“سعيد صالح” – المشاغب اللاذع وعبقري المسرح
بعد 18 يوما من بداية حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وبينما كانت فوهات دبابات الجيش المصري قد حددت هدفها ووُجهت نحو الجيش الإسرائيلي، خاض الممثل المصري سعيد صالح مع مجموعة من فرقة الفنانين المتّحدين مثل عادل إمام وأحمد زكي ويونس شلبي وسهير البابلي حربا خاصة على خشبة المسرح ضد المعلمة عفّت عبد الكريم التي صمدت ضد حرب الأعصاب التي شنها عليها طلابها داخل الصف ومن ضمنهم مرسي الزناتي الذي تقمص دوره الممثل سعيد صالح، حيث كانت أولى انتصارات صالح التي قاده بعضها إلى المجد، ولكن أيضا إلى السجن.
- خطوات أولى.. نحو النجومية
يقول الكاتب الساخر محمود السعدني عن سعيد صالح: كان موهوبا متشردا هاربا من الدراسة، شديد الضيق منها، هائما على وجهه يبحث عن نفسه، ولا شك في أنه وجد نفسه فجأة بمسرح التليفزيون.
كان للممثل الكوميدي سعيد صالح دورا في مسرحية “هالو شلبي”، وذلك بعد أن اكتشفه الممثل حسن يوسف، لتتوالى الأعمال التي قدمها وتصل إلى قرابة 500 فيلم و300 مسرحية، ويفاخر سعيد صالح بأن: السينما المصرية أنتجت 1500 فيلم وكان ثلثها من نصيبه.
كانت بداية صالح بطيئة متوازنة ومتواضعة، فقبل عشر سنوات من عرض مسرحية مدرسة المشاغبين التي سطع فيها نجمه وخلّدت بعض كلماته، شارك فتى المسرح سعيد صالح -كما يحلو له أن يسمي نفسه- في التمثيل بمسرحيتين هما “كفر مجاهد” و”حارة الشرفاء”، إضافة إلى مسلسل هارب من الأيام، وخلال ذلك العقد من الزمن كانت له أدوار في قرابة 19 مسرحية وفيلما، أبرزها فيلم “قصر الشوق” في عام 1966 وفيلم “إضراب الشحاتين” عام 1967 وفيلم “كيف تسرق مليونيرا” عام 1968.
كان العام 1973 هو عام الخلود بالنسبة لسعيد صالح، فقد قام فيه بإضحاك الجمهور لأجيال كثيرة رغم قساوة تلك الفترة التي توالت فيها الهزائم تجاه العدو الإسرائيلي، فقد أدى صالح دور مرسي الزناتي في مدرسة المشاغبين بعد أن عُرض عليه دور بهجت الأباصيري في البداية والذي أداه فيما بعد الممثل عادل إمام، وهو ما صرح به مؤلف المسرحية علي سالم، فقد تخلى سعيد صالح عن هذا الدور لصالح صديقه عادل إمام الذي أتقن الدور.
وهنا نفهم لماذا بقي سعيد صالح في ظل عادل إمام رغم عبقرية صاحبنا، فباستغنائه عن دور البطولة في المسرحية بقي سعيد صالح دائما “صاحب صاحبو” والشخصية الثانية بعد عادل إمام، والتصقت به هذه الصورة إلى آخر حياته وفي كل أعماله مع شريك دربه.
في إحدى مقابلاته قال سعيد صالح: أنا وعادل لو ما كُنّاش مثّلنا كان زمانا دلوقتي قاعدين في السجن، سنة 1962 وجدتُ ضالتي في مسرح التلفزيون، وكنت شديد التركيز على أن أكون ممثلا مسرحيا أولا وأخيرا، المسرح حياة، وجزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، حينها كنتُ الأول على دفعتي في المسرح>
صورة تجمع سعيد صالح مع النجم المصري يونس شلبي في مشهد من مسرحية “مدرسة المشاغبين” التي كانت ذات تأثير أسطوري
- مدرسة المشاغبين.. نجاح أغرى السلطة
ليس من السهل حصر مسيرة الممثل المصري الكوميدي سعيد صالح في بضع صفحات، فالرجل احتل أغلب الأعمال الفنية البارزة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، وقد كانت كفيلة بنحت اسمه في ذاكرة جمهور المسرح والسينما على حد سواء، ليس في تلك الفترة فحسب، بل إلى غاية الآن لا يزال الممثل سعيد صالح قادرا على فرض الابتسامة على وجوه من يشاهد مسرحياته من جيل جديد هو وليد زخم فني مستحدث وكوميديا لها أسس مختلفة.
كانت “ملحمة المشاغبين” في مسرحية “مدرسة المشاغبين” ذات تأثير أسطوري، حتى إن عرضها استمر لمدة ست سنوات لتستتبعها مسرحية أخرى مرتبطة بأحداثها وشارك فيها سعيد صالح وهي مسرحية “العيال كبرت” عام 1979.
ظل الممثل سعيد صالح يحصد نجاحا تلو آخر، وكان تعلقه بالمسرح قد جعله يبدع في استعمال موهبة الارتجال وكسر حاجز النص، حتى إن الممثل المصري الكبير عبد المنعم مدبولي اعتذر عن أداء دور الناظر عبد المعطي في مدرسة المشاغبين وأداه فيما بعد الممثل حسن مصطفى، وذلك بسبب طول ساعات العمل في تلك المسرحية وارتجال الممثل سعيد صالح وعادل إمام وخروجهما عن النص الذي أدى إلى إطالة المسرحية.
وكان لسعيد صالح مكانة كبيرة لدى جمهوره، ويبدو أن أثر السخرية كان كبيرا لدى المشاهدين حيث كانت تخيف المسؤولين في تلك الفترة التي كان فيها صالح في أوج عطائه.
وفي كل مرة يقف سعيد صالح ليواجه “محاكمة” الرقابة بحق أعماله أو تصريحاته، فمدرسة المشاغبين واجهت انتقادات كثيرة من قبل علماء الاجتماع الذين اعتبروا أن المسرحية التي كان صالح أحد أبطالها، تُروج للسخرية من رموز التعليم والسلطة وهم الناظر والمعلمة، كما اعتبر مصطفى كمال حلمي وزير التعليم العالي المصري آنذاك أن مسرحية مدرسة المشاغبين كانت أحد أسباب انهيار مستوى التعليم.
وفي عام 1978 رفعت نقابة المعلمين دعوى ضد المسرحية من أجل وقف عرضها على التلفزيون المصري، وزعمت النقابة أن المدارس المصرية شهدت ظاهرة الاعتداء على المعلمين التي لم تكن موجودة قبل المسرحية واتُهمت بنشر ثقافة العنف بعد أن قام بعض الطلبة بالاعتداء على معلمين.
وفي بداية حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، قام فريق من أطباء النفس المصريين بإجراء دراسة بخصوص الآثار الممكنة لمسرحية مدرسة المشاغبين وشملت هذه الدراسة عشرة آلاف طالب مثيرين للشغب، وخلص هؤلاء الباحثون إلى أن قرابة 70% من العينة كانوا يقلدون أبطال المسرحية. وجاءت هذه الدراسة من أجل الضغط لإيقاف نجاح المسرحية التي كانت تنتقد بشدة المستوى التعليمي في المؤسسات التعليمية المصرية.
- حين يصبح الفن لعنة
“الممنوعات اللي بتتفصَّل على الغلابة بس، يضربوك في السجن ويقولك ممنوع الصراخ، يسكنوك في أوضة ربع متر ويقولك ممنوع تبص لفوق، تموت من الزحمة ويقولك ممنوع التجمهر.. نروح فين؟ كفاية ممنوعات بقى، كفاية إنت مبتتعبش”؟
كانت هذه جملة من مسرحية كعبلون تلاها سعيد صالح بغناء أغنية الممنوعات للعظيم شيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.
كان صالح حينها ملك الخروج عن النص، وصاحب شجاعة مفرطة أدت به إلى القائمة السوداء عند السلطة المصرية آنذاك، لكن لم يُسمح له بالتحليق بعيدا خارج النص، فقد أطبقت عليه أصفاد المباحث المصرية في العام 1983 بسبب جملة خارجة عن نص مسرحية “لعبة اسمها الفلوس” وهي “أمي تجوزت ثلاث مرات، الأول أكّلنا المِش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش.
وقيل حينها إنه يقصد بذلك الرئيس جمال عبد الناصر الذي خاض حروبا خاسرة مع إسرائيل، والرئيس أنور السادات الذي عقد اتفاق سلام تاريخي مع الدولة العبرية، والرئيس حسني مبارك الذي كان ينتهج سياسة خارجية ضعيفة وكان منبطحا أمام الدول الغربية. واتُهم سعيد صالح بالسخرية من الرؤساء وحكم عليه بالسجن ستة أشهر وغرامة مالية قيمتها خمسين جنيها.
قضى سعيد صالح أياما في السجن الاحتياطي، لكن جدلا كبيرا رافق هذا الحكم في بداية عهدة الرئيس الأسبق حسني مبارك، فاضطر القاضي إلى إصدار قرار بالإفراج عنه بكفالة مالية تقدر بـ100 جنيه.
ورغم قصر مدة سجنه تأثر سعيد صالح كثيرا بتلك التجربة التي يستحضر بعض تفاصيلها، حيث كانت غرفته بجانب غرفة المحكومين بالإعدام شنقا، فكره الأكل وفقد شهيته. وبعد خروجه من السجن قال إنه لم يقصد بسخريته المذكورة في مسرحيته الرؤساء الثلاثة المذكورين بل كان يقصد أحد الحاضرين في مسرحيته الذي كان نائما والذي تبيّن لسوء حظه أنه قاض، وهو الذي حكم عليه في تلك القضية بالسجن بعد أن أضاف في تقرير الرقابة تفوه صالح بعبارة منافية للآداب إضافة إلى نزع بنطاله خلال المسرحية، وهو ما أوقعه تحت طائلة قانون الآداب الذي ينص على عقوبة تصل إلى ثلاث سنوات سجنا.
لكن سعيد صالح أنكر ذلك قائلا إنه يحترم الجمهور، وكانت مواجهته للرقابة آنذاك جريئة جدا حيث اتهمها بالجهل وبأن وعي الرقيب لا يمكنه إدراك مقاصد المسرح الدرامية.
ورغم تجربته المؤلمة، لم يخفض الممثل سعيد صالح من سقف تحليقه خارج النص، فواصل سخريته وقال خلال عرض مسرحية “كعبلون” لمتفرج من الجمهور “إنت مالك؟ إنت تتكلم وأنا أرد وأخرج عن النص وانسجن تاني”.
تم إيقاف سعيد صالح بتهمة استهلاك الحشيش في عام 1991، ثم أفرج عنه واعتبر صالح هذا الإيقاف قرصة أذن له بعد أن كانت له تجربة مشابهة، حيث أفرج عنه بسبب غياب الأدلة الكافية لذلك، لكن بعد خمس سنوات، أي في العام 1996، قُبض عليه بالتهمة ذاتها وسُجن ثم أفرج عنه نهاية تلك السنة.
واجه سعيد صالح الرقابة الدينية أيضا بسبب تصريح إعلامي تحدث فيه عن تأييده التقبيل بين الرجل والمرأة قبل الزواج، فبعد الثورة على مبارك سنة 2011 تقدم مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بمذكرة للنائب العام طالبه فيها بمنع الممثل الكوميدي من الظهور في وسائل الإعلام بسبب موقفه المذكور، وسخر سعيد صالح كعادته من ذلك وقال إنه ليس بحاجة لأن يرشده أي شخص في هذا العمر، وأنه ليس لأي إنسان على وجه الأرض التدخل فيما يعتقده.
رحل عنا الفنان سعيد صالح في أغسطس/آب 2014 بعد رحلة مليئة بالتناقضات، فقد أضحك الملايين ومات باكيا، وذاق حرية خشبة المسرح وضيق السجن، وأوج الصحة والمرض الذي فتك به عن عمر ناهز 76 عاما.