جمعة الفزاني يقفز خارج نمط التشكيل الليبي عبر لوحات واقعية
- فنان ليبي يزاوج بين الذاتي والموضوعي بدقة عالية شكلا ولونا -
بعيدا عمّا درج معظم الفنانين الليبيين على رسمه في لوحاتهم التي تحتفي عادة بالموضوعات التراثية المتعلقة بالبيئة والأزياء والحُلي والوجوه والطبيعة مع اختلاف المعالجات، ينفرد الفنان الليبي جمعة الفزاني بأسلوب خاص ينهل من المدرسة الواقعية ليرسم موضوعات موغلة في المعاصرة بدقة عالية شكلا ولونا.
رغم انتشار المدرسة الواقعية بشكل كبير في الحركة التشكيلية الليبية وتطلّع الكثيرين وحتى الناشئة من الفنانين إلى الرسم بحرفية كبار هذه المدرسة، إﻻ أن القليل منهم يتقن هذا الأمر ويتميّز فيه.
أتحدّث هنا عمّن يصل إلى مصاف العمالقة أمثال: روبنز، ورفائيلي، وكارافاجيو أو حتى غوستاف كوربيه وإدوارد هوبر ويحسن توظيف هذه البراعة التي يمتلكها البعض منهم، وإنتاج أعمال ذات قيمة فنية رفيعة من حيث المبنى والمعنى في آن واحد، وإضفاء ملامح معاصرة عليها تخاطب عصره وتشير فيها إلى وقته وذائقته ورؤاه في العديد من القضايا الراهنة.
والفنان الليبي جمعة الفزاني من الذين أتقنوا الرسم الواقعي واستيفاء شروطه التي اتّفق عليها منذ أن ظهرت أول لوحات كوربيه وغيره من رواد الواقعية في منتصف القرن التاسع عشر إلى آخر ما تمّ إنتاجه في معامل الواقعية الفائقة وما تبعها.
- رسائل أنيقة
الفنان الفزاني يرسم في منطقته الخاصة متفرّدا بأسلوبه الرصين مخاطبا المتلقي بنبرة هادئة وصوت واثق، وعبر رسائل أنيقة يغلب عليها الوضوح، وبأفكار تتّسع لها آفاق أعماله الناضجة، لتتّخذ مكانا رفيعا في مدارج الفن الليبي المعاصر، حيث الانتباه إلى المواضيع المعاصرة جدا والأفكار الحديثة في المعالجة والتقديم كتلك التي تهتم بها المدرسة الأميركية فائقة الدقة.
وهنا تحضر على سبيل الذكر لا الحصر لوحة “مقبرة السيارات” التي تعدّ من أجمل ما تمّ إنتاجه في مدرسة الواقعية الليبية، وهي التي تحمل العديد من المدلولات والرموز، ويمكن إسقاط أفكار وقصص عليها، أو اعتبارها لوحة ذات جمال محض لتناسق ألوانها وتجاورها بأسلوب فني حديث.
فرغم صعوبة التفريق بين التجارب الليبية في الرسم الواقعي والتمييز بينها عند المتلقي العادي، بل ربما يفضّل الرديء منها على الجيّد كنتيجة طبيعية لانتشار الأمّية البصرية، وكذلك بين الكثير من الأدباء والمثقفين، كتاب وشعراء قبل الناس العاديين وتعلقهم بالوضوح والمباشرة ومحاولة ترجمة كل ما يتم رسمه من نصوص مرسومة إلى نصوص مكتوبة في قصص وحكايات، فإن الأمر يختلف مع الفزاني.
الفنان لم يتجرّد من خياله وذائقته رغم واقعيته في أعماله الفنية المنجزة، بل أضفى عليها ألوانه المفعمة بالمشاعر الإنسانية، فكانت لوحة مقبرة السيّارات “الرابش” متعدّدة الألوان مزدهرة وكأنها حديقة ممتلئة بكافة أنواع الزهور والشتلات، في إشارة إلى حياة كاملة مع كل سيارة مركونة في هذه الباحة، وكل ما تحمله بين حطامها من قصص بأفراحها وأحزانها، فكل واحدة منها كالكائن الحي لها شركاؤها وأحباؤها في حياتها التي مضت.
أصحاب وعائلات رافقوها في رحلاتها الطويلة، في أيام صيفية وأخرى شتوية معتمة في بداياتها وهي جديدة، وفي نهايتها بعد أن تكسّرت بها الأيام وانتهت صلاحيتها بحادث أو بالتقادم بعد طول استعمال.
وحتى إن نزعنا عن تلك المفردات كل أشكالها المتقنة ومهارتها في نقل الواقع وأبعاده التي تميّزها مع الإبقاء على ألوانها ككتل لونية متراصة وبقع منتشرة في أرجاء لوحاته، فإنها ستبقى بألوانها الأجمل والمفعمة بالحياة لاختياراته الموفّقة في هذه الألوان الصريحة والمعاصرة التي تنفذ إلى سَرائِر البشر وأرواحهم، تستدعي متعة بصرية مجرّدة من مواضيعها التي أشرنا إليها كإضافة لقيم جمالية خالصة.
- ألوان الأرض
الواقعية الفائقة التي ينتمي إليها الفنان هي امتداد طبيعي للمدرسة الواقعية، خصوصا تلك التي تبلورت شروطها في فرنسا عند الفنان كوربيه في منتصف القرن التاسع عشر.
كانت فكرة الابتعاد عن سيطرة الأدب والفلسفة والاتجاه مباشرة إلى تصوير الواقع كما هو، واستعمال الألوان الترابية “ألوان الأرض” كنوع من التواضع، والابتعاد عن المثالية التي كانت في الأعمال الكلاسيكية الأولى والتي كانت محصورة في موضوعات دينية وأخرى طبقية كتصوير الملائكة والأنبياء والقدّسين والملوك وانتصاراتهم والنبلاء وحياتهم المترفة والأرستقراطية.
لتتّجه بعدها إلى تصوير كل الناس بمختلف مستوياتهم الاجتماعية بنفس الأسلوب في تفاصيل حياتهم اليومية وقصصها المختلفة، خصوصا بعد ظهور الأدب الطبيعي في فرنسا وكتّابه أمثال بلزاك وإيميل زولا وغيرهما.
وفي ستينات القرن الماضي تبلورت معايير جديدة للواقعية التي أصبحت تسمّى بالواقعية الفائقة في معرض دُوكومنتا بألمانيا وبعدها في فرنسا في بداية السبعينات، ثم وجدت هذه الحركات قبولا كبيرا في الولايات المتحدة مع نهاية القرن العشرين في كافة أنواعه: الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي والأدب.
فالرسم عندما يتماهى مع الفوتوغرافيا ويسعى إلى مستوى تمثيل الصورة ومضاهاتها بل ربما يفوقها في الوضوح، تبدو مثل هذه الأعمال أكثر قربا من التصوير الفوتوغرافي، ما لم يستدرك الفنان هذه الأمور ويضفي عليها من روحه قيمة تشكيلية مضافة ﻻ تسعى إلى التشبيه بقدر ما تهتمّ بالفكرة في أساسها وإحالتها إلى عوالم أخرى غير المحاكاة والتمثيل المباشر، والتي أدركها الكثير من الفنانين عبر تاريخ فن الرسم، فمنهم من اهتم بالأفكار الجديدة والمعاصرة ومنهم من اتجه إلى الداخل.
داخل النفس البشرية، أصبحت أعماله تشير إلى المواضيع الأكثر إنسانية مثل الوحدة عند الأميركي إدوارد هوبر، والفزاني كانت له ملامحه التي ظهرت في أغلب أعماله، والتي كانت تقترب من المعالجة الإنسانية العميقة والمتمثلة في كافة مواضيعه المرسومة في كل مراحله الفنية.
وجمعة محمد الفزاني من مواليد طرابلس في العام 1962، درس الرسم بشكل شخصي، وكان للقصص المصوّرة كمجلات السوبرمان والوطواط ورسومات الكاريكاتير عند الفنان محمد الزواوي تأثير كبير على بداياته الفنية، كان قد التحق بالجيش منذ عام 1979 إلى أن استقال من الخدمة في العام 1988، وهو العام ذاته الذي بدء فيه العمل بقسم النشاط الجامعي كرسام وموظف مسؤول عن النشاطات والمعارض التشكيلية التي تقام في الجامعة في مختلف الكليات الموجودة بها، فصمّم العديد من الشعارات والتصاميم للجامعة، وهو لا يزال يعمل إلى يومنا هذا.
ومع انطلاق دار الفنون بطرابلس في العام 1993 شارك في العديد من معارض الدار مع العديد من الفنانين الليبيين، كما أقام معارض في دار حسن الفقيه حسن ودار عبدالمنعم بن ناجي وقاعة الكنيسة مريم في فترات مختلفة، إضافة إلى مشاركات أخرى في بنغازي والزاوية وزوارة وغدامس. وللفنان أعمال مقتناة من العديد من سفراء دول كندا وفرنسا والولايات المتحدة والبرازيل والإمارات وغيرها.