تجربة الاستشراق عند Gordon Coutts – دمج التشخيص والانطباعية مع استحداثات الجمال والتطوير
لم يكن المغرب بالنسبة للفنان التشكيلي الاسكتلاندي جوردون كاوتس (1868- 1937) مجرد محطة استشراقية ولا معبرا خياليا بين عالمين وحضارتين، بل كان بداية لمرحلة فنية مختلفة التصوّرات بدأها سنة 1918 وهو يتنفس الحياة من جديد ويعاود الانتصار لأحلامها، بعد أن لملم أنقاض الدمار الذي خلّفته الحرب العالمية الأولى التي عايشها وهرب منها وتنقّل بسببها في دول أوروبا وأمريكا ليستقر بين اسبانيا والمغرب.
ولعل تلك المسيرة المشبعة بالترحال صقلت غوردن كاوتس فاكتسب مفاتيح العلامات التعبيرية في المساحات الجغرافية وتفاعل معها في ضيقها الواسع وامتدادها المُروّض واكتسب ببحثه وأسلوبه الفني عالمية جعلته يخترق حواجز وحدود الفكرة التي طغت على الرسم الاستشراقي من خلال دمجها مع أساليب التعبيرية والانطباعية حيث استطاع التحكم فيها وتطويرها واستدراجها نحو مشاهد ذات تفاصيل دقيقة عبّرت عن الحالات والاختلاف في النماذج البشرية والتمازجات الطبيعية كما رصدت التحوّلات العنصرية في التكوين الحسي والذهني الإنساني بين العالم الشرقي والغربي.
فقد حمل صفات متنوعة خاضت في التجريب الذي جمع كل تلك المدارس مع تأثيرات الواقع التي انغمس فيها بشغف منح ألوانه فلسفة التمازج الفكري والذوقي مع الأمكنة.
فكان فنانا صاغ كل قيم الضوء واللون والملامح والرمز مع الحياة باختلافاتها ليغوص بها في التعبير الفني الاستشراقي الذي جعله يرتحل بخياله في مدن الشرق ويضفي على لوحاته ذاكرة محفورة باللون بالشكل بهندسة ومعمار وملامح ميزت تلك المدن بتفاصيلها اليومية بدقة وبعين غربي يبحث عن الطرافة والغرابة في مشاهده، وفي انبعاثات هندسة الأشكال وتفعيلها في الفراغ مع المساحات اللونية، وهو ما منحه صفة الفنان الخلاق الذي كان يتفاعل مع العملية التجريبية ويؤسس لمدرسة فنية عميقة خلّدت اسمه في سماء الفن التشكيلي العالمي.
في تجربته مع التصورات الاستشراقية قدّم غوردن كاوتس الصورة وفق أسلوب التعبيرية والانطباعية بحيث تجاوز النمطية السطحية لفكرة النقل المجرد وحوّلها إلى التعبير الذهني من خلال الخيال عن الواقع الذي قام بنقله بشكله الخام ومعالجته بذائقته التي استقبلته بألوان ابتكر فيها منافذ جمعت تنوع الأضواء وانعكاساتها الزمنية التي أخضعها لدلالة بصرية حتى تخترق اللقطة المعتمدة والمسقطة على الملامح وتفاصيل الأمكنة التي يهندسها بأسلوبه بشكل حرفي وبتقنية تجمع الخط والشكل والحركية وفراغاتها والمساحات المغلقة والمفتوحة في تلطيخات لونية تجادل الفرشاة وتراقصها وتروّضها بحيث لا تعيق الحركية داخل اللوحة بل تمنح ملامحها حيوية في فضاءات زاخرة بالعلامات والألوان والزخرف والفلكلور البادي في الأمكنة والملبس والملامح باختلاف مستواها داخل المجتمع وفي الأقمشة وتلاوينها والنسيج، وفي تفاصيل المشهد الشرقي الذي أجاد فسح المجال لمخيلته لتطير بعيدا عن عقد التعبير المحددة الأطر في زوايا اللوحة فهو يقتنص الضوء ويروّضه فيكون مكثفا ومتراكما بتفاعلاته ومجادلا لتفاصيل الواقع ومنعكسا على المشهد فيخلق حضورا آخر مختلفا للألوان بغموض مشهدي وطرافة تلوينية ومنفلتا من التاريخ المتناقض بين الجمال والفوضى والخيال والابتكار والسطحية فهو يجمعها ويفتتها ليخلق رؤى بصرية تفتح منفذا يطل على التاريخ والحياة ويتجاوزها بعمق فيخترع من تلك المنافذ ماورائيات مشهدية من خلال معايشة الإيماءات والتناغمات والانحناءات والتداخل في فكرة حضور اللون الذي يتصادم في تناقضاته الباردة والحارة الفاتحة والداكنة المبتهجة بالإشراقية والمستشرقة بالدهشة، توليفة يستنطق بها المشهد والتراث في المكان وفي الملامح بتقنية تستفز العين لتبحث عن أي ميزة أو مسار يقودها للعمق في رمزياتها وفي حضورها وتوازنها مع الطبيعة بتناغم وروحانية وجدانية تخترق صمت التاريخ وتنطق اللوحة.
في رسم الملامح يحاول كاوتس أن يبحث في تنوع الانسان داخل المجتمع وأن ينبش حضوره من خلال تحديد الفلكلور الشعبي والعلاقات.
تبدو صورة المرأة مترفة في خياله تارة يرحل بها إلى الرسم المغلق الذي يتحكم في ملبسها وحضورها ورسمها ويخلق منها بورتريه خاص يعود للجيل الأول من المستشرقين، وتارة أخرى يظهر واقعها من خلال تسليط الضوء على حضور المرأة في الحياة اليومية الخادمة والبائعة والعامية البسيطة.
كما عكست لوحات كاوتس ملامح المدن بأزقتها وأبوابها بتفاصيل زخرفتها وألوانها بالظلال المقصودة المعتمة على الأمكنة وبالأضواء التي تضع المشاهد مع اكتشافات مفتوحة لطبيعة مختلفة، فقد كان يرسم بكل طاقته عشقا للفن وللصورة وللمكان.
- الأعمال المرفقة:
*متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection