فلوريان غوفا – المقاربات العلمية لمشكل الحرية البشرية
من أهداف الفلسفة حسب العديد من الفلاسفة مقارنة الصورتين الظاهرية و العلمية للعالم، يعني تصورنا الساذج و العفوي لأنفسنا وللعالم الذي يحيط بنا مقابل الإدراك الحسي الذي يمنحنا إياه التقصي المجرد، بهدف تحديد كيفية دخول هذه الصور في صراع وكيفية حدوث تصالح بينهما.
فمثلا نحن نميل إلى الاعتقاد بأن الأشياء لها ألوان، بالتالي فالألوان موجودة، لكن ليس من الواضح بأن هذا الاعتقاد يتماشى مع ما تعلمنا إياه البصريات وسيكولوجيا الإدراك.
في قلب الصورة التي يظهر بها العالم وتظهر بها ذواتنا نجد فكرة كوننا “فاعلين”. لا يوجد حسب علمي تعريف متفق عليه لهذه المفردة، لكن يمكن التعبير عن هذا الاعتقاد الاساسي عن طريق اقتران مجموعة من المعطيات: نحن فاعلون لأننا في الغالب مسؤولون أخلاقيا عن تصرفاتنا.
وتنتج هذه المسؤولية عن كوننا أحرارا، أي من منطلق أن لدينا نوعا من التحكم بأفعالنا وربما أيضا بقراراتنا. إضافة الى أن هذه القدرة تميزنا عن الكائنات المادية (الحجر مثلا) وعن باقي الكائنات الحية (الحيوانات).
يعتبر هذا الاعتقاد أساسيا من جوانب كثيرة، أولا كونه يبدو متداولا على نطاق واسع، ثانيا فهو يؤسس لمجموعة من الممارسات والمؤسسات: ممارسات كالتوبيخ و عقاب المتسببين بمشكل ما. هو أيضا مسؤول عن ردود أفعال كالامتنان و التنديد و تأنيب الضمير.
و أخيرا فقد نعتبر هذه القدرة “أساسية” على اعتبار أنها ضرورية لوجود تناغم المجتمعات البشرية: تقول العديد من الدراسات في علم النفس الاجتماعي أن نقص إيمان الشخص بحريته يؤدي إلى نتائج مؤذية تماما كفقدان التحكم بالذات و ارتفاع العدائية.
إلا أن كون هذا الاعتقاد جزءا أساسيا وجوهريا من تصورنا للعالم لا يجعل منه بالضرورة اعتقادا صحيحا. لهاذا فقد تساءل الفلاسفة منذ ظهور النقاشات بين الأبيقوريين والرواقيين ما إذا كنا أحرارا و مسؤولين أخلاقيا عن أفعالنا.
بقي هذا التساؤل مركزا للعديد من النقاشات منذ قرون، لدرجة أنه قد أضحى من بين الأسئلة الفلسفية الأكثر كلاسيكية و غير القابلة للحل.
- وهم الحرية
تأتي أغلب المقاربات “العلمية” الحديثة لمشكل الحرية البشرية من قلب علوم الادراك، و تحديدا من السيكولوجيا وعلم الاعصاب.
مقاربة جديدة لاقت نجاحا كبيرا تلك التي جاء بها الكاتب الامريكي Sam Harris سام هاريس، والذي يزعم في كتيبه المسمى Free will الارادة الحرة أن يبين بأن الحرية مجرد وهم، مستندا في ذلك على آخر مستجدات علم الأعصاب. يمكن تلخيص واحدة من أهم الحجج الواردة في هذا العمل كالتالي:
التمثل الشعبي للحرية يتمركز حول افتراضين: 1 أن كل واحد منا كان سيتصرف بطريقة اخرى عما قام به في الماضي. 2 نحن المصدر الواعي لأغلب أفكارنا وأفعالنا الحالية. لكن وكما سنرى فان هذه الافتراضات خاطئة.
حسب هاريس، يكفي أن نبين أن هذه الافتراضات خاطئة كي نوضح أننا لسنا أحرارا.
لكن ما للذي يجعلنا نفكر في كوننا غير قادرين على التصرف بشكل مختلف في الماضي؟ وبأننا لسنا المصدر الواعي لأفعالنا؟
كالعديد من العلماء المنتقدين لفكرة الحرية (أو حرية التصرف) فان هاريس يأخذ حججه التجريبية من تجارب ليبي. كان Benjamin Libet بينجامين ليبي عالم أعصاب متخصص في فيزيولوجيا الاعصاب لحركات الجسم الارادية.
لقد لاحظ من خلال أبحاثه بأن حركات الجسم الارادية ( تحريك الاصبع مثلا) كانت دائما تسبقها متغيرات كهربائية في الدماغ يمكن قياسها على مستوى فروة الرأس.
أطلق ليبي على هذه التفاعلية الحركية اسم ” قوة الاستعداد” preparation potential و يمكن قياس قوة الاستعداد هذه بواسطة الكترودات موضوعة فوق فروة الرأس. ما جعل ليبي مميزا هو تساؤله الفلسفي التالي: في أي لحظة يتخذ الانسان القرار الواعي بالقيام بالفعل في هذا التسلسل الزمني؟
متى تحدث اذن النية او الرغبة الواعية لفعل شيء ما؟ حسب التصور التقليدي للإرادة الواعية والارادة الحرة فعلينا أن نتوقع أن الارادة الواعية ستظهر أولا او في بداية قوة الاستعداد لتقوم بتسيير الدماغ للقيام بالعمل المراد.
طلب ليبي من مشاركيه القيام بعمل بسيط: الضغط على زر عندما يرغبون بذلك، و أثناء القيام بهذا العمل البسيط، يتوجب على المشاركين النظر الى ساعة تظهر على شاشة حاسوب.
وقد تم توضيح هذا القياس في تجربة رائدة مع مشاركين يتلقون صدمات كهربائية و يتوجب عليهم أن يشيروا الى اللحظة التي يتلقون فيها الصدمة الكهربائية حسب تقديرهم.
تهدف قياسات ليبي الى وضع تسلسل زمني للأحداث التالية: الفعل المحرك ( الضغط على الزر)، قوة الاستعداد الذي تسبق الفعل و النية الواعية للقيام بهذا العمل. النتائج المحصلة تسمح بإنجاز التسلسل الزمني المطلوب كما هو موضح في الصورة:
يمكن قياس قوة الاستعداد ب350 جزء من الثانية قبل الظهور المسجل من طرف المشاركين للنية الواعية. بمعنى اخر فان النية الواعية لا يمكن أن تسبب قوة الاستعداد، بما أنها تحدث لاحقا. يستنتج ليبي اذن أن الدماغ قد انهى برمجة الفعل حين تظهر النية الواعية.
يصبح من الفضولي دراسة النية الفاعلة كمجرد ظاهرة عارضة لا تلعب أي دور في عملية انتاج الفعل… لكن ليس هذا ما قام به ليبي رغم النتائج التي سيتم استغلالها بسرعة و التي سنكتشفها في الفقرة اللاحقة.
يريد ليبي أن يدافع عن فكرة الارادة الحرة (او القرار الحر) لأنه يتبنى بشكل ما رأيا جدليا مفاده أن الروح البشرية لا يمكن اختزالها في الدماغ.
ما يستنتجه ليبي انطلاقا من هذه التجارب هو أن علينا تغيير تصورنا للإرادة الحرة: خلافا لما هو متعارف عليه عموما، فان سلطة الارادة الحرة لا تتمثل في القدرة على الشروع في الفعل، بما أن الدماغ يبدأ ذلك قبل تدخل الارادة الواعية.
بخلاف ذلك تماما، تتمثل سلطة الارادة في الفيتو، أي في قدرتها على كبح الافعال التي مهدها الدماغ.
بكلمات اخرى، يقترح علينا ليبي هذا التصور للتصرف البشري: توجد أسباب دماغية غير واعية تمهد أفعالنا، لكن ارادتنا الواعية لديها دائما امكانية استباق هذه الافعال عن طريق قطع السيرورة التي تبدأ من قوة الاستعداد الى حركة الجسم.
رغم أن تصور ليبي الجديد للوعي يبدوا مدهشا الا أنه لا يوضح فكرة لعب الارادة الواعية دور الفيتو في السيرورات الدماغية. لذلك فقد أهمل العديد من العلماء خلاصات ليبي وركزوا فقط على نتائج تجاربه لوضع الخلاصات التي تبدوا لهم طبيعية أكثر:
لا تلعب الارادة الواعية أي دور في انتاج الافعال و ليس لها عليهم أية سلطة. الارادة الواعية ليست سوى دمية يتحكم الدماغ بخيوطها العصبية.
عالم النفس دانييل فيكنر Daniel Wegner هو بدون شك الباحث الذي دفع هذه الخلاصة المتشائمة الى أبعد حد في كتابه المشهور The Illusion of Conscious Will ” وهم الارادة الواعية.
يدافع فيكنر عن النظرية التي تقول بأن السيرورات اللاواعية تسبب كل أفعالنا و أن الاحساس بكوننا مصدر أفعالنا مجرد وهم.
ويضيف فيكنر أنه وهم مفيد، لأن هذا الاحساس يلعب دورا مهما حين يتعلق الامر بالتعلم من اخطائنا: الارادة الحرة كإحساس بكون الانسان مسؤولا عن أفعاله ليست اذن مجرد ظاهرة عرضية.
يتبين أنه من الصعب الاعتراض على هذه النتائج، لكن من الممكن طبعا انتقاد تأويلاتها و شجب خلط المفاهيم الذي قد تضمه. في المقابل فان بعض المنتقدين يرفضون هذا الحل، فقبول فكرة كون نوايانا الواعية هي نتاج تأثيرات لا واعية لا نتحكم بها تتناقض أساسا مع فكرة الارادة الحرة.
أن نكون أحرارا حسب هؤلاء الفلاسفة يعني أن نكون المصدر الواعي و النهائي لكل أفعالنا: “النهائي” يعني أن قراراتنا و نوايانا ليس لها أي محدد أو مصدر قبلي. من جهة اخرى فهناك من هم أكثر تواضعا يقبلون بأن الحرية ليست الا القدرة على التصرف وفقا لأسباب و حسب ما نظن أنه الاهم.
تسمى هذه التصورات غالبا “توافقية” compatibilst توافقية لأنها ترى بأن الحتمية من جهة و كون قراراتنا ناتجة عن تأثيرات خارجية من جهة اخرى فكرتان متوافقتان مع فكرة الحرية.
يعيب بعض الفلاسفة ك دانييل دنيت على العلماء المعارضين للقرار الحر كونهم يتصدون للفراغ لانهم يستهدفون تصورات تقيد الحرية، بينما توجد أشكال اكثر عقلانية لها. لم يقم هذا بإسكات اعدائهم الذين يعتبرون “التوافقية” دون أية قيمة، فهم لا يرون فيها سوى اختراعا فلسفيا ملائما وخفة يد تهدف الى انقاذ مفهوم القرار الحر.
نظرا لطبيعة استنتاجات ليبي و فكنر وأتباعهما الصادمة و المتشائمة، فقد اعترض العديد على خلاصاتهم، و كانت أول طريقة للاعتراض عليها رفض نتائجهم بذريعة وجود بعض الاخطاء المنهجية في تجاربهم. لكني أعتقد بأنها ليست أفضل وسيلة.
فهؤلاء المعترضون على نتائج ليبي يتناسون بأن الاخطاء التي يتحدثون عنها قد تم تصحيحها عن طريق تجارب تمت بواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي. تتمثل افضل الطرق اذن في انتقاد المغالطات المفهومية العديدة التي تفسد تأويلات هذه النتائج (عوض النتائج نفسها).
في السنوات العشر الاخيرة اجتمع مجموعة من الفلاسفة تحت اسم “الفلاسفة التجريبيون” و قاموا بدراسة فهمنا الساذج لمفاهيم فلسفية رئيسية.
فمثلا و لتحديد ما اذا كان التصور الساذج للحرية يستلزم القدرة على التصرف بطريقة اخرى، فقد طلب هؤلاء الفلاسفة من المشاركين في التجربة ملء مجموعة من الاستمارات من ضمنها هذه:
لنتخيل باننا سنكتشف جميع قوانين الطبيعة و باننا سننشئ حاسوبا خارقا يستطيع ان يستنتج ماذا سيحدث في أي لحظة من المستقبل انطلاقا من هذه القوانين الطبيعية و الوضع الحالي للعالم. يستطيع هذا الحاسوب أن يرى كل ما يقع الان في العالم و يتوقع بنسبة %100 ما للذي سيحدث فيه لاحقا.
لنتصور اذن ان هذا الكمبيوتر موجود فعلا و أنه يسجل وضع العالم في لحظة معينة: ال 25 مارس 2150، أي 20 سنة ا قبل ولادة جيريمي هال. خلص الكمبيوترالى أن جيريمي سيسرق بنك الوفاء في السادسة صباحا يوم 26 من يونيو سنة 2195 .
ما توقعه الحاسوب كان صحيحا و قام جيريمي بسرقة بنك الوفاء يوم 25 مارس 2195 على الساعة السادسة صباحا.
هل تصرف جيريمي بحرية؟
هل يستحق جيريمي اللوم؟
أجاب 76% من المشاركين بأن جيريمي تصرف بحرية و أقر 83 % منهم بأنه يستحق اللوم، مع أنه من الواضح أن جيريمي ليس المصدر النهائي لأفعاله، و هي محددة تماما بأحداث تسبق ولادته، بشكل تصبح فيه أفعاله مترقبة و لا يمكن اعتباره المصدر النهائي لأفعاله.
رغم ذلك يعتقد أغلب المشاركين بأنه تصرف بحرية و بأنه مسؤول عن أفعاله. يظهر اذن بأن كوننا المصدر النهائي لتصرفاتنا ليس ضمن متطلبات الحرية كما يراها أغلب الناس.
من الواضح أن الانتقادات العلمية لفكرة الحرية تنطلق من فكرة أكثر تحديدا مقارنة مع مفهومنا السائد، ليس من الغريب اذن أن نكون مندهشين بالعلماء الذين يزعمون بأن الحرية أسطورة عتيقة، فتصورهم هذا مرتبط أساسا بالفكرة التي كونوها عن الحرية.
بتصرف عن مقال للكاتب فلوريان غوفا في مجلة Implications philosophiques
Florien Gova
باحث في الفلسفة التجريبية، جامعة جينيف. مؤلف كتاب، “ما رأيك ؟ مقدمة في الفلسفة التجريبية”.
Qu’en pensez-vous ? Introduction à la philosophie expérimentale, Germina, 2011
رابط المقال الاصلي: http://www.implications-philosophiques.org/actualite/une/les-approches-scientifiques-du-probleme-de-la-liberte-humaine