سينما ومسرحفكر وفلسفة

أرسطو يذهب إلى “هوليود”

ترجمة: سارة حبيب

لو كان موجودًا اليوم، لكان أرسطو، راوي القصص من اليونان القديمة، قد ربح الأوسكار. لتعرفوا كيف، ارجعوا إلى تحفته “فن الشعر“.

إذا أردتَ أن تكتب سيناريو لفيلم يحقق نجاحًا كبيرًا، فلا بدّ أن أرسطو هو آخر شخص قد تلجأ إليه لأجل النصيحة. فقد عاش منذ أكثر من ألفي سنة، أمضى حياته وهو يحاضر في علم الأخلاق ودود الأرض، ولم يشاهد فيلمًا في حياته قطّ.

مع هذا، يعتقد بعضٌ من أفضل كتّاب المسرح والسينما المعاصرين، مثل آرون سوركين، وديفيد ماميت، أن هذا الفيلسوف من اليونان القديمة قد عرف تمامًا كيف يروي قصة أخّاذة تصلح لأي عصر. “كتاب القواعد هو كتاب فن الشعر لأرسطو”، يقول سوركين؛ “كلُّ القواعد موجودةٌ هناك”.

مع هذا، يبدو أرسطو احتمالًا مُستبعدًا كمرشد لرواة القصص. لقد ولد في أرض مقدونيا البرية شمال اليونان، حيث كان والده طبيبَ البلاط عند الملك المحلي، جدّ الإسكندر الأكبر.

وبعد موت والديه، وكان لا يزال حينها مراهقًا، سافر أرسطو إلى أثينا ليدرس مع أفلاطون، تلميذ سقراط، وأشهر فلاسفة عصره. كان أفلاطون منظّرًا بارعًا، لكنه لم يكن يهتم كثيرًا بالعمل التطبيقي والتجريبي الذي أحبَّه أرسطو.

ففي حين شقَّ الرجلُ الأصغر المحارَ، وخاض في المستنقعات جامعًا الشراغف، مخترعًا علم الأحياء بصورة أساسية، كان أفلاطون مشغولًا بإلقاء المحاضرات حول الواقع اللامرئي الذي يشكّل أساس الكون.

وبعد موت أفلاطون، عاد أرسطو إلى مقدونيا لبعض الوقت ليغدو معلمَ الإسكندرِ الشاب، ثم أسّس مدرسته في أثينا، وأسماها الليسيوم، جاعلًا إياها مكرّسةً للبحث والتدريس.

وفي السنوات التالية، كتب أرسطو وحاضرَ في جميع المواضيع التي يمكن تصوّرها، من علم الفلك والميتافيزيقيا، إلى السياسة، وعلم الحيوان. غير أن أيًّا من أعماله المكتملة والمنقَّحة لم ينجُ للأسف، ولم يتبق سوى بعض ملاحظاتِ المحاضرات.

لكن هذه الملاحظات، والتي نُسخت أحيانًا على نحو خاطئ من قبل نُسّاخ لاحقين، أصبحت المصدر الأول لتعاليم أرسطو التي ستغيّر العالم وتصبح أساس معظم الحقول المعرفية التي تُدرَّس اليوم في الجامعات.

أحد أعمال أرسطو القصيرة التي تمكّنت من النجاة عبر القرون هو كتاب “فن الشعر”، والذي هو، على الرغم من عنوانه، ليس كتابًا عن الشعر وحسب، بالمعنى الحديث لكلمة شعر، بل ينطوي على أكثر من ذلك بكثير.

وبما أن كل أنواع الأدب في اليونان القديمة كانت تُكتَب على شكل شعر، من الحكايات الملحمية، والمسرح التراجيدي، إلى المسرحيات الكوميدية الفاحشة، فإن “فن الشعر” هو في الحقيقة مرشد لكيفية رواية القصص بكل أنواعها.

يشتكي الكتاب من تاريخِ مخطوطةٍ أكثر تشوهًا من معظم كتابات أرسطو، مع أقسام مفقودة، وأقسام معادٌ ترتيبها، وفجواتَ منطقية، بالإضافة إلى فقدان النصف الثاني الذي يتناول الكوميديا بأكمله.

مع هذا، حقيقةُ أن كثيرين عبر العصور قد حاولوا دراسة هذا العمل القصير والتعلمَ منه هو برهانٌ أكيدٌ على قوته، حتى في هيئته المبلبلة هذه.

من ناحيتي، درَّستُ “فن الشعر” لطلاب الجامعة مرات عدة عبر السنوات، وأذهلني أنهم كثيرًا ما وجدوه تجربة مُغيِّرةً لكتابتهم وقراءتهم. ببساطة، لا شيء يضاهي هذا الكتاب اللافت في كونه يجعلنا نفكر بتأنٍ بما يجعل قصة ما تكون قصةً جيدة، سواء أكنا نؤلف قصة خاصة بنا، أو نحاول تقييم شكسبير، أو فيلم “إصلاحية شاوشانك” (1994).

مع هذا، أحزنني كثيرًا عبر السنين أولئكَ الطلاب الأذكياء الذين يئسوا من قراءة كتاب “فن الشعر”، بدافع الإحباط المحض، ما جعلني أقرر إعادة ترجمته عن اليونانية القديمة، وأحاول تنظيمه على نحو يكون مفهومًا للجمهور الحديث.

وكانت النتيجةُ ـ والتي حملت عنوان “كيف تروي قصة” (2022) ـ مقاربةً جديدة لكتاب “فن الشعر”؛ مقاربةً تسعى لأن تكون ترجمة أمينة ودقيقة للأصل، إنما فوق كذلك دليلًا مرجعيًا مفيدًا للكتّاب والقرّاء.

صحيحٌ أن بعض الباحثين قد يسخرون من فكرة تقديم “فن الشعر” على أنه كتاب إرشاداتٍ لغير المتخصصين، غير أن أفكار أرسطو فعالة للغاية حدّ أنها هي ذاتها تلتمسُ أن تكون في متناول جمهور أوسع.

في النتيجة، قد لا تتفقون مع كل ما يقوله أرسطو، لكن خذوا أفكاره بعين الاعتبار، ولاحظوا كيف أنها جديدة وعبقرية اليوم كما كانت منذ ألفي سنة.

  • المحاكاة

قبلَ أن يضع قواعد القص، يعرض أرسطو بعض المبادئ الأساسية حول ماهية ما نفعله حين نصنع أي نوع من الفن، سواء أكان أدبًا، موسيقى، رسمًا، أو رقصًا. ويقول، قبل كل شيء، إن كل ما نبتدعه هو نوع من المحاكاة (باليونانية:”mimesis”) للحياة.

لكن الفارق هو استخدام أنواع مختلفة من الوسائط، الأدوات والأنماط، سواء أكانت ألوانًا على قماش لوحة، أصواتًا في قاعة حفلات موسيقية، أو كلمات على ورق.

لا يعني هذا أن الفن هو مجرد مرآة للواقع ـ ليس كذلك أبدًا ـ لأننا نشكّل الصور، الأصوات، أو الكلمات، لنعبّر عن رأي معين، ولنروي قصة فريدة خاصة بنا.

لكنه يعني أنه أيًّا يكن ما تبدعه، فهو يجب أن يكون مرتبطًا ارتباطًا منطقيًا بالعالم الحقيقي حولكَ، ويجب أن يعكس الحياة إلى درجة قابلة للتمييز، هذا طبعًا إذا أردتَ أن يستمع جمهورك إلى ما تريد قوله.

إن قواعد أرسطو لا تجدي مع كل أنواع القص. فتركيزه الأساسي في “فن الشعر” هو على التراجيديا والمسرحيات ـ مثل مسرحيته المفضلة “أوديب ملكًا” لسوفوكليس ـ التي يمكن عرضها في بضع ساعات.

إن أرسطو يكنّ احترامًا كبيرًا للملاحم الطويلة من نمط “ملك الخواتم”، ملاحمَ مثل الإلياذة، والأوديسة، لهوميروس، غير أن القصص التي تستغرق أيامًا لقصّها ليست محور تركيزه.

وهذا يجعله ملائمًا بوجه خاص للكتّاب الذين يشتغلون على فيلم، أو سيناريو تلفزيوني، لمرة واحدة، أكثر مما هو ملائم لمسلسل من حلقات.

نستطيع بالطبع أن نطبّق قواعده على أعمال أكثر طولًا، مثل المواسم الستة للمسلسل التلفزيوني “المفقودون/ lost” لجيه جيه أبرامز (2004 ـ 2010)، لكن فقط إن قسمناها إلى قصص أسبوعية.

إن السبب وراء تركيز أرسطو على تراجيديات مفردة هو المردود والتأثير العاطفيين المباشرين اللذين تتركهما هذه القصص على الجمهور عندما تُنجَز بشكل جيد.

وكما يشرح في واحدة من العبارات الأكثر شهرة في “فن الشعر”، إن أكثر ما تريد إنجازه ككاتب دراما مسرحية هو إثارة الشفقة والخوف عند مشاهديك؛ الشفقة التعاطفية (“يا لهُ من رجل مسكين!”) متبوعةً بإدراك صادم وخوف (“يا إلهي، يمكن أن أكون في مكانه!”).

وعندما تقوم بهذا على نحو صحيح، سيغادر جمهورك المسرحَ مختلفين عمّا كانوا عليه عند دخولهم، لأنهم اختبروا تطهيرًا عاطفيًا من نوع ما؛ أو ما يدعوه اليونانيون التطهير/ التنفيس “catharsis”. إن هذه هي القوة الحقيقية للقص.

السؤال إذًا: كيف على الكاتب أن يفعل ذلك وفقًا لأرسطو؟ إن أول مبادئ القص الأساسية هو مبدأ بسيط للغاية، لكن كثيرًا ما يتم تجاهله في السيناريوهات:

يجب أن يكون للقصة المكتملة بداية، منتصف، ونهاية.
ليس بالضرورة أن تنجم “البداية” عن شيءٍ قبلها، لكن أحداثًا أخرى بطبيعة الحال تتبعها وتنبثق منها. أما “النهاية” فهي بطبيعة الحال، أو بالعموم، تنجم عن شيء آخر يأتي قبلها، ولكن لا شيء يأتي بعدها. “المنتصف” بدوره ينجم عن حدث آخر، وثمة أيضًا أشياء تحدث بعده.

كما هي الحال غالبًا مع قواعد أرسطو، يبدو هذا واضحًا للغاية حدّ أنك قد تتساءل عن سبب كل تلك الجلبة. لكن فكّرْ بالأفلام الكثيرة التي شاهدتَها وكانت تفتقر إلى بداية واضحة ومنطقية لتقديم الحدث والشخصيات.

وبوصفك كاتبًا، قد يمنحك المشاهدون مهلة إذا أردت أن تكشف خلفية الأحداث على شكل ومضات استرجاعية (أو ما يسمى “فلاش باك”).

لكن إن لم تقم بتغطية الأساسيات في بداية قصتك، سيشعر المشاهدون بالحيرة والضجر. ثمة أيضًا كثير من الأفلام التي تتمتع ببداية قوية، لكنها تضل طريقها في مكان ما في المنتصف؛ وهو ما يشكّل خطأً جوهريًا وفقًا لأرسطو.

أما السقطة الأكثر شيوعًا في الأفلام، والتي كان الفيلسوف اليوناني ليستهجنها، فهي النهاية الضعيفة؛ أي حين لا يعرف كتّاب السيناريو كيف ينهون القصة نهاية ملائمة.

وكما يقول أرسطو إن أسوأ القصص هي التي تلجأ إلى نهاية غيبية غير متوقعة عبر استخدام التواءةٍ واهية في الحبكة، كأن يعود بطل مقتول إلى الحياة بطريقة إعجازية، أو يموت جميع الغزاة الفضائيون فجأة.

إن هذه هي إخفاقات الكتّاب الكسالى الذين لا يكلّفون أنفسهم عناء وضع خطة للسيناريو قبل أن يبدأوا. إذ يقول أرسطو إن عليك ألا تهين جمهورك بهذه الطريقة، وإلا لن تربح إكليلَ غارٍ في مهرجان ديونيسوس التالي.

  • الخطة والإبهار

من ناحية أخرى، يحب بعضنا أن يعتقد أن إلهامًا سماويًا يهبط علينا من ربات الإلهام عندما نكتب، وأن كل ما نحتاجه هو أن نمسك القلم في يدنا لننتج تحفة أدبية. غير أن أرسطو يقول إن هذه فكرة حمقاء.

فالكتابة عمل صعب، والكتابة الجيدة تتطلب وجود خطة تفصيلية، شأنها شأن أي عمل منجز جيدًا:
سواء أكان يبني على قصة سابقة، أو يبتدع قصة جديدة، على الكاتب أن يضع أولًا مخططًا للهيكل العام للقصة، ثم يبدأ بإضافة الأحداث والتفاصيل.

الدرس الآخر الذي يعلمنا إياه أرسطو، والذي يتجاهله كثيرٌ من صنّاع الأفلام، هو أن الإبهار يجب أن يكون دائمًا شيئًا ثانويًا بالنسبة إلى الأحداث. كان الإبهار عند اليونانيين القدماء يعني خشبةً مع الكثير من الإكسسوارات والديكورات.

لكن هذا يصحّ بالقدر ذاته على الأفلام. وسواء أكانت طاقم تمثيل بالآلاف، كما في فيلم ستانلي كوبريك الكلاسيكي “سبارتاكوس” (1960)، أو الغرافيك الرقمي الأكثر حداثة في الأفلام المعاصرة، من المفترض بالأبهة المستفيضة والمؤثرات الخاصة أن تكون في خدمة القصة.

إن سلسلة معارك أسطورية ومجموعة سيارات تتحطم لا تستطيع أن تعوّض عن وجود حبكة ضعيفة، بل إنها في الحقيقة تشكّل إلهاءً مُنهكًا عندما تكون القصة ناقصة (ونعم أنا أتحدث عنكِ أيتها الثلاثية الثانية من “حرب النجوم”).

وحتى المعجبون الأكثر حماسة سيملّون من فيلم مليء بالمُلهيات، ومن غير مضمون. لا يعني هذا بالطبع أن وجود المؤثرات الخاصة فكرة سيئة في الأفلام، بل على العكس.

إذ يمكن أن يكون لديك في الآن ذاته أحداث قوية وصور مذهلة منتَجة بالكمبيوتر، كما في أفلام مثل “المنتقمون: نهاية اللعبة” (2019)، لكن الصنّاع في مارفل كانوا أذكياء كفاية ليجعلوا الإبهار دومًا في خدمة القصة.

سؤال آخر يمكن طرحه هنا: كم ينبغي أن يكون طول الفيلم، أو العمل التلفزيوني؟ يستخدم أرسطو تشبيهًا رائعًا للحديث عن الطول الملائم للقصة.

فبالاستناد إلى خبرته كعالم أحياء، يقول أرسطو إن مشاهدة قصة تتكشّف يشبه النظر إلى حيوان. على جمهورك أن يكون قادرًا على رؤية الشيء كلّه دفعة واحدة ليتمكن من تقديره.

فإذا كانت الحبكة مثل حيوان بحرٍ عملاق، لن يقدر جمهورك على الاحتفاظ به كله دفعة واحدة في عين عقله، وبالتالي سيفقد الاهتمام به. وإذا كانت صغيرة للغاية، مثل حيوان صغير من القشاريات على شاطئ بحر إيجه، فلن تلفت انتباه أي أحد. بالتالي، يفضّل أرسطو قصةً ممتدةً عند الإمكان:

إن الحبكة الأكثر طولًا هي عادة أفضل وأجمل، شريطة أن لا يزال في الإمكان الاحتفاظ بها في الذاكرة دفعة واحدة. التعريف البسيط للطول الملائم للقصة هو هذا: أن تكون طويلة بما يكفي لتتيح تغييرًا في الحظ من جيد إلى سيء، أو من سيء إلى جيد، بالتوافق مع ما هو معقول، أو ضروري.

لكنْ، ثمة سببٌ بالطبع لوجود جائزة أوسكار للأفلام القصيرة. وكما كان أرسطو ليحبذ بالتأكيد، تستطيع بيكسار، واستوديوهات أخرى موهوبة، أن تصنع قصصًا مدهشة ومكتملة لا تدوم لأكثر من خمس دقائق.

بالتالي، ما يهم ليس طول الفيلم، بل التمعن الذي يتم فيه استخدام الوقت. هكذا عليك ككاتب أن تجد الطول السحري الذي يمنحك ما يكفي من الصفحات لتطوير الحبكة كما يجب، على ألا يكون طويلًا جدًا لدرجة تُضجِر مشاهديك.

  • الشخصية

أما القاعدة الأكثر إثارة للجدل التي يقدمها أرسطو في “فن الشعر” فهي أن الشخصية ثانوية مقارنةً بالحبكة:

الحبكة هي المبدأ الأول، وهي، إذا صحّ القول، روح التراجيديا. أما الشخصيات فتأتي في المرتبة الثانية. ينطبق الشيء ذاته تقريبًا على الرسم. فإذا كان للفنان أن يغطّي سطحًا ما بأجود الألوان وأجملها على نحو عشوائي، فستكون متعة المشاهد أقل مما هي عليه مع وجود مخطط بسيط لموضوع ما.

على هذا، قد يقول بعض النقاد الحديثون إن أرسطو لا يعتقد أن الشخصيات هامة، لكن هذه قراءة خاطئة للنص. فأرسطو، في الحقيقة، يؤمن إيمانًا عميقًا بالشخصيات الغنية المبنية جيدًا التي تقطن القصة، لكنه يقول إن على الشخصيات أن تخدم الأحداث دومًا، وليس العكس. وهذا صحيح فعلًا.

غير أن بعض الكتاب والمخرجين الموهوبين جدًا يظنون أن أرسطو ببساطة مخطئ حول هذه القاعدة، وأن خلق الشخصيات هو كل شيء في القصة. أما أنا فأعتقد أن أرسطو على حق. فكّرْ للحظة بأفضل الأفلام التي شاهدتَها، ولاحظ فيما إذا كانت في آخر الأمر موجَّهةً بالحبكة، أو بالشخصيات.

على سبيل المثال، يحتوي فيلم “المشتبه بهم المعتادون” (1995) بعضًا من أكثر شخصيات الأفلام التي شاهدتُها جاذبيةً، لكن هذه الشخصيات هي في النهاية في خدمة حبكة الفيلم. والأمر ذاته ينطبق على أفلام “كازابلانكا” (1942)، و”الفهد الأسود” (2018)، أو “ثيلما ولويز” (1991).

مع هذا، أقرّ بأن الشخصيات قد تكون فعلًا أكثر أهمية من الأحداث في أفلام كوميدية عظيمة، مثل “شيء مضحكٌ حدث في الطريق إلى المحكمة” (1996)، أو “ليباوسكي الكبير” (1998). لكن، بما أن النصف الثاني من “فن الشعر” مفقود، وهو الجزء الذي يتناول الكوميديا، لا نعرف إن كان أرسطو ليعتقد ذلك أيضًا.

غير أن أرسطو، ولمجرد أنه يعتقد أن الحبكة في آخر الأمر أكثر أهمية من الشخصيات، لا يقول إن الممثلين في قصتك ليسوا بذوي أهمية. وأحد الملاحظات البسيطة إنما العميقة التي يقدمها أرسطو هي أنه ينبغي على أي كاتب يريد أن يحوز على اهتمام الجمهور أن يجعل القصة تتمركز حول الصراع بين الشخصيات.

فحتى لو كانت حبكة فيلمك مبنية على إنقاذ الأرض من مذنب شارد، تبقى النزاعات بين الشخصيات هي أكثر ما يهم. لماذا الصراع؟ لأن قصة يكون فيها الجميع منسجمين على نحو حسن هي قصة مضجرة للغاية.

لكن، من يجب أن يكون في حالة صراع؟ يمكن أن يكون لديك قصة بسيطة عن أميرة تحارب وغدًا شريرًا وتنتصر، لكن هذه حبكة فيلمِ أطفالٍ ترفيهيّ. فإذا أردت لقصتك أن تروق للكبار، اجعل الصراع في العلاقات التي يعرف الجميع أنها مشحونة بالدراما أكثر من غيرها:

المعاناة التي تحدث بين من تجمعهم علاقة قريبة هي الأفضل، سواء أكان أخًا ضد أخ، ابنًا ضد أب، أمًا ضد ابن، أو ابنًا ضد أم.

مع هذا، لا حاجة لأن تكون قصتك كئيبةً، مثل “ثلاثية أوريستيا” التي كتبها المسرحي من اليونان القديمة إسخيلوس، والتي يقتل فيها أفراد عائلةٍ واحدهم الآخر حرفيًا، وفي كل مناسبة.

لكن لا شيء يثير القلق ونقدر على الارتباط به أكثر من عراك بين أشخاص يحبون واحدهم الآخر (جميعنا مررنا بنوع من عشاء عيد الشكر ذاك). آباء وأمهات وأطفال، أزواج وزوجات، أصدقاء حميمون؛ إن الصراعات بين هذه الشخصيات هي الصراعات التي ستمزق قلبك حزنًا، وتجعلك تواقًا لمعرفة نهاية القصة.

علاوة على ذلك، يتناول أرسطو نقطة أخرى أساسية في ما يخص الشخصيات التراجيدية، وهي الكيفية التي يجب أن تتقدم بها عمومًا في منحنى الحبكة الدرامية.

يقول أرسطو إنه من الضروري للشخصية أن تتغير من بداية القصة إلى نهايتها؛ وأنك إذا أردت أن تحقق أقصى قدر من التأثير على الجمهور، يجب عليك ككاتب أن تضع ذلك التغيير كهدف لك.

لكن ثمة أنواع مختلفة ممكنة من التغيير بحسب الطبيعة الجوهرية للشخصية. فعلًا، ما من شخصية في قصة يجب أن تكون ثنائية البعد، وتكتَب على أنها شخصية جيدة، أو سيئة ببساطة، إلا أن الشخصيات عادة تميل لأن تنتمي إلى هذه الفئة، أو تلك. بالتالي، يحدّد أرسطو، كونه سيد المنطق، بعض احتمالات تغيّر الشخصية على مدار القصة.

ويقول إنه يمكن أن يكون لديك شخص سيء يعاني من عاقبة سيئة، لكن هذا ليس مثيرًا للاهتمام لأي شخص يتجاوز عمره الخمس سنوات. ويمكن أن يكون لديك شخص جيد بكل معنى الكلمة، ويعاني من نهاية مروعة.

لكن هذا سيترك الجمهور شاعرين بالصدمة والنفور، بدلًا من الشفقة والخوف. كذلك، إذا كان لديك شخص سيء فعلًا وينتصر في نهاية قصتك، سيرمي المشاهدون الفُشار على الشاشة، ولن يقوم أحد بتوظيفك مرة أخرى.

ما يتبقى هو نوع تغيّر الشخصية الذي يقول أرسطو إنه أكثر ما يجدي:
يتبقى لدينا، إذًا، أفضل شخصية تراجيدية، وهي لشخص بين بين؛ أيّ شخصٍ ليس شريرًا جدًا، وليس مثالًا ساطعًا عن الفضيلة. يتعرض هذا الشخص للسقوط ليس من خلال رذيلة، أو شرٍّ عظيم، إنما بسبب خطأ ما، أو ضعف.

بكلمات أخرى، إن أفضل دراما هي التي تتناول شخصًا مثلك أو مثلي ـ أو على الأقل كيف يحب معظمنا أن ينظر إلى نفسه ـ شخصًا غير كامل، إنما محترم في أساسه، يدفع ضرائبه، يحب الجراء، وسيقدم المساعدة بسرور لصديق في حاجة إليها.

لكن، لهذه الشخصية عيب سري، مثلما قد يكون لأي واحد منا؛ عيبٌ يجعلها لا تبلغ غايتها في الحياة، وتنتهي نهاية تراجيدية.

وليس بالضرورة أن يكون العيب مُهلكًا، مثل غطرسة أوديب التي جعلته، من دون أن يعلم، يقتل والده، ويقيم علاقة مع والدته، إنما يجب أن يكون العيب سيئًا بما يكفي ليقود الشخصية إلى القيام بخيارات سيئة للغاية، سواء أكان ذلك بسبب الغضب، أو الإدمان، أو حتى قصة حب لا تجري كما يجب.

  • لا تستخدم السرد ما لم تكن مضطرًا.. 

“أظهرْ، لا تروِ”. هي قاعدة أساسية أخرى في صفوف الكتابة الإبداعية، وتعود مباشرة إلى أرسطو. وهي تعني: لا تستخدم السرد ما لم تكن مضطرًا فعلًا لذلك. النموذج الذي يستخدمه أرسطو في هذا، كما كثير غيره في “فن الشعر”، هو كاتب الملحمة اليوناني الأقدم والأعظم:

يستحق هوميروس إشادة أكثر من غيره من الشعراء لأسباب كثيرة، لكنْ، في المقام الأول، لأنه يعرف متى لا يستخدم صوته. على القاص أن يقول أقل ما يمكن كراوٍ، طالما هي ليست محاكاة.

إن بعض المؤلفين الآخرين يقحمون أصواتهم في قصصهم طوال الوقت، ولا يستخدمون المحاكاة إلا نادرًا، إن استخدموها قط. أما هوميروس، فبعد أن يتحدث بمقدمة مختصرة للغاية، يتراجع، ويجلب رجلًا، امرأة، أو شخصية أخرى مثيرة للاهتمام، ليتولوا سرد الحكاية.

قد يجدي سرد الأحداث نفعًا في أفضل الأفلام ـ خذ مثلًا “القيامة الآن” (1979)، أو “وأمك أيضًا” (2001) ـ لكن من الصعب جدًا القيام به بشكل صحيح. فما لم يكن لديك طريقة إصغاء استثنائية للقصة، ابقَ خارجها، ودعْ شخصياتك تتولى الحدث.

غني عن القول أيضًا، أنك ككاتب، يجب أن تمتلك مخيلة. لكنّ أرسطو يضيف أنك لا يجب أن تتكلف عناء التقاط قلمك، وورق البردي، ما لم يكن لديك القدرة على أن تتخيل القصة في رأسك، وتشعر في روحك بما تختبره الشخصيات:

الكتّاب الأكثر نجاحًا هم الذين يكونون بطبيعتهم قادرين على التماهي مع شخصياتهم، والذين تستحوذ عليهم مشاعر تلك الشخصيات. إن الغضب الأصدق، أو الحزن الأصدق، يتمكن من إيصاله مؤلفون يشعرون حقًا بالغضب أو الحزن في أرواحهم. بالتالي، أفضل الكتّاب هم الذين يكونون إما موهوبين للغاية، أو مجانين.

وأخيرًا، حتى الكتّاب المضطربون يجب أن يحكموا سيطرتهم على المنطق والتفكير العقلاني في كتابتهم. فإن أرسطو لا يحتمل القصص التي تحتوي على عناصر لامنطقية:

قدر المستطاع، يجب ألا تتضمن القصص أي أجزاء غير قابلة للتصديق… التذرع بأن حبكة سوف تُخرَّب من دون وجود عناصر غير قابلة للتصديق هو تذرع سخيف، لأنه ما من سبب لتحتوي مثل تلك العناصر في المقام الأول. فإذا أدرج الكاتب بعض العناصر اللامنطقية، وكان هنالك بديل معقول متوفر، فهذا لا يُغتَفر.

من السهل التفكير بعروض جيدة تخفق أحيانًا في ما يخص هذه النقطة ـ على سبيل المثال، حرق دنيرس لمدينة “كينغز لاندينغ” في المسلسل التلفزيوني “صراع العروش” (أو، في هذا الخصوص، عندما يصبح بران ملك ويستروس) ـ لكن ربما يكون لديك قائمة التفضيلات الخاصة بك.

ثمة دروس أخرى كثيرة يمكن أن يعلّمها أرسطو للكتّاب الحديثين، لكن يمكنك اكتشافها بنفسك بينما تستغرق في قراءة “فن الشعر”.

إن قواعد أرسطو خالدةٌ للسبب البسيط ذاته الذي يجعل حبنا للقصص التي تُروى جيدًا حبًا لا يتغير عبر العصور. لقد أجدتْ هذه القواعد نفعًا مع هوميروس وسوفوكليس، وسوف تجدي نفعًا معك أيضًا.

فيليب فريمان: أستاذ في الكلاسيكيات والعلوم الإنسانية في جامعة بيبرداين، كاليفورنيا. له أكثر من واحد وعشرين كتابًا، آخرها: “هانيبال: عدو روما الأكبر” (2022)، و”كيف تروي قصة” (2022).

 النص الأصلي

ضفة ثالثة

فيليب فريمان

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى