الخلاف التفصيلي، فضلا عن تسمية كل من يقول بخلق القرآن بالجهمي بما في ذلك المعتزلة حتى فترات متأخرة من التاريخ الإسلامي.
وبالتالي فالأساس النظري الّذي قامت عليه سياسة المأمون نابع من النظريّات الجهميّة الّتي يعود الفضل في حفظها والعمل على تطويرها إلى المعتزلة ومن وافقهم من الفرق والمذاهب حول مبدأ الحريّة الإنسانيّة.
6- كانت مقولة “خلق القرآن” تُعبرُ عن وجه آخر من الصراع بين التيار العقلاني وخصمه الموالي للسلطة واللافت في المشهد هو ترجيح الكفة للطرف الأول وإقصاء التيار النقلي في المرحلة اللاحقة هل هذا يعني أن الفكر مجرد غطاء للمشروع السياسي؟
ينبغي قراءة هذه المسألة في إطار التناسق بين النظري والتطبيقي، فقد كان تحالف القائلين بخلق القرآن مع السلطة نابعا من فلسفة سياسيّة تقوم أساسا على مراعاة مبدأ العدل الاجتماعي، على هذا الأساس رصدنا تقاربا بينهم وبين عمر بن عبد العزيز ثمّ مع يزيد الناقص لتوفّر رؤية مشتركة لكيفيّة إدارة الدولة.
في حين دأب المنتمون إلى هذا التيّار الثقافي على رفض عروض الصلح الّتي ما انفكّت تصلهم من طرف “الخلفاء المجبرة” لأنّها لم تحوِ ضمانات للرجوع عن السياسات الجائرة.
هذا التناغم بين النظري والتطبيقي سنجده يحضر مرّة أخرى فترة خلافة المأمون الّذي تبنّى النسق الفكري العقلي انطلاقا من خلفيّة معرفيّة معيّنة ونزوع إلى انتهاج سياسة متسامحة تسبّبت في انحسار دور أصحاب الحديث ما دفعهم إلى التخطيط للإطاحة بدولته.
وبالتالي يأتي إعلان المأمون الامتحان في خلق القرآن في إطار الإجراءات الوقائيّة واستعمال العنف المشروع بهدف حماية الدولة من خطر الانهيار.
7- يفهمُ من المقولات والاقتباسات الواردة في كتابك أنَّ التعامل مع العلوم كان انتقائياً وتمَّ نبذ كل ما يتوقع منه تغذية منظومة فكريّة مغايرة لمفهوم الجبر كما تبنّته السلطة الأموية ألا تعتقدين أنَّ العقول لا تزال تتنفسُ ضمن هذا السياق؟
صحيح كان ذلك ضمن استراتيجة معيّنة اتّبعها السائس لتسييج عمليّة التفكير. فسمح للمعارف النفعيّة المتناسلة عن الفلسفة مثلا بالانتشار في حين تصدّى لأجزاء المنطق والإلهيات من ذات هذا الحقل المعرفي لأنّها تسمح بمجادلة مقولة الجبر وتكشف خطلها وضعفها.
واليوم بقي تعاملنا مع الفلسفة والفكر النقدي هامشيّا لكن ذلك لا يمكن اتخاذ هذا الوضع التاريخي مبررا للشعوب العربية فالبدائل المعرفية اليوم متاحة بفضل الوسائل الحديثة وإمكانيات الفعل متعددة. بالتالي يمكن للأفراد التوجه نحو البناء الذاتي لشخصيّاتهم المعرفيّة.
إعداد : كه يلان مُحمد – كاتب وباحث من العراق.