يعتبر الفراغ في الفن التشكيلي ميزة مهمّة لم تكن المبحث الأساسي للفنون بل شكّل أيضا المنعرج الأساسي للجدليات الفلسفية المتنوّعة، غير أن الحديث عن المنطق البصري في الفنون لمفاهيم الفراغ له الكثير من المميزات الحسية والفهمية والإبداعية على مستوى الابتكار والتقنية والأسلوب والبحث والتداعي الذي بدوره شكّل منافذ الوهم والعمق ودعامات البناء والهدم والامتلاء والخواء.
وقد شكّل البحث التجريبي عند الفنانين رؤى حرفية عكست المهارة الداخلية في تركيز المفاهيم وهو ما اعتُبر فيه الكثير من الحكمة المفهومية، ولعل التسليط على المرأة في اشتغالها على مفاهيم الفراغ يعتبر انعكاسا مختلفا وانفصالا متصّلا بما تمّ تقديمه في الفن خاصة وأن الحديث عن التجارب النسائية كثيرا ما يكون مُهملا من قبل النقاد أو غير مركز فيه من حيث التحليل والبحث.
فالفراغ هو الفضاء والمساحة الفارغة والفسيحة التي تحتوي المنجز الفني تلك المساحة التي تخدم فلسفة التكوين ومفاهيمه وتوازناته مع الطبيعة والوجود والفكرة كما أنه مساحة مهمة وعنصر رئيسي يوازن طبيعة الفكرة وأسلوب التعبير ومكانة الكُتلة والشكل والمادة والألوان والحركة والتأثير كما تقول الباحثة Kim Hyeon-Suk في دراستها “الفن وجماليات الفراغ” *”الفراغ في الفن مثل الصمت في القصيدة هو العنصر الشفاف للفكرة فهو المنعكس من خيالنا إنه حكمة الصفاء التي تظهر مثل الريح مراوغة ولكنها غير مرئية، الفراغ هو مفهوم الحقيقة “.
أثّر الفراغ على المفاهيم الفنية في الفترة الحديثة وفترة ما بعد الحداثة بوصفه قيمة جوهرية وجزء أساسيا وملموسا من تركيبة العمل الفني فلم يعد المكمّل بقدر ما تحوّل إلى الأساس وقد ابتدع الفراغ من تفاعلاته مع الفضاءات والمفاهيم فلسفة التركيب والابتكار وهنا نذكر التجديد الفني في الأسلوب في التجريد والسريالية وفي التجربة المعمارية الحديثة والمعاصرة مع الفراغ والتي أسّست لجماليات غير مألوفة في هندسة البناء وابتداعها الابتكاري كما في منجزات *”زها حديد” اتي اعتبرت ظاهرة مجدّدة في المعمار وأكثر من ركّزت على مفهوم الفراغ في العمارة حيث آمنت بالفضاء واستشرفت عمق المفهوم في المساحة.
وهي تعالج حالات التواصل الإنساني مشاعر التفاعل مع الطبيعة والاتصال بها رغم التطور العمراني، كما أنها آمنت أن الفراغ ليس إلا متعة التهيئة في الفضاء وما الشكل إلا توازن الجماليات ابتداعها هو تطويع للفراغ خاصة وهي تأنّث قواعد العمارة الصارمة بمفاهيم الفراغ وضروراته كمتنفس الإنجاز وتفاعل العمارة مع الطبيعة وتناسبها مع الحركة التشييدية والتوازن الرؤيوي فيها.
الفراغ في الفن كما هو متعارف هو الحيّز الذي يشغل المكان ويتفاعل مع الحركة والحجم والارتفاع والارتكاز وحسب تعريفاته الباحثة اختلف واستدلّ بأسسه على التعبير عن العبقرية الجمالية ومدى القدرة على الابتكار في المساحة والفضاء والزمان وتطويع العناصر في المكان وفي المفاهيم كما أن الفراغ في العنصر المعاصر للفن يختلف عن درجة الاستيعاب في العنصر المألوف له حسب الأساليب.
إذ تخضع المرأة العربية في تأملاتها البصرية المبنية على إنجازاتها الفنية إلى العناصر الطبيعية والتكوينات اللونية خاصة وأنها عايشت التراث البصري في الهندسة والعمارة والتراث والإرث مختلف على عدّة مستويات بنيوية جعلت تجريبها في تكميل الفراغ مع اللوحة والاشتغال عليه تكون ركيزة عملها وبناءاتها.
فمن خلال الفراغ الإيجابي والسلبي تمكّنت من أن تثير العمق وتحاور طبيعة الأشياء خصوصا في فوضى ألوانها وفي تراكم الأبعاد من خلال الأبيض والأسود والتدفق الذي يغمر الفضاء بهما وكأنها تقع في محاكاة مفهومية لذلك الفراغ.
وهناك تجارب عربية نسائية متعدّدة ومختلفة منها التجربة المتنوعة نلاحظ صياغاتها مع اللبنانية فاطمة الحاج مثلا وتصوّرها التجريدي للشكل واللون وهي تعبّر عن الواقع وأحداثه، لأن المزج بين الفراغ واللون بتوازن مساحاته إنما هو تعبير عن كسر صمت الطبيعة في مواسمها بموسيقى حيّة وحيوية، من خلال العلاقة بين الشكل والفراغ إذ يغلب أحدهما على الآخر فيسبقه أو يليه ليعبّر عن ذاتها الحرة في توزيع مساحة اللون.
وهو أيضا ما اشتغلت عليه في الفوتوغرافيا التشكيلية الفلسطينية رولا حلواني وهي ترتب الأبعاد الضوئية على عنصري الحضور والتغييب في المفهوم التفاعلي بين الصورة والنيجاتيف الإيحائي وكأنها تُبلغ عن ملل الفراغ الايهامي باللاأمان أواللااستقرار وهو يخترق حدود العين الباحثة في الامتداد عما يشبه الحياة.
كما اشتغلت المرأة على الفراغ المسطّح أو المستوي في درجاته الواضحة والمتفاعلة مع المساحة وسطحها الظاهر في دلالية مفهوم الفراغ إذ حافظ على الاستواء للعمل فكان الشكل واضحا واللون بارزا والمساحة متوازنة في تردداتها الأولى التي تصل المتلقي بثبات يحيل على الخرافة والحنين والذاكرة للأمكنة وتأثيرها كما تجربة السعودية منيرة موصلي أو الكويتية ثريا البقصمي التي عملت على تفتيت الدغمائية الحاضرة في جمود الواقع اللامتغير فالمفهوم العام للفراغ عندها هو امتداد الرمز والعلامة من واقع الانتماء كدعوة لاكتشاف الذات والبحث في الوجود والتغير.
أما في الفراغ الزخرفي فقد ابتدعت المرأة من تصوراته العميقة تجاذبات المفهوم المكرّر في الذاكرة والحنين من خلال التذكر لعالمها المليء بالحرف والألوان والأشكال التي تعبر بشكلها المتوازن مع المسافة والفضاء كما في تجربة اللبنانية منى عز الدين وهي توظّف الأشكال مع الفراغ على مستوى التعبير الدقيق عن تفاصيل الانسان تماهيه الرمزي مع التراث الأدبي والتوازن الشكلي بالتناسب مع المكان.
إن هذه التجارب المذكورة في التماثل البصري للفراغ ليست الوحيدة ولا المتفرّدة التي تناولته ولكن التصورات التي اعتمدتها المرأة التشكيلية في العصر الحديث وبداية التخلص من الموروث الفني في تفاصيله المستحدثة والمعاصرة حافظت على فكرة الفراغ في الكتلة وفي الهندسة وعلاقة الضوء والظل والنور ولذلك كان الفراغ في أعمالها عنصرا أساسيا وتقليدا تشكيليا ضروريا، ليكتسب مع النضج والبحث والفهم والدلالة حضوره في العمل الفني باعتباره طاقة تجدد وتجريب خاصة ذهنيا بصريا لها مكانتها في مزج الألوان والانطلاق بها في الفكرة أو تنويع الخامات والتطور بها في الطرح وهنا نذكر التجربة العالمية للفلسطينية سامية حلبي.
لذلك يمكن القول إن التجارب التي عمّقت البعد المفهومي للفراغ بشكل مؤثر التجريب في التجربة التشكيلية النسائية العربية كانت مرحلية حسب تذبذب واقعها ودرجة صمودها فيه.
فقد انطلقت بتحرّر التجريب وممارسة الفن والانجاز في السبعينات وتراجع أوج ذلك التجريب المفرط في تمرّده الفكري وفوضى شكوكه في الثمانينات ليعود منذ التسعينات إلى مطلع القرن الحادي والعشرين مع تجارب ما بعد الحداثة التي طوّرت المفاهيم والخامات واستفزت المسكوت وناقشته وخرجت من حدود اللوحة والمنحوتة في التنفيذ المادي إلى اعتماد خامات جديدة فعّلت حضور الفراغ المفهوم في الفكرة ومداه التعبيري في التشكل وعزّزت مكانته كمساهم أساسي في تغيير حركة التشكّل لكل منجز.
فالفراغ حسب التطوير البحثي التشكيلي وفلسفة المرأة البصرية هو الذي ضمن مستوى المنجز وحركته مسطح الأفق الخطي ونقاط الارتكاز وتفريعاتها الهندسية في الشكل بما يضمن الرؤية وزواياها، فهو لذلك عنصر ضروري وضرورة شاغلة في الإنجاز.
كما أنه المدى الأساسي المفكك لعوامل المكان والزمان ومستوى الظلال والنور وتفاعلاتها الحسية في التدريجات اللونية وبالتالي حركة تنسيقاته وتوازناته هي التي ضمنت خصوصية العمل انطلاقا من الفكرة وشرحها تقنيا من خلال مسار التعبير فيها ومفهومها الذي خلق للفراغ المبادئ الضرورية وعمّق دورها حسب تنوّع نمط الفراغ المعتمد في التنفيذ.
فالفراغ حسب التكوين والاعتماد والتقنية والأسلوب له عدة تأويلات تركيبية ومسارية في المفهوم واعتباراتُه طوّعتها المرأة لتحيك السرد البصري في نموذج المفهوم المرتكز على الموروث والأسطورة والملحمة الذاتية والجسد واللون والحركة في الأشكال الهندسية ومدى تكوين الأرض والأمكنة والأزمنة والسطوح والعمق، الارتفاع والتقوقع كلها مع مزيج الحالات وتواتراتها المتعاصفة بمواسمها في كل منجز.
إن الملفت للنظر في التجارب النسائية بنضج تعاملها مع الفراغ أنها استطاعت أن تحوّله إلى عمل ومنجز ومشهد له فكرته فالفراغ حسب التنفيذ ليس بالضرورة اللافن لأنه قد يطوّع الرموز لتعبّر عنه كما العمق والأبعاد والتخطيط والتنصيب والصمت والتجهيز والحركة البطيئة والأداء الجامد فالفراغ هو معنى وانعكاس وتفاعل مع المفهوم والحالة والمزاج.
*الأعمال المرفقة
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections