الخط العربيفن تشكيلي

الحرف العربيُّ وتجلّياتُ اللغة

ظل الحرف العربي يشكل ملامح الجمال المرئي عبر تاريخ اللغة العربية، كما تعبر الموسيقى عن المشاعر وخلجات الروح، فالإبداع والتأمل ظل سمة الخطِّ العربي ليشكل النشاطُ الفني المُبكرُ الذي دفعَ الخطاطَ للتجديدِ، والابتكارِ، والإضافةِ، والحذفِ لبعضِ الحروفِ عبرَ حقبٍ زمنيةٍ مُختلفةٍ،

انه العنصرُ المؤكِّدُ على قدرةِ الخطاطِ بإنشاءِ جملتهِ المرئيةِ بمُفرده مِن أجل الجماعة البشريةِ، إنه حتما نشاطٌ فني مبهِرٌ لنقلِ الصورةِ للمُتلقي بجلاءٍ، كما إنه الإدراكُ البصري للكلمةِ في أجلِّ معانيها، وهو أحد تجلياتِ الفنّ الإسلامي عبرَ العصورِ.

“إنّ النشاطَ الفني هو أولُ خطواتِ نشاطِ الفكر، أوهو الصورةُ الفَجريةُ لنشاطِ الفكرِ، وهو حَدَسٌ خالِصٌ، والحَدَسُ هو الإدراكُ المباشرُلحقيقةٍ فرديةٍ جزئيةٍ، وهو الإدراك الخالي من أي عنصرٍ منطقي، فهو من شأنِ المُخَيّلة.

لذا فإن الفن هو التعبيرُ عن شعورٍ، أو هو التكافؤُ الكاملُ بين العاطفةِ التي يحسها الفنانُ وبين الصورةِ التي يُعبرُ بها عن هذه العاطفة؛ أي بين الحَدسِ والتعبير، ولذلك لا يمكنُ أن تُصنَّفَ الفنون والأنواعُ الأدبيةُ تصنيفاً نهائياً، لأن الحدوسَ فرديةٌ وجديدةٌ أبدا، ولا نهايةَ لعددِها”([1])

فالخط العربي هو أحدُ تجلّياتِ اللغةِ العربيةِ، وسيبقى كذلكَ لانه حامل المعنى ورسول الفكر، “ولقد اتَّضحَ أن اللغةَ انفتحت على الثقافات الأخرى، حتى وهي في عهدِها الأولِ في بدايات الإسلام، ثم ما لبثت أن انطلقت قوةُ اللغةِ العربيةِ “فأصبَحتْ ذاتَ آفاقٍ أرحبَ لغوياً، بعد أن كانت مُحددةً داخلَ إطارِ التراثِ الشعريّ الجاهليّ؛

فازدهرت المؤلفاتُ بالعربية كما أصبحت هي نفسها أكثرَ ثراءً مِن خلالِ ترجمةِ كل التراثِ الثقافيّ للأممِ السابقةِ للإسلامِ؛ للاستفادة منه واستلهامه والإضافةِ إليه، خاصةً وأن اللغةَ العربيةَ تتميزُ بثراءِ المترادفاتِ وتنوُّعِها الفريدِ، كما تتميزُ بإمكانياتها اللغويةِ المتعددةِ.”([2]).

وأضْحت العربيةُ، فيما بعد، أداةَ العلمِ والثقافةِ الإسلاميةِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ الإسلامي في القرونِ الوسطى المظلمةِ في أوروبا حينذاك، ويؤكد هذا(جورج سارتون) حيث يقول ” حَقّقَ المسلمون عباقرةُ الشرقِ أعظمَ المآثرِ في القرونِ الوسطى.

فلقد كُتبَت أعظمُ المؤلَّفاتِ قيمةً وأكثرُها أصالةً وأغزرُها مادةً باللغة العربية، التي هي – منذ منتصف القرن الثامن الميلادي حتى القرن الحادي عشر- لغةُ العلمِ والارتقائيةِ للجنسِ البشري، والحق أنه كان ينبغي، لأي كان، إذا أراد أن يُلمَّ بثقافةِ عصره وبأحدثِ صورها أن يتعلمَ اللغةَ العربيةَ، ولقد فعلَ ذلك كثيرون من غيرِ المتكلمينَ بها.” ([3]).

وعلى ذلك : ” أصبحت العربيةُ ليست فقط مجردَ أداةٍ للتفاهمِ والتواصلِ بينَ البشرِ، بل أيضاًعاملاً من عواملِ الثقافةِ بين أجناسٍ وقومياتٍ ولغاتٍ شتى، وكوَّنت بِنيةَ الأمةِ في الحضارةِ الإسلامية، فأصبحت لغةَ العلمِ والفنِّ والثقافةِ، وعكَسَت من خلالِها الفكرَالإسلاميَّ والثقافةَ الإسلاميةَ؛

حتى إن العلماءَ من غيرِ العربِ كانوا يؤلفون إبداعاتِهم باللغةِ العربيةِ إلى جانبِ لغاتِهم الأصلية؛ حتى يضمنوا لكتاباتِهم الانتشارَ عالمياً، ومِن هنا نَجدُ أن اللغةَ العربيةَ وحَّدت كلَّ اللغاتِ المُتعددةِ داخلَ إطارِ الثقافةِ الإسلاميةِ ولم تُلغها.

فكان الصيني والفارسي والهندي والتركي والإفريقيُّ يُجيدُ اللغةَ العربيةَ بجانب لغته الأصليةِ حتى يقرأَ القرآنَ ويُقيمَ الصلاةَ، وهما عمادُ الإسلام، وهكذا توحَّدت كلُّ اللغاتِ وذابت بمثابةِ وحدةٍ ثقافيةٍ كُبرى، وثَّقت العُرى بين الشعوبِ، وجمعتْها على اختلاف لغاتها، حيث أصبحت بمثابةِ رابطةٍ ثقافيةٍ حيويةٍ مُتأصلةٍ مُمتدةٍ في طبقاتِ التاريخ.”([4])

الخط الصيني كمثالٍ مُقارنٍ لأصالة الحرف العربي:

لم يكن الخط العربي هوالفن الوحيدَ الشرقيَّ الأصيلَ، الذي عَبَّرعن الثقافةِ والهويةِ الوطنيةِ لأمتهِ كفنٍّ جميلٍ، إذ أن الخطَّ الصيني له قصةٌ أقربُ إلى الأسطورة، حتى طغى على فن التصويرِ ذاتهِ وهَيمنَ عليه لقرونٍ عِدّة.

“إن النسخَ في الخط الصيني هو فن مثلما التصوير، وهما يقتسمان – من جهة أخرى- الأدواتِ نفسَها : مِن قلمٍ وحبرٍ وريشةِ الرسامِ، والدعاماتِ نفسَها، والورقَ والحريرَ، إن الخطاطين يمارسون بصورة تقليدية الأساليبَ الأربعة للخط، منذ اكتشافِ النقوشِ القديمة.” ([5]).

بل إن الأمرَ وصلَ لمرحلةٍ أبعدَ من هذا، إذ اعتُبِرَ فنُّ الخطِ والكتابةِ أسمى الفنونِ في بلاطِ الإمبراطورية الصينية ” إن الأدباءَ منذ نهايةِ أسرةِ (هان Han)– الأسرة المالكةِ في نهايةِ القرنِ الثاني- الذين طوروا هذا الفن، والذي أصبح نظاماً مُحدداً مع معلميه، وأصحابِ نظرياته ومجموعاته – وكونُ الخطِ يُمارَسُ منذ قرونٍ من قِبَل النخبةِ المثقفةِ – من شعراءَ ومصورين، وأباطرةٍ ورجالِ دولةٍ.

فإن الخط استمر في الاستمتاعِ بالنفوذِ العميقِ حتى الآن على الفنونِ كافةً، ولا سيّما على الصورةِ، أي على فنِّ الرسمِ، الذي فَرضَ الخط على النظرياتِ الجماليةِ كافةً.

ففي القرن الثامن عشر، كان المصورُ الأديب (شيتاوي)- مؤلف الدراسةِ الجماليةِ في فن الرسمِ – يُدوِّن النواحي المشتركةِ بين فن النسخِ والخطِ وبينَ فن الرسمِ وفن الشعر، رغم أن الصورةَ والخطَّ يتمثلان – واقعياً- بنظامين مُختلفين.” ([6])

والخط العربي كفنٍّ له قيمةٌ تاريخيةٌ، حاملاً مراحلَ التطورِللأمةِ واللغةِ العربيةِ عبرَ تاريخِها، مثل فن الخط الصيني كفنٍّ شرقي عريقٍ يحملُ مراحلَ مُتمايزةٍ عبرَ تاريخِه الطويلِ.

والخط كأحدِ أهم الفنونِ العربيةِ المُعبرةِ عن حقبِها المتعاقبةِ ظَلّ يتطورُ كأي فن مُتأصِّلٍ في وجدانِ الثقافة والهويةِ للغةِ العربيةِ، كباقي اللغاتِ الشرقيةِ الأصيلة.

إن فن وتصميمَ الكتابةِ المتشكلةِ من الحروفِ يُمثلُ جانباً من الخط العربي والذي يقترنُ بالزخرفةِ، ويزين المساجدَ والقصورَ، وقد شهدَ إقبالاً كبيراً من المسلمين في الماضي، واصبح في الحاضر ارثا وفنا وهوية لذاكرة الامة جماليا وادبيا، ومُعبراً عن ذائقةٍ فنيةٍ مُتساميةٍ، وهي اختزالٌ لمجموعةِ أحاسيس ومشاعرَ تؤرِّخُ لحظةً إبداعيةً ما.

يُعتبرُ الحرفُ العربي أحدَ مَجالاتِ الإبداعِ الفنيةِ، حيثُ يُمارِسُ الفنانون في سياقهِ تميزاً صارخاً، مستندين إلى خصوصيةِ الأبعادِ الجماليةِ التي يتضمنُها الخطُّ العربي، وينفردُ بها عن سائر لغاتِ الدنيا.”([7])

ولعل التسميةَ الأولى للنُسّاخِ كانت تسميةً مرحليةً، تعبرعن حالةِ الكتابةِ في بداياتِ اللغةِ ما قبلَ الإسلامِ وأثناء الدولةِ الأمويةِ والعباسيةِ ثم ما طرأَ من تطورٍ مُصطَلحي على الكلمةِ حتى باتت كلمةُ “خطاط”  تكفي عما يقومُ به الناسخُ قديماً.

بعدما أصبحَ لدى العربِ من التطورِ الفني والجمالي طبقاً للعصرِ الذي تعيشه الأمة؛ حتى بات الخط العربي كفنٍّ ينقلُ وضوحَ وجمالَ المعنى ووقعَ الصوتِ اللغوي في الحروفِ دون فقدانِ جمالِها الأدبي والفني كلغةٍ مسموعةٍ أو مكتوبةٍ (مرئيةٍ).

منذ ذلك الوقت أصبح فنُّ الخطِّ له المبادئُ والأصولُ المُتَّخذُ منها قاعدة نحو الكتابةِ الخطيةِ المنسوبةِ للخط، فبات الخطاطُ هوذلك المتمكنَ بحروفِه وأدواته وفنه من نقلِ المعرفةِ إلى الأجيالِ.

مُتخذاً مِن الجمالِ الحرفي أصالةً نحو الكتابةِ العربيةِ كفنٍّ رافدٍ من فنون اللغةِ العربيةِ، وأخذ من السابقين مآثرَهم فأطلق عليها مجموعةَ القواعدِ والأصولِ لكل نوعٍ من الكتابةِ الخطيةِ للحرفِ العربي.

فالجمالَ المرئي في اللغةِ العربيةِ يتضحُ جلياً بكلمةٍ تُكتَب بدقةٍ وإحساسٍ فني وخطي، فتصيبَ المتلقي بالمعنى الصادقِ، إنها الكلمةُ التي يكتُبها الخطاطُ الماهرُ الذي يتفننُ بحروفه، فيخاطبَ عينَ وعقلَ المتلقي، مثلما ينظِمُ الشاعرُ شِعره، أو يرسم الأديبُ إحساسَه بجملته البلاغيةِ،

إذاً، فإن المقصدَ من استقراء المرئي من اللغةِ هو حالةٌ من الاستدعاءِ الفني والبحثِ عن جوهرِالإبداع في النفس الإنسانية كترسيخٍ لقيمةِ وجمالِ الحرفِ العربي الأصيل، ومشاركة بروعة وجمال الخط العربي في عالمِ الصورةِ المتسارع، أو اللقطة كما يراها البعض.

إن رسمَ حروفِ اللغةِ بالخط هو ترسيخٌ لهويةٍ هي مَنبتُ فخرٍ واعتزازٍ يمثلُ مرحلةً من التواصلِ الفني لتطورِ اللغةِ وفنونِها المتشعبة.

وربما الفنون العربية الإسلامية في مجملها تعبرعن روحِ هذه الحضارة، “لو أخذنا الزخارفَ الإسلاميةَ بصورةٍ عامةٍ، فإنه يُمكنُ لنا أن نُرجعُها من ناحيةِ التاريخِ لِما يُسمَّى شجرة الحياةِ التي كانت موجودةً في فنون العالمِ القديم.

ولكنها في الرؤيةِ الإسلامية لم تكن مجردَ مسألةٍ رمزيةٍ بسيطةٍ؛ لأن الوجدانَ الإسلامي يتأملُ الخلقَ كله على تنوعِه وتعددِه إلي غير حدٍ، وتداخله، وترابطه، وتبادله، وكل صفات العلاقاتِ مع بعضها البعض، ويراها كما لو كانت كل وحدةٍ تصنعُ شجرةً.”([8])

وتأكيداً على هذا فإننا اليومَ نحتاجُ للعمل المنظم بأن نسمو بسلاح الفن والجمال في عالمٍ متشعبٍ مُتداخلٍ ومتشابكِ الأفكارِ، إننا في حاجةٍ إلى لغة الفن باعتبارها لغةً ناعمةً، تنقل هويتنا ولغتنا للأنا، وترسّخُ لديه الهويةَ الثقافية بأُسلوبٍ شيقٍ جذابٍ، كما تخاطبُ الآخرَ بنفسِ درجةِ الجمالِ الأخّاذِ بطريقةٍ عصريةٍ.

إن الفنونَ هي انعكاسٌ لتحضُّرِالإنسانِ، وتعبيرٌ عن حالةِ العصر أي عصرٍ مهما كانت بساطتُه أو تعقيداتُه، والفنُّ لم يسقط من السماءِ بدون مُقدمات؛

أياً كان هذا الفن، فالموسيقى التي استُخدِمَت لشحنِ الهممِ في الحربِ والسلمِ وكذلك الفنونُ التشكيليةُ بشتى أنواعها، وكذلك فن الشعرِ والنثرِ، لم يكن وجود كل هذه الفنون عَبثا عبرَ تاريخ الأممِ والثقافاتِ في الماضي والحاضر.

وما نقدمه في الخط العربي هنا هو توضيحٌ مُبسَّطٌ عما يحتاجه الإنسانُ في عصره لتطويرِ أدواتِ معرفتِه اليوميةِ، وكذلك التعبيرالفني والجمالي ؛ وذلك حتى تتسعَ الرؤيةُ والتصورُ لنفهمَ الحالةَ الإنسانيةَ الماسةَ لفنٍّ صادقٍ ومُعبرٍ عن هويتها، كما أنه يُظهر حاجةَ الإنسان للتعبير عن مشاعرهِ ورهافةِ حسه.

وكذلك الحالُ بالنسبةِ لباقي الفنونِ مهما كانت، طالما بقيَت متماشيةً مع الثقافةِ السائدةِ لأي حضارةٍ عبرَ التاريخِ، فالخطَّ العربي ظَلَّ أداةَ اللغةِ في مخاطبةِ المُتلقي ووصول الأفكار والمفاهيم، ولغةَ دواوينِ الدولةِ الإسلاميةِ عبرَ العصورِالأمويةِ والعباسيةِ، بل والحديثةِ أيضا.

ولقد تطورَ الخطُّ كفنٍّ أصيلٍ من اللغةِ ولم يقفْ عندَ لحظةٍ تاريخيةٍ، فبقي يتمدد كشجرة ورافة الظلال والجمال، وهو فن له اعتبارُه وقيمتُه الجماليةُ والمعرفيةُ، يعرفها الشرقُ والغربُ، وما يحمله من دلالةٍ تُعلي مِن قيمةِ الهويةِ الثقافيةِ، وهو تعبيرٌعن مراحل تطورٍإنساني أصيلٍ يواكبُ العصرَمهما كان هذا العصر.

 مصطفي الخلفاوي خطاط ومزخرف، رسام، باحث

([1])ب كروتشه, المجمل في فلسفة الفن, ترجمة سامي الدروبي,الطبعة الاولى اكتوبر 2009 , المركز الثقافي العربي , الدار البيضاء المغرب وبيروت لبنان , بالتعاون مع مؤسسة ( ترجم )محمد بن راشد ال مكتوم, ص13

([2])الأصول الجمالية والفلسفية للفن الإسلامي، انصارمحمد عوض الله, رسالة دكتوراه، كلية التربية الفنية2002, جامعة حلوان بالقاهرة ص182

([3])المرجع الساابق ص183

([4])المرجع الساابق ص183

([5])تاريخ الخط العربي وغيره من الخطوط العالمية، أن زالي واخرون، ترجمة سالم سليمان العيسى، الناشر الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية، دمشق، سورية، 2004, ص53

([6])المرجع السابق، تاريخ الخط العربي وغيره، ص 54

([7])الخط العربي هوية وفلسفة وثقافة، مقال للخطاط خالد الجلاف، جريدة الخليج، فبراير2009

([8])المدرسة المصرية في الفن والحياة الفنون الإسلامية أصالتها وأهميتها، حامد سعيد، دار الشروق 2001.

مصطفي الخلفاوي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى