سينما ومسرح

السينما الفلسطينية .. قرن من مقارعة الانتداب والاحتلال والمنفى

منذ ما يقارب القرن والنصف أو حتى أكثر، بدأ التخطيط لتحويل فلسطين -أشهر الخرائط المليئة بالشروخ على الإطلاق- إلى سجن كبير تفصله نقاط التفتيش والأسلاك الشائكة، وجدار يقسم كالسيف القاطع عائلات ويفرّق الجيران، ويلتهم من الأراضي والمنازل ما يلتهم.


عاش الفلسطينيون تحت وطأة استعمار راهن على أمرين هما طرد أصحاب الأرض، أو البقاء وسد منافذ الحياة عنهم، لكن فلسطين كانت على الدوام أرض المعجزات، فقد حفر بعض أبنائها فتحة شاسعة بلا حدود حلّقوا بها من سجنهم، وكانت تلك الفتحة هي فتحة عدسة الكاميرا التي صنعت أفلاما عالمية.

فلسطينيون من قرية حلحول شمال الخليل في انتظار أحد العروض السينمائية سنة 1940


عرفت فلسطين السينما مبكّرا قبل عام النكبة 1948، وخاضت السينما الفلسطينية حروبها طيلة ما يقارب السبعين عاما ولا تزال، وربحت معاركها وتجاوزت الأسوار العنصرية التي يضربها اللوبي الصهيوني المُهيمن على صناعة السينما في العالم.

فكيف يمكن لصناعة السينما أن تولد على أرض فلسطين مع كل ذلك التعجيز والقمع والتضييق؟ كيف صنعت السينما في فلسطين محتوى حلّق إلى العالمية مستلهما من حروبها اليومية؟ وكيف مثلت فتحات عدسات الكاميرات فوّهات بنادق حارب بها صُنّاع السينما الفلسطينيين الاحتلال الإسرائيلي؟


  • دار السينما الفلسطينية الأولى.. ظلال عصر الانتداب البريطاني

في العام 1920 تركز الانتداب البريطاني على فلسطين، فكان احتلالا يُمهّد لاحتلال آخر، وكانت تلك الحقبة بشارة العصر الذهبي لصناعة الأفلام، وألقت تلك البشارة بظلالها على فلسطين التي شهدت مبكّرا العروض السينمائية، فكانت “سينما أوراكل” بالقدس من أوائل قاعات العرض السينمائي في فلسطين، فقد أنشئت عام 1908، لتمثل فاتحة لانتشار دور السينما، خاصة في فترة الانتداب البريطاني.

لقد شجعت الصحافة الفلسطينية على ارتياد دور السينما، حتى إن صحيفة “مرآة الشرق الفلسطينية” في عددها الثامن والعشرين مايو/أيام عام 1930 كتبت نصّا تشجع فيه العرب على ارتياد قاعة “سينما فلسطين”، وقالت: توقفنا وحضرنا رواية “بن هور” في سينما فلسطين، وقد كان الإقبال عظيما على هذه الرواية،

ممّا دلّ على تقدير الناس للروايات المهمة وحبهم لتشجيع المحلات الوطنية. هذا وإننا نأمل من صاحب هذه السينما النشيط أن يأتينا دائما بمثل هذه الروايات الجميلة، حتى يتهافت العرب على حضور سينماه، فيشجع العرب هذه السينما الوطنية.

سينما “ريكس” في القدس تعرضت للحرق من قبل منظمة “إرغون” الصهيونية عام 1947


في العام 1938، افتتحت قاعة سينما “ريكس” في القدس أيضا، واعتُبرت أول قاعة سينما بمعايير متطورة حسب تلك الفترة، حيث فتح تأسيسها خطوط شراء الأفلام من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.


  • سينما “ريكس”.. استهداف العصابات الصهيونية لدور السينما

كان المستثمر يوسف البنا المالك الرئيس لقاعة “سينما ريكس”، ثم أصبح المقاول البريطاني الذي بناها شريكا له، لذلك لم يكن روّادها من العرب فحسب، بل من البريطانيين أيضا، وجنت تلك الشراكة الفلسطينية البريطانية على مالكيها وعلى جمهورها، حيث كانت قاعة السينما المذكورة هدفا للإرهاب اليهودي.

فبعد صدور الكتاب الأبيض الذي أصدرته بريطانيا في العام 1939، وقيّد في أحد بنوده هجرة اليهود إلى فلسطين، ومُنعوا من شراء الأراضي العربية؛ رد اليهود بعنف على تلك البنود، واستهدفوا الممتلكات البريطانية، ولم تستثن قاعة سينما “ريكس” من أعمال العنف التي قادوها،

ففي التاسع والعشرين من مايو/أيار عام 1939 زرعت منظمة “إرغون” الصهيونية عبوات متفجرة خلال عرض فيلم “طرزان والقرد شيتا”، وقتل خلال تلك العملية 8 أشخاص من الجمهور وجرح 18 آخرين.

كما كانت قاعة “سينما ريكس” هدفا ثانيا لمنظمة “إرغون” في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1947، بالتزامن مع ذكرى وعد بلفور، إذ أحرقت المنظمة الصهيونية قاعة السينما، واستهدفت الفارين من داخلها بالرصاص.

صورة لسينما الحمراء التي اشتهرت بنشاطها في مدينة يافا سنة 1937

وفي مدينة يافا التي ضمت 17 قاعة سينما في ثلاثينيات القرن الماضي، اشتهرت سينما الحمراء التي بدأت نشاطها في العام 1937، وعرفت كذلك بأنها إحدى قاعات العمليات التي مهدت لإطلاق المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني التي بدأت في شهر سبتمبر/ أيلول عام 1937، وذلك من خلال استضافتها للاجتماعات السياسية.

انتشرت دور السينما في فلسطين خلال الانتداب البريطاني، واشتهرت حيفا بوصفها إحدى مراكز قاعات العروض، وأبرزها قاعة “عين دور” التي بدأت بعرض الأفلام عام 1931، وكان مالكوها من اليهود، واحتضنت تلك القاعة حفل أم كلثوم حين زارت حيفا في ذلك العام، وفي سنة 1935 افتتحت قاعة “سينما آرمون”، وكانت قاعة كبيرة فاق عدد مقاعدها ألف مقعد.


  • قانون الصور المتحركة.. كبح جماح الثائرين في صناعة السينما

كانت حكومة الانتداب البريطاني واعية بخطورة السينما التي يمكن أن تُهدد سلطتها وسطوتها في مستعمراتها، ففي العام 1929 صدر قانون إلزامي خاص يُسمى قانون الصور المتحركة، ومنح هذا القانون سلطة رقابية على الأفلام والمسرحيات بذريعة منع نشر الفاحشة والفساد الأخلاقي لدى الجمهور.

في كتاب “السينما الفلسطينية: أرض، صدمة، وذاكرة” يقول كاتبه المخرج الفلسطيني جورج خليفة: حتى لو حاول صانعو الأفلام الفلسطينيين ذوو الدوافع الوطنية استخدام السينما لأغراض الدعاية أو كأداة لبناء أيديولوجيا، كما فعلت السينما الصهيونية؛ فإن حكومة الانتداب البريطاني لم تكن لتسمح بذلك.

فبالإضافة إلى قانون الصور المتحركة عام 1929، وقانون الصحف عام 1933 الذي منح السلطات الرقابية صلاحيات التقييد، بما في ذلك إغلاق دور السينما بسبب الفجور والفساد؛ صدر قانون جديد في العام 1935، سُمّي بقانون الترفيه العام، وحدّد هذا القانون شروط عرض الأفلام للجمهور.

اشتدت الرقابة البريطانية على السينما في فلسطين، خاصة بعد اندلاع  المقاومة الفلسطينية ضدها، ففي العام 1939 أضاف “قانون عدد 57” بندا جديدا يُلزم أصحاب دور السينما بتقديم لائحة الأفلام قبل عرضها إلى ملازم الشرطة البريطاني، ويحظر ذلك البند أي تعديلات في أوقات عرض الأفلام دون موافقة السلطات البريطانية هناك.

وينص مرسوم الرقابة للعام 1939 على أنه يُمنع طباعة أو نشر أو عرض أو بيع أي لوحات أو صور فوتوغرافية أو أفلام أو أي صور أخرى تتضمن مشاهد عنيفة، أو ضحايا عنف، أو أشخاصا يحملون أسلحة، أو يُشتبه في حملها ضد الحكومة، أو صورا تُصور نشاطا عسكريا.


  • زيارة الأمير سعود للقدس.. فيلم صامت يُشكّل انطلاقة السينما الفلسطينية

يبدو أنه من العسير تقسيم مراحل تأسيس السينما الفلسطينية منذ نشأتها إلى غاية نضجها ووصولها إلى العالمية، غير أن كتاب “السينما الفلسطينية: أرض، صدمة، وذاكرة” قدّم فواصل تقريبية لتلك المراحل رغم تداخل بعضها، ويمكن أن تساعد على تمييز محطات تطور صناعة الأفلام في فلسطين،

ويذكر الكاتب أربع فترات ميزت السينما الفلسطينية، الأولى في فترة الانتداب البريطاني، والثانية تمتد ما بين فترتي النكبة والنكسة (أي ما بين 1948-1967)، وتسمى تلك المرحلة بعصر الصمت، أما المرحلة الثالثة فتمتد بين العامين (1968-1982)، وهي فترة ما يسمى بسينما الثورة الفلسطينية، أما المرحلة الرابعة فهي ما تعيشه السينما الفلسطينية اليوم.

لم يكن من اليسير أن تُزهر صناعة الأفلام في فلسطين، فقد عاشت تلك الأرض مرحلة مقاومة المحتل البريطاني من جهة، وهجرة اليهود الحاملين في حقائبهم أحلامهم بتأسيس وطن لهم، مما يعني ضرورة القضاء على أحلام أصحاب الأرض الحقيقيين، لكن رغم تلك الظروف لم يقاوم الفلسطينيون سحر السينما، ففي العام 1935 صوّر إبراهيم حسن سرحان -وهو أحد رواد السينما الفلسطينية- فيلما مدته عشرين دقيقة، وثّق فيه زيارة الأمير سعود للقدس ويافا، ولقاءه بمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني.

أحد رواد السينما الفلسطينية إبراهيم حسن سرحان الذي صوّر فيلما وثّق فيه زيارة الأمير سعود للقدس ويافا


شكل ذلك الفيلم نقطة انطلاق السينما الفلسطينية، وقد كشف إبراهيم حسن سرحان في حوار له مع المخرج قاسم حول أن الفيلم كان صامتا، لكنه وضع أسطوانة مؤثرات موسيقية خلال العرض، حتى ظن الجمهور أن الفيلم ناطق.

أخرج إبراهيم حسن سرحان فيلمه وهو في الخامسة والعشرين من العمر، وذلك بالاعتماد على أدوات متواضعة، وذكر الباحث “عدنان مدانات” في الموسوعة الفلسطينية أن “إبراهيم حسن سرحان اشترى كاميرا، وقرأ كتبا عن فن التصوير والعدسات والطبع والتحميض، وصنع أجهزته بنفسه، بما في ذلك طاولة المونتاج”.

وثّق إبراهيم حسن سرحان أيضا زيارة أحمد حلمي باشا عضو الهيئة العربية العليا، وقد كافأه بمبلغ ثلاثمائة جنيه فلسطيني بعد مشاهدته فيلمه.


  • “أحلام تحققت”.. حلم إبراهيم حسن سرحان الذي لم يتحقق

يذكر “أرشيف الصحف العربية من فلسطين العثمانية والانتدابية” الذي يجمع الصحف العربية في فلسطين في فترة ما قبل الاحتلال الصهيوني، أن إبراهيم حسن سرحان كان يحلم بإنجاز فيلم، لكنه لم يكن يملك سوى 15 جنيها فلسطينيا، فنشر الإعلان التالي في صحيفة “الدفاع” في عددها الصادر يوم 19 نوفمبر/تشرين الأول من العام 1944:

“إعلان هام حول إخراج أول فيلم سينمائي فلسطيني:

عزمت فرقة الثقافة والفنون بالقدس على إخراج أول فيلم فلسطيني بعون الله، ومؤازرة الشعب العربي الكريم، وترجو لهذه المناسبة من أدباء وكتاب فلسطين الكرام أن يزودوها بروايات من تأليفهم بأقرب فرصة ممكنة، على أن تكون الرواية اجتماعية وفلسطينية الوقائع، غنائية، راقصة..”.

فيلم “عاصفة في بيت” للمخرج إبراهيم حسن سرحان

 

تمكن إبراهيم حسن سرحان من جمع قرابة ألفي جنيه فلسطيني دفعها أشخاص قرؤوا إعلانه، وتمكن من تأسيس “أستوديو فلسطين”، وصنع طاولة للمونتاج، وجهاز تقطيع الأفلام (مافيولا)، حسب ما صرح به في مقابلة مع المخرج العراقي قاسم حول في العام 1974.

أخرج إبراهيم حسن سرحان فيلما بعنوان “أحلام تحققت” مدته خمس وأربعين دقيقة، وبعد أن أسس “شركة الأفلام العربية” فيلما بعنوان “في ليلة عيد”. يقول إبراهيم في المقابلة الوحيدة مع المخرج قاسم حول: إن الفيلم يقوم على الحيل السينمائية وأحداث العصابات، وفي الفيلم كوميديا وحيل سينمائية.

لكن الفيلم لم يُعرض، وذلك بعد خلاف سرحان مع الممول، كما لا يعرف أحد مصيره. ولم ينه إبراهيم حسن سرحان فيلمه الروائي الذي يحمل عنوان “عاصفة في بيت” بسبب كلفته الباهظة، رغم أنه استمر في نشر إعلانات في الصحف الفلسطينية في العام 1945 عن الفيلم وعن أبطاله.


  • “حلم ليلة”.. حب يصطدم بالفوارق الاجتماعية في أول روائي فلسطيني

في منتصف أربعينيات القرن الماضي، ظهر مخرجون محترفون درسوا الإخراج والتصوير، مثل أحمد حلمي الكيلاني وجمال الأصفر اللذين أسسا معا “الشركة العربية لإنتاج الأفلام السينمائية” في فلسطين، ويذكر الكاتب الأردني حسان أبو غنيمة في كتابه “فلسطين والعين السينمائية” أن فيلم “في ليلة العيد” كان من إخراج جمال الأصفر، وليس إبراهيم سرحان.

فيلم “أمنيتي” الذي أخرجه بدر خان عام 1947، ويحكي قصة شاب فلسطيني وقع في حب فتاة مصرية وتزوجها، ثم عادا معا إلى فلسطين ليعيشا المآسي


كما يذكر الكاتب محسن البلاسي في كتابه “الخيال الحر” أن أول فيلم روائي فلسطيني أخرجه صلاح الدين بدرخان في العام 1946، وكان بعنوان “حلم ليلة”، في حين تصف مصادر أخرى الفيلم بأنه فيلم مصري عرض في العام 1949، وذلك بسبب أصل مخرجه المصري.

يروي الفيلم قصة شاب يحلم بتأسيس معهد لتدريس الموسيقى، حيث يقع في حب فتاة ذات مركز اجتماعي مرموق، لكنهما يصطدمان بالفوارق الاجتماعية بينهما. كما أخرج بدرخان فيلما آخر بعنوان “أمنيتي” عام 1947، وتدور أحداثه بين مصر وفلسطين، حيث يقع شاب فلسطيني في حب فتاة مصرية ويتزوجها، ثم يعودان معا إلى فلسطين ليعيشا المآسي والانتصارات معا.


  • عصر الصمت.. صدمة السينما ما بين النكبة والنكسة

لا يمكن تحديد قائمة للأفلام الفلسطينية في ما قبل النكبة بيقين ثابت بسبب ضياع أغلبها، لكن المؤكد أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين قضى على مشاريع أفلام كانت ستنتج من قبل مخرجين فلسطينيين عادوا إلى بلدهم، وكان يمكن أن يقلبوا مسار صناعة الأفلام في فلسطين،

فالمخرج إبراهيم حسن سرحان وأحمد حلمي الكيلاني وجمال الأصفر ومحمد صالح الكيالي -الذي أعاقته النكبة عن إنجاز فيلم عن القضية الفلسطينية بالتعاون مع جامعة الدول العربية- غادروا بلدهم جميعا بعد النكبة، وعاشوا في الشتات في دول عربية، مثل الأردن والكويت ولبنان ومصر وليبيا، ولعل أبرز الراحلين عن فلسطين كان المخرج مصطفى أبو علي الذي هاجر نحو الأردن بعد النكبة، وهو أبو سينما الثورة الفلسطينية.


بدأت المرحلة الثانية من السينما الفلسطينية بين العامين (1948-1967)، وهي الفترة الفاصلة بين النكبة والنكسة، حيث لم يكد الفلسطينيون يستفيقون من هول صدمة الاستيلاء على أجزاء من وطنهم، حتى لحقتها صدمة أخرى بعد قرابة العشرين عاما، وذلك بعد توسّع الاحتلال الإسرائيلي في بقية الأراضي الفلسطينية.

سُميّت تلك المرحلة من عمر السينما الفلسطينية بعصر الصمت، حيث انعدم تقريبا الإنتاج السينمائي الفلسطيني، لكن في المقابل لم تغب الصورة تماما عن توثيق مرحلة ما بعد النكبة، حيث نشط مصوّرون فوتوغرافيون، والتقطوا صورا للعمليات الفدائية وللمجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، ولم تكن موجة التوثيق تلك منظمة رغم حماسيتها، بل كانت مبادرات فردية من بعض المصورين والهواة.


  • سينما الثورة الفلسطينية.. بداية الحلف بين العدسة والبندقية

في أواخر شهر ديسمبر/ أيلول عام 1964، فجرت حركة فتح نفق عيلبون الذي تسحب من خلاله مياه نهر الأردن نحو مستوطنات صحراء النقب، وعرفت تلك العملية بعملية عيلبون، وكانت إيذانا بالثورة الفلسطينية المعاصرة التي صاحبها مسار جديد للسينما التي سميت بسينما الثورة الفلسطينية، وذلك بسبب السياق الثوري الذي وجدت فيه خاصة بعد العام 1967 من جهة، والتصاقها بفصائل المقاومة من جهة أخرى.

كانت المنظمات الفلسطينية المقاومة تعي جيدا أنها بحاجة لذراع دعائي، إضافة إلى ذراعها العسكري، وأن السينما هي الذراع الأنسب لمعاضدتها في المقاومة.

سلافة جاد الله مرسال هي أول مصورة فلسطينية ومن مؤسسي سينما الثورة الفلسطينية


بدأت سينما الثورة الفلسطينية من خلال تكوين قسم التصوير الفوتوغرافي الذي صوّر في العام 1967 بعض المشاهد الخاصة بالثورة، ويذكر الكاتب الأردني حسان أبو غنيمة في كتابه “فلسطين والعين السينمائية” أن شابة فلسطينية تُدعى سلافة جاد الله مرسال درست التصوير في القاهرة عام 1967، وأسست وحدة تصوير صغيرة، وكانت تلك الوحدة عبارة عن مختبر سري أنشأته في مطبخ منزلها، واستعملت فيه معدات بدائية، وكان نشاطه متركزا في الغالب على توثيق صور الشهداء الفلسطينيين.

انتقل مخبر سلافة جاد الله مرسال إلى مكاتب فتح في الأردن، لتؤسس رسميا وحدة التصوير الفوتوغرافي التي جاءت في إطارها أولى المبادرات نحو ما يعرف بسينما الثورة الفلسطينية، بعد أن قررت فتح ضرورة توسيع نشاط الوحدة، ليشمل مجال السينما من أجل توثيق الأحداث والتعريف بالقضية الفلسطينية.

كما شارك مصطفى أبو علي في تأسيس وحدة السينما التابعة لقسم التصوير الفوتوغرافي بحركة فتح في العام 1968، وأنتج أول فيلم تسجيلي بعنوان “لا للحل السلمي”، وقد أشرف عليه مصطفى أبو علي، وشارك في تصويره صلاح أبو الهنود وهاني جوهرية وسلافة جاد الله مرسال، ويصور الفيلم الرفض الشعبي في فلسطين لـ”مشروع روجرز”.


  • اجتياح لبنان.. أحداث دامية أوقفت نشاط السينما الثورية

التصقت السينما الفلسطينية في تلك الفترة بالأحداث الدامية التي مست الفلسطينيين وحركات المقاومة، فلم تغب تلك المضامين عنها، فأحداث أيلول الأسود مثلا طبعت أعمال مجموعة السينمائيين العاملين في وحدة السينما التابعة لحركة فتح، حيث أخرج مصطفى أبو علي فيلم “بالروح بالدم” الذي قدّم أحداث أيلول الأسود في العام 1970، وتضمن مشاهد تسجيلية حقيقية تخللتها مشاهد تمثيلية.

 

تميّزت الفترة الثالثة من تطور السينما الفلسطينية التي عرفت بسينما الثورة بارتباطها بالسياسة والمقاومة، فبالتوازي مع هيئة الإنتاج المركزية، أنشأت فصائل المقاومة وحدات الإنتاج الخاصة بها، فأسست الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين “اللجنة الفنية”، ثم أستوديو إنتاج باسم “الأرض”، وكان للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحدات إنتاج سينمائي خاصة بها أيضا.

انتهت الفترة الثالثة في العام 1982، وذلك بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي، وأوقفت وحدة الإنتاج السينمائي التابعة للمنظمة نشاطها، وهو الشأن ذاته لوحدة الإنتاج التابعة للجبهة الديمقراطية، وجمعت أفلام تلك الحقبة جميعا، وسُميت بسينما الثورة الفلسطينية، أو سينما المنظمات الفلسطينية، وقد أسست لسينما فلسطينية جديدة.


  • “عائد إلى حيفا”.. نبش مفهوم الوطن والانتماء على خطا غسان كنفاني

نشطت حركة الإنتاج السينمائي الفلسطيني في تلك الفترة، وكانت مدعومة أساسا من الفصائل الفلسطينية، مثل حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فحاجة حركات المقاومة إلى السينما في تلك الفترة كانت بقدر حاجتها إلى السلاح، حتى أنها فتحت الباب أمام مخرجين من العراق من أجل إخراج أفلام يدور مضمونها حول المقاومة الفلسطينية.

ففي العام 1971 أخرج المخرج العراقي قاسم حول وثائقي “النهر البارد”، وأخرج فيلم “بيوتنا الصغيرة” عام 1974، وصوّر فيه المخرج تدمير الجيش الإسرائيلي مخيمات فلسطينية، وفي العام ذاته أخرج فيلم “لن تسكت البنادق”.

 

أخرج قاسم حول ثاني فيلم روائي طويل وهو فيلم “عائد إلى حيفا” عام 1982، وقد استلهمه من رواية غسان كنفاني التي تحمل العنوان ذاته، وهي من أكثر الروايات العربية غوصا في مفهومي الوطن والانتماء، وقد أنتجته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

تدور أحداث الفيلم في العام 1948، حيث تدكّ مدافع إسرائيلية مدينة حيفا، فهناك تركت سيدة فلسطينية رضيعها في المنزل بحثا عن زوجها، لتعود بعد حرب 1967 إلى منزلها، فتجد أن ابنها الرضيع قد تبنته امرأة إسرائيلية أسمته “دوف”، وأصبح جنديا إسرائيليا، تتطور أحداث الفيلم وتبلغ ذروتها حين يعرف الابن حقيقته، لكنه يُصر على البقاء إلى جانب أمه التي ربته.

لم يكن قاسم حول المخرج العربي الوحيد الذي أنتج أفلاما صُنّفت ضمن أفلام سينما المقاومة الفلسطينية، فقد كان المخرج العراقي فريد إبراهيم حسين المعروف باسم سمير نمر أحد مؤسسي “مؤسسة السينما الفلسطينية” التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد أخرج فيلم “حرب الأيام الأربعة” (1973)،

كما أصبح مخرجون عرب آخرون رموزا لسينما الثورة الفلسطينية، مثل المخرجين اللبنانيين رفيق حجار الذي أخرج فيلما تسجيليا بعنوان “الانتفاضة”، وجان شمعون صاحب فيلم “أنشودة الأحرار” الذي أخرجه في العام 1978.


  • “عرس الجليل”.. فاتحة العهد السينمائي الجديد

في العام 1987 عُرض فليم “عرس الجليل” للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفة، وقد حاز الفيلم على جائزة النقاد في مهرجان كان الدولي، لكنه كان تحت لافتة الأفلام البلجيكية لا الفلسطينية.

لقطة من فيلم “عرس الجليل” للمخرج ميشيل خليفة، والذي شكّل فاتحة عهد جديد للسينما الفلسطينية


يروي الفيلم قصة ابنة مختار قرية فلسطينية أقيمت حفلة عرسها بحضور الحاكم العسكري الإسرائيلي، فشحنت الأجواء وتداخلت الأحداث بين اندماج الجنود الإسرائيليين في طقوس العرس الفلسطيني، وبين التوجس الأمني من الجانبين.

كان فيلم “عرس الجليل” فاتحة عهد جديد للسينما الفلسطينية بمضامينها الأكثر نضجا فنيا، وبارتباطها بتمويلات صناديق الدعم، وإنتاج أفلام بطاقم فلسطيني بحت، كما هو الشأن للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في فيلمه “حتى إشعار آخر” الذي أخرجه عام 1993، ويروي حياة الفلسطينيين في غزة خلال فرض حظر التجول من قبل جيش الاحتلال.


  • مي المصري.. منعرج فارق في السينما الفلسطينية

في بداية التسعينيات أحدثت المخرجة الفلسطينية مي المصري منعرجا فارقا في السينما الفلسطينية أخرجها من توصيف سينما المنظمات الفلسطينية، إلى تجربة أخرى يمكن تسميتها بالسينما الفلسطينية الجديدة، فلم تستلهم مي المصري من خطاب سينما الثورة الفلسطينية، ولا اعتمدت أساليب عملها، بل انحازت بأعمالها إلى ما يُسمى بالسينما الفلسطينية الجديدة التي بدأت تتشكل متأثرة بسياقات سياسية جديدة.

 

أخرجت مي المصري أفلاما كثيرة، مثل “أطفال جبل النار” (1990)، و”حنان عشراوي امرأة في زمن التحدي” (1995)، وهو فيلم يروي قصة المتحدثة باسم السلطة الفلسطينية آنذاك، وفيلم “أطفال شاتيلا” (1998)، وفيلم “أحلام المنفى” (2001)، وهو فيلم وثائقي يُصوّر حياة أطفال مخيمي “شاتيلا” في لبنان و”مخيم الدهيشة” في الأراضي الفلسطينية، حيث يتشارك كلاهما المعاناة ذاتها.

نشطت حركة الإنتاج السينمائي التي قادها سينمائيون فلسطينيون داخل فلسطين وفي الشتات أيضا، وأنجبت ثمانينيات القرن الماضي مخرجين كثرا نهلوا من مآسي وطنهم الماضية والحاضرة، وكان من بينهم المخرج علي نصار صاحب فيلم “مدينة الشاطئ” (1985)، وحنا إلياس الذي أخرج فيلم “رحيل” (1986)، وقد حصد جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2003، وذلك عن فيلمه الروائي الطويل “قطاف الزيتون” الذي أخرجه سنة 2002.


  • روّاد السينما الجديدة.. رحلة العالمية المحفوفة بأشواك اللوبي اليهودي

لم تكن فترة نشأة ما يعرف بالسينما الفلسطينية الجديدة منفصلة عن السياق السياسي الذي عاشته فلسطين خاصة في بداية التسعينيات، رغم التوجه الواضح نحو إنتاج أفلام تختلف عن المضامين الدعائية التي عرفتها سينما الثورة الفلسطينية، ففي بداية الانتفاضة الفلسطينية الكبرى أخرج عدد من السينمائيين -وهم سهير إسماعيل ونزيه دروزة وعبد السلام شحادة- فيلم “يوميات فلسطينية” (1991)، وكان هذا الفيلم نتاج ورشة سينمائية نظمتها مؤسسة “القدس للإنتاج السينمائي”.

كانت فترة التسعينيات وبداية الألفينيات زاخرة بالإنتاج السينمائي، فقد أخرج عبد السلام شحادة مثلا في العام 2000 ثلاثة أفلام، وهي “الظل” و”حجر بحجر” و”القصبة”، وولدت أسماء أخرى انخرطت في السينما الفلسطينية الجديدة، مثل المخرج عمر القطان الذي أخرج فيلمه “أحلام في الفراغ” (1991)، تلاه فيلم “العودة”.

 

قاد روّاد السينما الفلسطينية الجديدة أفلام بلدهم إلى العالمية رغم الأسوار التي ضربت من حولها حتى لا تحصد الجوائز، خاصة في هوليود، وكان المخرج إيليا سليمان أحد هؤلاء الذين حلّقوا بالسينما الفلسطينية عاليا.

فقد أخرج مجموعة من الأفلام، مثل “مقدمات لنهايات جدال” (1990)، و”تكريم بالقتل” (1992)، وفيلمه الروائي الطويل “سجل اختفاء” (1996) الذي كان أول فيلم فلسطيني يعرض في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصد جائزة “لويجي لاورنتيس” في مهرجان البندقية.

ثم أخرج فيلم “يد إلهية” (2002) الذي أوصله إلى منصات التتويج في أعرق المهرجانات السينمائية، وحصد جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان الدولي سنة 2002، رغم أن لجنة قبول الترشحات لجائزة الأوسكار رفضت قبول ترشيح الفيلم للجائزة في العام 2003، وهو أمر متوقع خاصة مع تحكم اللوبي اليهودي في مفاصل صناعة الأفلام في الولايات المتحدة الأمريكية.

“الجنة الآن”.. أفلام المنفى ترسم طريقها إلى الأوسكار

خاض السينمائيون الفلسطينيون منذ بداية الألفين معركتهم على أساس مبدأين لا حياد عنهما، وهما سينما نوعية شبيهة بتلك التي خلقتها إيطاليا وهي تنفض عن نفسها غبار دمار الحرب العالمية الثانية، ومضامين القضية الفلسطينية مهما كانت القراءات لها، فأنتجوا أفلاما من منافيهم المتعددة بجرأة أكبر، وبرؤية سينمائية  متميزة.

فالمخرج هاني أبو أسعد كان جريئا في فيلمه “الجنة الآن” (2005)، إذ يُصوّر آخر 48 ساعة من عمر شابين فلسطينيين يستعدان للقيام بعملية فدائية، وعلى إثرها اتُهم المخرج الفلسطيني بتهمتين متقابلتين، الأولى هي تمجيد العمليات الاستشهادية، والثانية خيانة القضية الفلسطينية.

رُشِّح الفيلم لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، وحصد جوائز عالمية في العام 2005، مثل جائزة غولدن غلوب، وجائزة الفيلم الأوروبي في العام ذاته، وجائزة مهرجان برلين للسينما العالمية، وجائزة العجل الذهبي في هولندا، غير أن الجدل احتدم بسبب ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار.

 

كما قادت المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر السينما الفلسطينية إلى مهرجانات دولية عن طريق فيلم “ملح هذا البحر” (2008)، ونال جائزة أفضل فيلم في مهرجان ميلانو، كما رُشح لفئة أفضل فيلم أجنبي في مهرجان كان عام 2009، واقتلع الفيلم مركزا في قائمة أفضل مئة فيلم عربي وضعها مهرجان دبي.

تتالت تتويجات السينما الفلسطينية حتى أنها أخذت القضية إلى أبعد من مكاتب السياسة والسياسيين، لكي تصبح قضية رأي عام انطلقت من مآسي الشعب الفلسطيني، لتحتل مقاعد أولى في أكبر محافل السينما العالمية.


المصدر

بلال المازني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى