قراءة موجزة في نتاجات الفيلسوف “ميشيل فوكو”
اعتُبر فوكو متطرفا، نظرا لدفاعه عن الأقليات والمهمشين. هاجمه المؤرخون، لأنه يوظف الفلسفة كثيرا، والفلاسفة وجدوا في خطابه تضمينا مفرطا للتاريخ. تعرض لسيوف النقد، بسبب مساندته للثورة الإسلامية الإيرانية سنة 1979.
سخر منه دوغماطيقيون أخلاقيون، بعد أن رأوا فيه مجرد مجرم، تسبب في نقل عدوى مرض فقدان المناعة أو السيدا. مع ذلك، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على رحيله، يظل فوكو مفكر النصف الثاني من القرن العشرين، الأكثر حضورا ومتابعة في العالم سواء عند المهتمين بالدراسات الثقافية وأنصار الليبرالية، والماركسيين الجدد وكذا منظري الأدب والفن وتاريخ العلوم. بالتالي، قراءة واحدة، ستبقى عاجزة عن استنفاذ غنى هذا المشروع.
فوكو، قريب من اليسار الثاني، لذلك ترك إرثا مفهوميا ضخما، يسمح بمقاربة كونية جديدة للجنس والجنون والطب وعلم النفس المرضي والفلسفة، بل والمعارف الكبرى القائمة : علم، اقتصاد، سياسة وقانون. لقد مات قبل الأوان، قبل سبره أغوار كل التيمات التي شكلت هاجسا له.
إذن، تجميع نصوصه وحواراته (أقوال وكتابات، غاليمار 1994) وكذا توضيب الدروس التي ألقاها في “كوليج دوفرانس” بين سنوات 1970 و 1984، إلى جانب أعماله الكلاسيكية المصاغة بطريقة مبهرة، كل ذلك أضفى على هذا الفكر، مزيدا من السحر : نعثر بين طياته على مزيج من صيغ فكر، دائم التفاعل.
سنة 1970/1971، ألقى فوكو أول درس له ب “كوليج دوفراس سلسلة تمحورت حول إرادة المعرفة محاولا أن يظهر عبر تعليقه على أهم النصوص اليونانية القديمة (هيزيود، أرسطو، هوميروس، سوفوكل، السوفسطائيون) والتي شرحها كانط وسبينوزا ونيتشه، كيف تنتج كل حقبة خطابات تبتغي الفصل بين الصحيح والخطأ، العادل والجائر، الطاهر والملوث.
باختصار يتعلق الأمر لديه، أن يوضح كيف تتأسس تعبيرات انتهاكية، وراء تجليات نظام الكلمات والأشياء : اختلالات، قطائع وتصدعات. حيث تتجابه باستمرار، أنماط معرفية متعددة. إرادة الهيمنة مقابل ابتغاء الحقيقة: سلطة ملكية عليا لدى طرف، يوازيه من جهة أخرى، اختلاف ينشأ من رفض لكل وحدة عند الطرف الثاني.
في إطار هذه الدروس، كرس فوكو فصلا كاملا لمسرحية : أوديب الملك. التي تعكس بحسبه، وبطريقة رمزية، لحظة مجابهة أصيلة في الفكر الغربي، بين كل أنماط المعرفة. سيعطي، ست روايات مختلفة لهذا التفسير، بعد ندوة 12 مارس 1971.
لكي يتجنب تحقق نبوءة “أبولون”، الذي أخبره عن مصير قتله من طرف ابنه، فإن “لايوس”، زوج “جوكاست” المنحدر من عائلة “لابداكوس”، أسرع بتسليم مولوده الجديد إلى خادم، بعد ثقب رجليه. بيد أن الأخير، عوض حمله إلى قمة جبل « Cithéron » سيعهد به إلى راع سلمه بدوره إلى “بوليب”، ملك “كورنثة”، الذي كان في حاجة إلى أطفال.
عندما بلغ أوديب سن الشباب، رحل إلى مدينة “ثيبس”، معتقدا بأنه قد تخلص من قدره. لكنه في الطريق، تصادف أن التقى ب “لايوس”، ونتيجة حدوث شجار بينهما، سيقتله أوديب، الذي استطاع بعد ذلك حل لغز التنين “سفنكس” ثم تزوج ب “جوكاست” التي لم يحبها أو يشتهيها، وأنجبت منه أربعة أطفال.
حينما اجتاح الطاعون المدينة، سيقوده تحريه إلى أن يكتشف الحقيقة التي يدرك سرها الكاهن الأعمى”ترزياس”.
مبعوث من الخادم السابق، أخبره بوفاة “بوليب”، وحكى أيضا كيف حصل عليه، من أيادي الراعي. لذلك، شنقت “جوكاست” نفسها، وأوديب فقأ عينيه.
بالنسبة للإغريق، أوديب بطل تراجيدي. أصابه الغلو، حينما اعتقد نفسه قويا بمعرفته وحكمته، مما جعله عاجزا عن اكتشاف شخص آخر غير ذاته. إنزلاق، سيؤدي إلى الإخلال بنظام الأجيال. إنه مضطرب، فهو ابن وزوج أمه، أب أطفاله وأخ لهم، ثم قاتل لوالده.
حينما وقف فرويد على هذه القضية سنة 1896، حول الدلالة الإغريقية للتراجيدية كي يجعل من أوديب بطلا متهما، باشتهاء لا واعي لأمه حد الرغبة في قتل أبيه، فربط بذلك التحليل النفسي بقدر العائلة البورجوازية الحديثة : خلع الأب من طرف الأبناء ثم الرغبة في الالتحام بالأم باعتبارها صيغة أولى لمختلف الارتباطات الوجدانية.
يقر فوكو، عبر انتقاده لهذه التأويل الفرويدي المغاير، بأن التراجيدية الأوديبية تموضع تصادما بين أنماط معرفية مختلفة : الإجراء القضائي للاستقصاء، قاعدة التنجيم، سيادة انتهاكية، معرفة بالفئات الدنيا (المبعوث، الراعي) ثم معرفة حقيقية بالغيبي.
واستنتج من ذلك، خلاصة مفادها، أن الأمر يتعلق بخطاطة جوهرية : كل معرفة موحِّدة قد تهاجم بعنف من لدن معرفة الشعب وكذا الحكيم (ترزياس).
حينما، أضحى أوديب ملوثا أضاع معرفة الحقيقة، واستحال عليه بالتالي ممارسة الحكم. يقول فوكو : ((لا يخبرنا أوديب عن حقيقة غرائزنا ورغبتنا، بل نظام من الإكراهات يخضع لها خطاب الحقيقة في المجتمعات الغربية منذ العهد الإغريقي)).
نرى هنا، بأية طريقة يعارض فوكو خطاب التحليل النفسي، وقد اعتبره لحظة تأسيسية لمعرفة جديدة بالإنسان.
لذلك، سنة 1976، في عمله : [La volonté du savoir]، الجزء الأول من تاريخ الجنسانية، جعل من فرويد “أوديبا” بشكل من الأشكال، أعاد صياغة القوة الرمزية لسلطة مفقودة (قانون الأب)، لكنه واجه الصعود القوي لصور ثلاث متمردة : المرأة الهستيرية والطفل المستمني واللوطي. آلية للتفكير، في أسس تاريخ التحليل النفسي.
مع ذلك خلف المجابهة، وهذا التأويل الرائع لأوديب، يكمن المفهوم السياسي عند فوكو. بعيدا عن كل نزعة لا إنسانية مفهوم كان يرعبه جعل من الصلة بين معرفة الحكيم و المجتمع المدني، شرطا لانبثاق خطاب ديمقراطي حقيقي قادر على إسقاط السلط البدائية.
في هذا السياق، يندرج سعي الباحث دانيل ديفير Daniel Defert، الذي توخى تجميع دروس فوكو وتقديمها بالرجوع إلى مسودات، ثم البيبليوغرافيا وكذا الفهارس مفهوم إغريقي جعلنا نستعيد معه بشكل جميل ورائع خطاب فوكو،
بحيث نحس كأننا نستمع إلى صوت الفيلسوف الرنان أثناء كلامه إلى حشد من مستمعيه، دون أدنى أثر للخطابة، واضعا أحيانا وجهه بين يديه.
- II إصدار ونشر، دروس ميشيل فوكو في كوليج دوفرانس :
باستثناء سنة 1977، دأب فوكو على المحاضرة في كوليج دوفرانس خلال الفترة الممتدة من دجنبر 1970 إلى يونيو 1984 ضمن برنامج كرسي، وضع له خصيصا تحت عنوان : [تاريخ أنظمة التفكير].
لقد عبر عن رفضه، إخراج أي عمل له بعد وفاته، لكن ورثته وأمام إلحاح الجمهور وتجنبا لكل قرصنة، قرروا إعداد نسخة، بناء على مسودات وتسجيلات متوفرة وبيبليوغرافيا وعرض وتقديم وثائق إضافية.
مع تفويض مسؤولية كل جزء إلى كتّاب مختلفين، من بينهم : دانييل ديفير Daniel Defert، أليساندرو فونتانا Alessandro Fontana، مورو بيرتاني Mauro Bertani، فريديريك غرو Frédéric Gros، جاك لاغرانج Jacques lagrange وميشيل سنيلارMichel Senellart.
منذ 1997، صدرت تسعة أعداد في إطار مجموع سيصل إلى ثلاثة عشر. الأربعة الأخرى، في طور التهيء : نظريات ومؤسسات جنائية. حكم الأحياء. الذاتية والحقيقة…، مما يدل على أن مختلف مراحل المشروع، ينبغي أن تكتمل سنة 2016، وهو بالمناسبة عمل ناجح.
الأمر، يعود إلى شخصية “دانييل ديفير” رفيق فوكو والوصي على مخطوطاته. هكذا، وبدعم من عائلة الفيلسوف، انصب اهتمامه على توجيه عمل جماعي بل وإنشاء “مركز للأبحاث” تابع لخزانة سولشوار Saulchoir سيعود مصدر تمويله إلى ما تدره حقوق المؤلف، التي وفرتها العائلة.
وأخيرا، تقييم الأرشيفات بتعاون مع “معهد ذاكرة الإصدار المعاصر” (IMEC)، كي تصبح في متناول الباحثين من العالم قاطبة. لقد، طعن فوكو في مفهوم المؤلف : صاحب وصيته “دانييل ديفير” تشبث بوفائه لفكر الفيلسوف، لكنه مقابل ذلك، لم يلتزم برغبة فوكو الذي تمنى عدم الإعلان عن كتاباته بعد وفاته.
- III حوار مع “دانييل ديفير” رفيق فوكو، حول حيثيات إصدار دروس كوليج دوفرانس :
شغل دانييل ديفير، منصب أستاذ محاضر بجامعة باريس 8، وأسس سنة 1984 أول جمعية فرنسية لمحاربة السيدا : رفيق فوكو، يشرف على تقديم دروسه إلى القارئ.
- 1 ما دواعي الاشتغال على نصوص فوكو، مع العلم أنه بقي متحفظا جدا ضد مبدأ نشر وطبع أعماله بعد وفاته ؟
ردد فوكو باستمرار، أنه لا يريد مصير كافكا، فرفض إصدار أعمال له بعد وفاته. غير، أن الأمر لا يتعلق هنا بمسودات غير تامة. هي، دروس، استجاب فوكو دائما لتوثيقها. لقد، انطلقنا من مؤشر مفاده أن ما كان عموميا ليس إجهازا على نصوص بعد وفاة صاحبها، بالمعنى الدقيق للسياق.
التباس، لم أناقشه قط مع فوكو. لكن، حينما، بدأ ظهور طبعات منتحلة، كان لازما أن نتدخل. نسخة إيطالية، تضمنت أخطاء، وأخرى أعلن عنها في البرازيل، وثالثة جاءت من هونغ كونغ.
منذ البداية، نكتشف عدم احترام النظام الكرونولوجي لهاته الدروس. حقا، تنقصنا جميع التسجيلات ونرفض الاستناد على تدوينات مستمعيه : ارتاب فوكو جدا في ذلك.
- 2 الدرس الذي ظهر حاليا، يعتبر أول دروس فوكو في كوليج دوفرانس : على الرغم من الشفاهية، بدت دقة الفكر مدهشة ؟
الشفاهي، مجال للتصحيحات اللحظية، لكن فوكو كتب كل دروسه، وإن بشكل أقل في آخر حياته، حين اكتسب نوعا من التمرن … ، وتأتت له الفورية بين الشفاهي والكتابي.
مع ذلك، أسلوب هذا الدرس مختلف شيئا ما، لأنه أول إطلالة له في كوليج دوفرانس، وبالتالي سكن فوكو هاجس توجهه بالخطاب إلى متخصصين مما يفسر الكم الهائل من المراجع التي احتوى عليها النص، أو أيضا الصيغ الإغريقية المتعددة.
لكن منذ الوهلة الأولى، لاحظنا تقاطر جمهور متنوع، مما حتم تجهيز قاعتين وتزويدهما بمكبرات صوتية ! تميز فوكو بثقافة واسعة، افترض تقاسمها. يوظف استشهادات من ذاكرته، جعله مضطرا كل مرة التحقق منها، لأنه يترجمها ثانية بنفسه.
أحيانا يتركب أخطاء صغيرة، ويخلّ قليلا. لذلك حاولنا، الوقوف من جديد على جميع الاستشهادات والإحالات. لحسن الحظ، عثرت على عدد كبير من تعليقاته أثناء القراءة وهو ما أعطاني إمكانية إعادة تأسيس بيبليوغرافيا، ولو جزئية، فهذا يساعد على إدراك المعطى بشكل واضح.
- 3 كيف تنظرون إلى تطور هذه الدروس ؟
يصعب الحديث بهذا الخصوص. فقد وجدنا دائما عند فوكو، اهتماما بالراهن والقائم. إذا تكلم عن اليونان القديمة، فالأمر يشير عنده إلى الوضع السياسي السائد سنوات 1970. مثلا، انطلاقا من سنوات 1977-1978، بدأ يتكلم عن النيوليبرالية لأنها صارت آنذاك رهانا.
خلال الأعوام الأولى تطرق خاصة، لمادية اللغة والخطاب. مع ذلك، نتبيّن اختلافا حقيقيا بين دروس فوكو في كوليج دوفرانس، ومحاضراته خارج فرنسا التي كانت بامتياز نقاشا مع كتّاب ساجلهم فوكو. داخل الكوليج، تبنى نوعا من الموضوعية التاريخية، ربما توخى تجنب السجال، مع أنه رجل بوليميكي.
- 4 كيف تفسرون خصوبة فوكو في الوقت الحاضر ؟
مشيل فوكو، يفكر ويبحث. الميادين التي سبر أغوارها، كانت موضوع تأويل عند إيديولوجيات نزاعية ومتناقضة، هذا ما يفسر استثماره من قبل هذا الفريق أو ذاك : لقد أرسى دعائم لعبة مفهومية، تنبثق عنها استراتيجيات عديدة، تبقى قابلة للنقاش.
مع ذلك، نوعية الموقف، لا تعني بأن فوكو اتصف بالتردد والتأرجح أو افتقد لرأي ثابت. بل، حاول فقط أن يعرف.
- 5 لماذا أضفتم إلى آخر نص “معرفة أوديب” المحاضرة التي ألقاها فوكو في الولايات المتحدة الأمريكية ؟
تتموقع هذه المحاضرة ضمن استمرارية درسه الأخير، وتحدد لحظة لقاء دولوز فوكو الأكثر زخما. لا أدري، إذا تناقش في هذا الإطار مع دولوز لحظة كتابتها، لكن تجلي “أوديب” يعود إلى قراءته كتاب دولوز : Différence et répétition (PUF.1968).
إنها محاضرة مهمة، استعادها لمرات عديدة. أعتقد، حينما نتأملها سنجدها تمثل إحدى مداخل، دروس فوكو الأولى بكوليج دوفرانس، وأنه ينبغي بالتأكيد الاطلاع أولا على نص “معرفة أوديب”. لذا، في الوقت التي نهيئ غلاف الجزء الرابع، أحلم بتوجيه القارئ، كي يبدأ هذا الكتاب من الأخير.
- IV النقد السياسي عند ميشيل فوكو :
ينطلق هذا التأويل، من إقرار مفاده : يواصل فوكو جذب انتباه قسم من اليسار الفكري. البعض، وجد عنده منظورات ثورية بغية رفض التوافق حول الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية.
لكن، بالنسبة ل “جوزي لوي مورينو بيستانا”، باحث ينتمي لمدرسة “بيير بورديو” الاجتماعية، فقد حان الوقت لأخذ مسافة، والتساؤل إن كان فوكو يعني كثيرا، عند الذين يتوخون إقامة مجتمع أكثر عدلا ومساواة.
بالرغم من حياد معلن، ونقط جيدة تمنح هنا أو هناك، فإن جوابه : لا، ليس كل سجل فوكو إيجابي. الصعب، مساره الملتوي يجسد ترميزا للتحول الذي قاده من رفض الشيوعية إلى أصول الليبرالية الجديدة. ونظرا ل “كبريائه” كفيلسوف، فقد ارتاب كثيرا في علمية العلوم الاجتماعية والسوسيولوجيا ولم يتأمل بما يكفي بيير بورديو.
طبعا، هذا النقد الجذري، لم يكتب بالأسلوب الهجائي، كما انطوى عليه مؤخرا كتاب “جان مارك ماندوزيو” : [Longévité d’une imposture (2010)] والذي قوّض ما اصطلح عليه، سابقا ب : « Foucaultphiles » و « Foucaulâtres ».
لكنه افتقد للرصانة النقدية، مثلما تميزت به أطروحة “جوزي غيليرم” التي جاءت تحت عنوان : [Foucault ou le nihilisme de la chaire] (PUF, 1986). لقد غابت هاتان الإشارتان، عن البيبليوغرافيا.
لذلك، فالمقاربة الوحيدة التي تميزت بجديتها، تعود للسوسيولوجي “بيستانا” Pestana الذي سعى إلى موضعة مسار فوكو، عائليا ومهنيا وسياسيا، حينما انصب تحليله على تمرحلاته المتعاقبة حسب تغيرات السياق التاريخي.
دون أن يظهر تصوره بقوة، يقدم لنا الباحث نموذجا عن فوكو موهوب جدا، على مستوى مهنيته الأكاديمية والسياسية. ويشير، بأن الفيلسوف كان “متقلبا”، انتقل من الشيوعية إلى اهتمام منصب على الديغولية، ثم الامتثال إلى الحركة اليسارية لما بعد 1968.
بعد ذلك، شكل مع “فلاسفة جدد” نزوعا مناهضا للتوتاليتارية. وأخيرا استسلم لإغراءات الفكر النيوليبرالي، من خلال دفاعه عن التنافس المقاولاتي.
ميشيل فوكو، وريث لنيتشه، له حساسية ما اتجاه تقدمية الأنوار والماركسية، منجذب نحو هوامش المجتمع، لكنه سيكرس انتباها أقلّ، للطبقات الاجتماعية الشعبية.
مع الشيوعية، اتجهت أهدافه إلى الاشتراكية وكذا الدولة الراعية. غير، أن مفتاح اختيارات فوكو، ينبغي التنقيب عنها داخل وضعيته الطبقية، باعتباره بورجوازيا وابن طبيب جراح، وكذا استحضار طريقة حياته كمؤمن بالمثلية الجنسية.
يستخلص “بيستانا”، ربما كان لفوكو الفضل في إظهار بأن السياسة لا تختزل في الدولة. وينبغي أن ترتهن لمفهوم، يربط الديمقراطية بضرورة الحقيقة.
لكن، يبقى من الصعب ((بناء وضع سياسي ما لليسار، مع فوكو المراحل الأولى، أو أيضا المراحل الأخيرة)). إن دراسة، “جوزي لوي مورينوبيستانا”، المعنونة ب “فوكو، اليسار والسياسة”، كانت أحيانا صائبة، ومغالية لحظات ثانية.
لقد، ركزت أساسا على ارتباط فوكو ب “الفلاسفة الجدد” ومناهضة التوتاليتارية. لكن “بيستانا” نسى الالتفات، إلى المقالات المتحمسة والمتينة إشكاليا، المكرّسة من طرف فوكو لظاهرة، لا زالت بالتأكيد لحظتها في معطياتها الأولى: الثورة الإيرانية سنة 1978.
- V مشيل فوكو والسينما :
حينما يحكي “ماتيو ليندون” Mathieu lindon، عن صداقته مع فوكو، فإنه يستعيد شريط زمرة صغيرة من الأصدقاء، دأبت على الالتقاء في الشقة الباريسية للفيلسوف بداية سنوات الثمانينات. وظف الكاتب غالبا، مصطلح “جلسة”كي يعيد رصد تجليات ألفة، انبنت على استهلاك في الآن ذاته، للمخدرات والسينما.
وأثناء تلمسهم خيوط النشوة، يشاهد فوكو صحبة أصدقائه الفيلم الأمريكي « Citizen kane » أو حلقة من حلقات « Marx Brothers ». تجمع، اعترضته أحيانا بعض التعقيدات.
يقول، ليندون : ((فقط، ارتكبنا خطأ، لأننا لم نقم شاشة وخاصة كشّاف النور، وكذا البكرة الأولى، قبل العرض الذي كان في الطرف الآخر من الشقة…، كان موعدا مجنونا، ووضعيتنا لم تهيئنا كثيرا لهذا النوع من التوظيف التقني)).
أن يكون بوسع السينما تقليب الرأس، أو على الأقل يصير بإمكانها خلخلة وجودنا، بل والحث على انبجاس أسئلة تسبب الدّوار، تلك بديهيات ممكنة بالنسبة لفوكو. أيضا، ودون صياغته أبدا، ل ” نظرية” حقيقية حول التجربة الفيلمية، فإن النصوص الني بلورها في هذا السياق، أغنت جدا النقد وكذا ممارسة الفن السابع.
بين صفحات، بحث مقتضب تحت عنوان : [فوكو، يذهب إلى السينما]، تأمل كل من “باتريس مانيغلي” و “دورك زابونيان”، هذا الالتقاء بين منتج المفاهيم والصورة المتحركة. كتب المؤلفان، عملهما المشترك بقلم متين، واضح، ومفعم بالحماسة.
لذا، عندما ننتهي من قراءتهما نحس برغبة في الالتجاء إلى قاعة مظلمة، زادنا فقط، مصباح جيب وأعمال فوكو. مع ذلك، هدف الفيلسوفان الشابان، لا يروم نحو ما نسميه حاليا “السينما الفلسفية”. فأبعد، من النظر إلى السينما كمجرد دعامة، تنقل بموجبها الفلسفة إلى الشاشة.
يتحدثان، في المقابل عن “شريك ونظير وملهم، فيتجلى ما يعنيه حسيا، التفكير بطريقة مختلفة”. يرتكز المجهود هنا إذن، على تحديد : “مراكز التناوب، بل التّماس الكهربائي، الذي قد يوجد بين الإنتاج السينمائي ومؤلفات فوكو” كما، كتب “دورك زابونيان”.
لذلك، اهتم المؤلفان بوظيفة إنتاجات سينمائية، إلى جانب فيلم : [moi, pierre Rivière, ayant égorgé ma mère, ma sœur et mon frère] لصاحبه “روني أليو” (1976)، المستوحى من كتاب لفوكو يحمل نفس العنوان. يطفو إلى السطح أيضا، فيلم « Brouillard » من إخراج “ألان ريزني” (1955)، والشريط السينمائي الألماني « Hitler » الذي أنجزه “هانس يورغان سيبيربرغ” (1977).
لا يتعلق الأمر، كل مرة، بملاحظة أن هذه الحمولة الفيلمية، تعكس أطروحات فوكو حول الجنس والجنون أو السلطة، ولكن إظهار بأنها تصب في نفس القضايا، وتفحصها وفق آلياتها الخاصة.
من بين هذه القضايا الميتافيزيقية أساسا، ركز المؤلفان على علاقتنا بالزمان وطريقتنا في تمييز الماضي عن الحاضر.
باختصار، حول كيفية معايشتنا التاريخ. حسب “باتريس مانيغلي”، يطرح أساسا فكر فوكو وممارسة السينما، قضية وحيدة لا غير، هي : ما معنى الحدث ؟ ينجز كل من جانبه، نفس الخطوة أو بالأحرى نفس الانزياح، قياسا إلى المحددات القائمة.
يشتركان في البحث عن صيرورة تناوبية، مفعمة بالقطائع والانفصال، يتعذر اختزالها إلى زمان تسلسل الأحداث. إنها تمضي، بحثا عن صلة غير أسطورية بالماضي، ستجعل من التاريخ شيئا آخر، أكثر منه معرفة جامدة : إنه أداة نقدية للحاضر.
* مقتطف من مؤلف (Foucault va au cinéma) :
((لم يكتب فوكو قط، كتابا عن السينما، ونادرا ما تكلم عنها. كذلك، نحس من خلال الحوارات النادرة التي نتوفر عليها بهذا الخصوص، حيرة وتحفظا، وأحيانا اعترافا صريحا بعدم الأهلية. لكنه ربما، احتراس وتهيب، نشعر اليوم، بقيمتهما.
لأن طبيعة الموقف، أحالت بين فوكو واهتمامه بالسينما، انطلاقا من وضعية شبيهة بالإطلالة من شرفة، هكذا ستفصح الفلسفة عن معنى السينما، كشيء ضمن أشياء أخرى، تتمدد أمام عين المفهوم السيادية (…).
بالتالي، ستكون قاصرة عن تمثل بعض الحقائق الصلبة والماهوية لفن السينما، (هذه التقنية أو اللغز، حسب تعبير غودار Godar) التي تصير لها أدنى دلالة قصد الاستفسار عن “لقاء” محتمل بين فوكو والسينما. مع ذلك، هو لقاء حدث فعلا)).