حين يجتمع الشغف مع الفن يصنع التحدي للذاكرةِ أمكنةً
“لم يكن الوقت إلا امتداد رحلة ملونة بنا في كل مرحلة من مراحل النضج الحقيقي المتدفق نحو جمال الأرض والإنسانية بكل ما فيها من أثر وإرث هذا الذي حملني للمكان وهذا الذي قادني لتأسيس ذاكرة لكل عابر انغمست في ذاكرة المكان الأولى”
Marie Charlotte Saidane
أحيانا تحملنا توجهات البحث عن الجمال أبعد مما نريد وأعمق مما نتخيّل فنكون في تماس واقعي مع جمال خرافي، والخرافة هنا ليست وهما ولا مبالغات بل واقعا امتدّ في الأرض.
للمرة الأولى بدا المكان هادئا تناغم مع الطبيعة يسترخي في تلاواته الموحّدة بين الجبل والسماء والبحر وكأنه ينتظر سفنا من الحالمين القادمين من ضفاف الحضارات التي جلبها البحر.
“دار سعيدان” أو “جناح الخطيفة” كما تسميها الفنانة التشكيلية الفرنسية Marie Charlotte Saidane
الفنانة التي جمعت تنوعا أوروبيّ السحر والانتماء بين هولاندا وألمانيا وفرنسا وتنوعا فنيّ التناسق من الرسم والنحت إلى الكتابة والموسيقى والغناء لتكون مزيجا بين كل هذا وتمازجا بين كل الثقافات التي خلّدت داخلها عشقها الأول للاكتشاف والإصرار والتحدي والبحث.
ساقها الحب والعشق إلى تونس عن طريق زوجها منصف سعيدان من الساحل التونسي حطّت مراكبها على الضفاف الجنوبية للمتوسّط حيث “رفراف” بمدينة بنزرت ترتسم لوحة طبيعية خارقة تلتحف الأزرق وتمتد به نحو الأخضر لتتكاثف مع أفق لا متناه، فتيّمها المكان وانتشلتها الطبيعة وهي تروّض فضولها بألوانها ومنطلقاتها التعبيرية واقعية وانطباعية وحشية وتكعيبية.
لم يكن المكان في بداياته إلا فوضى خلقت شبه خراب معتّق بجمال خفيّ لم يدركه إلا المتعثّر بالنبش في تفاصيل الجمال الذي انبعث فيهما مثل المجاز وتمادى في توقيع حضوره الحاضر بين ذاكرة وبحث بين صورة وتصوّر بين إرث وهويّة لا شرقية ولا غربية بل إنسانية المدى والامتداد.
صبرت ماري رفقة المنصف أكثر من ثلاثين عاما لترى حلمها يتحوّل إلى حقيقة وعائلتها تكبر في كل معلم وكل زاوية خلقت مداها في الجمال المادي والعمق المعنوي والتحوّل المفهومي الذي بدت فيه روح الشغف بالفن.
في كل ركن يمكن للناظر أن يرى فيه التعلّق بالذاكرة في كل قطعة وكل تحفة مرّت بها تونس من الإرث القرطاجي إلى الروماني ثم الإسلامي بمراحله الاندلسية والعثمانية في الجليز والفسيفساء في القباب التي احتلت الفضاء وعكست الشعور بالامتداد على الأمكنة وفي تصورات الفن في التحكّم في الفراغ وتلك التقنيات كانت في حدّ ذاتها دهشة مُبهرة صاغت حكمة الطبيعة في خلق اللون وذكاء الانسان في التعامل معها من خلال الهندسة والتفصيل والتطوير العميق الذي خلق في مساحاتها التوافق والكثافة والامتلاء الداخلي.
لم تكتف ماري والمنصف بتوظيف الذاكرة كتوحّد معتّق بالحنين لكنهما امتدا أبعد في العمق نحو تكوين ذاكرة معاصرة استطاعت أن تقترب من كل زائر ليكوّن بدوره ذكرياته وينشّط حضوره فللمكان سحر التخاطب مع الانسان وفاعليّته القادرة على فتح منافذ التأمل للتواصل مع الذات والطبيعة.
وهو ما جعل المكان يتّسع أكثر ويتحمل الكثير من الفنيات على عدّة مستويات تقنية وجمالية تأسّست على محامل اللوحة التي انتقتها ماري لتتماهى مع المكان ويكون لها حضورها ودورها وشخصيّتها المتكاملة مع كل ركن وكل زخرف لم تهمله بل اعتمدته ووظّفته ورسكلته وتفاعلت معه حتى تلك القصاصات الصغيرة والمذكرات والصور الأولى التي خزّنتها في تفاصيل المكان منحتها لكل زائر ليكون من خلالها قريبا ويتكاثف داخله الشعور بالانتماء لتفاصيله وتلك التصوّرات الشعورية لا تدرك إلا بالمحاكاة والتماهي مع المكان.
دار سعيدان اكتمل وتمازج مع الأرض وأصبح تحفة معمارية متماسكة تعبّر كتصوّر مصغّر عن تونس الحلم والتنوّع والتعايش والتخاطب المتكامل مع الانسان بطبيعة الانتماء على أرض واحدة تعانق السماء بتاريخها بهويّتها وتفاصيل التحدي التي أحكمت مزج الذاكرة بالخيال بتكون حقيقية مع الحضور.