الفن العربي.. تاريخ لم يُحرّر بعد!
دعوني استدرك بادئ ذي بدء كيف أن عصور التنوير أو النهضة الثقافية العربية ابتدأت من تحويل الوالي محمد علي لمطابع بونابرت التي خلفتها حملته إلى مطابع ترجمات من الفرنسية إلى العربية خاصة في ميادين العلوم الوضعية.
إن أبرز ما يميّز عصر الانفتاح على النموذج الغربي هذا، هو عدم الخشية من ثقافة الآخر، حتى ولو كان يشوبها شيء من الاستعلاء. فتمثال شامبليون، عالم الألسنية والكتابة المرافق لبونابرت، فكّ لأول مرة الأبجدية الهيروغليفية. يبدو في التمثال يرمي تحت قدميه توت عنخ آمون. مع ذلك فقد خدم الثقافة العربية المصرية أكثر من امتداد روح الخمول العثماني.
أنا لا أدعو فقط إلى الانفتاح على الترجمة (هو سرّ تقدم العهد الأموي بفضل الترجمات السوريانية وسرّ تقدم عصر التنوير المذكور)، إنما أدعو أيضًا إلى تدرب الباحثين على الكتابة بإحدى اللغات الحية (الفرنسية في الحالة الفرانكفونية، أو الإنكليزية في الحالة الأنكلوفونية، أو الألمانية وسواها)، أما اللغة العربية وما تمثله من ثقافة يومية راسخة فلا خوف عليها من الاندثار أو الضمور (كما يشيع الأصوليون)، فهي الغذاء التراثي اليومي المتمثل في البيئة المعاشة في المدينة، من عمارة إلى شعر (ديوان العرب) إلى سلطة “المجاز” في النصوص القدسية.
إن أبرز أخطاء المبدعين لدينا أنهم يجزئون تاريخ الفن بطريقة انفصامية. فدراسات أبرز خطاطينا المثقفين والموهوبين تؤكد عموديًا على دور أقلام الخط متجاهلين علاقة هذا النشاط المتفوق بالحليات والمخطوطات والتّصاوير والعمارة والنّسخ، وصناعة (كاغد) الورق (منذ وصوله من الصين عام 750 مـ). إن توليف فناننا الشعراني مع مختبر (الأوبتيك – سينيتيك) يطرح سؤالًا جوهريًا جديًا حول وحدة الفنون الحرفية والنخبوية في التراث العربي – الإسلامي، وأشرت قبل فترة إلى تبادل التأثير المعاصر بين مدرسة الباوهاوس والعمارة الإسلامية بمثالها مأذنة سامراء الحلزونية.
يبتدئ نقادنا بجزّ تاريخ الحداثة والمعاصرة الغربي عن التراث التشكيلي العربي – الإسلامي السابق وكأن “لوحة الحامل” الغربية التي وصلت حوالي منتصف القرن العشرين أو في بدايته (في مصر ولبنان) هبطت على حضارة صحراوية خاوية من التراكم الحرفي – الصناعي – الفني، وهذا ضرب من التعسّف.
يحضرني فحوى النظرة العنصرية الغربية التي تمركزت مع صعود النازية: مفادها التقسيم العبثي لخطين جغرافيين متوازيين يعبران التاريخ الحضاري لأوروبا وآسيا. الخط العلوي يمثل الجزء الآري الذي يمر من إيران والهند وشمال أوروبا، والمتميز بتفوقه الفني والإبداعي العام، ثم الممر السفلي الخاص بالجنس السامي الذي يعبر من شتى مناطق الشعوب العربية بما فيها فلسطين وإسرائيل، والمنحط بطبعه المتخلف حضاريًا خاصة في الفنون.
لا يزال بعض المؤرخين الأوروبيين يؤمنون بهذه النظرية، لذلك فهم يعتبرون أن إيران تحتكر زهو الفن الإسلامي مع إمبراطورية المغول الهندية (مثل تاج محل وسواه). إذًا على المؤرخين الحياديين الجدد أن يصححوا هذه العنصرية الفنية، وأن المصورين محمود بن سعيد الواسطي وابن جنيد سبقا بهزاد بثلاثة قرون على الأقل، وأن اختفاء أكوام المخطوطات المصورة كان بفعل هولاكو واللوبيات الاستعمارية.
يرسخ التحريم المشبوه هذا المسخ الفني (الموروث وزرًا وبطلانًا). ولهذا الموضوع حديث طويل، فإذا عدنا إلى مشروعنا في كتابة التاريخ الفني ابتداءً من الصفر، ولكن أين يكمن هذه الصفر – البداية؟ وهنا نقع على المشكلة الجذرية التالية:
وحدة تسلسل الذاكرة الفنية
يوازي بداية التعبير الفني بداية الوجود الإنساني مع أوائل إنسان ما قبل التاريخ سواء كرومانيين أم “أوموسابيان”.
وآثار تصوير الكهوف التي تعود إلى عشرات آلاف السنين آخرها “كهف شوفي” حوالي أربعين ألف عام، هو تاريخ مشترك في بداية الفنون سواء في شمال المتوسط (أوروبا) أو جنوبه البلاد العربية، تصل مثلًا نقوش مدينة أريحا في فلسطين إلى أكثر من ثمانية آلاف عام، تليها الحضارات الرافدية ما بين نهري دجلة والفرات ابتداءً من السومريين (وهم آريون وكذلك العيلاميون فقط أما بقية السلالات والأقوام آكاد، آشور، بابل، وحتى ثمود والقحطانيين فهم ساميون).
تطورت عبر رقمهم المسمارية شجرة الخطوط السامية ومنها العربية والعبرية والسوريانية قبل المناذرة والغساسنة وهؤلاء قبل الأنباط والتدامرة فإذا راجعنا الحركة السامية المعقدة عثرنا على العموريين والكنعانيين والفينيقيين على سواحل المتوسط، أما الحضارة المصرية قبل القبطية والمملوكية والفاطمية والأيوبية فهي سابقة على الفتح العثماني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر حتى وصلنا إلى عهود الاستعمار والانتداب ثم الاستقلال.
يمثل تراث أجيال الفنون والصناعات سلسلة متواصلة متدرجة تصل حتى حدود التوليف مع الفن الغربي، ونعثر على هذا التوليف المتوسطي منذ العهود الصليبية وممالك الأندلس. فماذا بقي منه؟ القليل الواجب حفظه، مثل جدارية قاعة السفراء في قصر الحمراء في غرناطة، وموروث التصوير الصادر عن الطرق الصوفية ما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر ابتداءً من الواسطي في بغداد، وانتهاءً ببهزاد أكمل الدين في تبريز المرتبط مع تلامذته بالطريقة النقشبندية في أواسط آسيا، ورعته في أواخر حياته الدولة الصفوية كما رعى الإمبراطور حيدر دوغلات المغولي تلميذه الشيخ زاده في أكرا الهند.
على مؤرخ الفن العربي الإسلامي أن يكشف ما خفي والتبس من موسوعة هذا التاريخ المديد، لذلك اعتبر موروث الفن العربي – الإسلامي جزءًا لا يتجزأ من حضارات متحف جاك شيراك في باريس المدعو “بالفنون الأولى” أي الأسبق من الحضارات الأوروبية.
إذا كان مثل هذا التطور حصل في سردية تاريخ الفن الغربي، فعلينا ألّا نكون أقل حيادًا ونغازل (حتى لا أقول نختلس) الآراء الاستشراقية في عصور الاستعمار التي ولت منذ زمن بعيد إلى غير رجعة.