قِمم بلا قواعد
من ادعى أن ما سمي الربيع العربي انتهى ليس له سوى أن يرى ما وقع في هذا الشهر (نيسان/ أبريل 2019) ليتأكد أن مبرراته ما تزال قائمة. لقد خرج السودانيون مطالبين بالتنحي، وكانوا من أوائل من خرج إبان ثورة الياسمين، وكان القمع سيد الموقف. كما أن الجزائريين لحقوا بالركب، وكانوا يرجون السلة بلا عنب، عندما اندلعت الأحداث في تونس ومصر والمغرب وليبيا واليمن خوفا من تكرار العشرية السوداء. فصار مصير البشير وبوتفليقة غير مختلف عما عرفته مصر وتونس. نستخلص من الوقائع الجديدة أن القمم في الوطن العربي بلا قواعد راسخة، وأنه مهما قيل ورفع من شعارات براقة عن الزعيم، وعن النظام الثوري، أو القائد الخالد لا يعدو أن يكون عبارة عن قطيعة بين الحاكم بأمر الله، والمحكوم عليه بأمر النظام.
إن الفرق شاسع بين أمير ميكيافللي، والحاكم بأمر الله الفاطمي. في الدول المتقدمة، سواء في الغرب أو الشرق نجد القاعدة هي الأساس، أو الركيزة التي تنهض عليها القمة، الشكل الطبيعي للهرم الذي يقدم نموذجا للصرح العالي الذي لا يؤثر فيه الزمن. أما عندنا فالعكس هو الواقع: الهرم المقلوب. القمة هي التي تؤسس القاعدة على هواها، وتفرض عليها شعاراتها وادعاءاتها بالأحقية، وأنها بدونها لا قيمة لها. في الدول المتقدمة القمة راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، ومتى لم تعد تضطلع بدورها على أحسن وجه، تعمل القاعدة على نبذها، وخلق قمة جديدة تتلاءم مع التطورات. وعندنا القمة راسخة لا تتبدل، وللقاعدة أن تظل متماسكة مع القمة، وإلا فلا يمكن أن تواجه إلا بما تفرضه عليها القمة من شتى أنواع العقوبات المعروفة والمبتكرة. ولعل أشدها إيلاما، ترسيخ فكرة أن هذه القمة قدر نهائي، ولا بديل عنها، وإلا سادت الفوضى، وعم الاضطراب، وانعدم الأمن. فكانت القاعدة بذلك مسؤولة عن رعاية القمة، خوفا عليها من السقوط والانهيار.
كان القذافي يرى نفسه قمة بلا قاعدة. كان يحتقر شعبه ويرى نفسه أكبر من أن يكون على رأس شعب لا يستحقه، ولذلك اتسع نطاق وهمه ليصبح ملك ملوك إفريقيا. وحين هدأت الأوضاع في الجزائر بعد معاناة لا حد لها خلال العشرية، اعتبر بوتفليقة “المنقذ”، وأن عبقريته تفتقت فأوصل السفينة إلى بر الأمان، وليست الحقيقة سوى أن الكل انتهى إلى قناعة ضرورة إيقاف النزيف العبثي. فتحول المنقذ إلى أسطورة وظل يتربع على رأس الهرم مجرورا على عربة. سمعت مرة أحد المسؤولين يزعم أنه سيصوت على عبد العزيز حتى ولو كان في القبر. ولا حصر للأمثلة.
ما يجرى في السودان والجزائر اليوم، بعد ثمانية أعوام من الخروج ضد الحاكم بأمر الله، يبرز أن الحلم الشعبي في أن تكون القمة قمة بمعنى جديد لأنها لا يمكن أن تتأسس إلا على قاعدة. وأن القاعدة هي الركيزة أو الأساس الذي تبنى عليه تلك القمة. وأن ما يستمر هو القاعدة، بينما القمة عابرة، ولحظية، وزائلة. هذا هو حلم الربيع العربي بعد عقود طويلة ومأساوية من تحكم القمة، وإحكام قبضتها على القاعدة، وكان ما كان مما صار يدركه الجميع.
حين أطلع على بعض الصور من أرشيف الذاكرة المغربية في العشرينيات من القرن الماضي مما صار الآن متاحا، ويطلع عليه الجميع من خلال الوسائط الجديدة، لا يمكنني إلا أن أستخلص أن الشعب كان يعيش زمنا لا علاقة له بالعصر الحديث: الجهل، الأمية والمرض، والفقر، وانعدام الأمن. كانت القاعدة مترهلة، وغير قابلة لأن يصمد بناؤها أمام أبسط التحولات، بله أن تكون مسؤولة عن بناء قمة. وبالمقابل كانت القمة، لأنها تمتلك المؤسسات، ولها الإمكانات المادية التي توفر لها سبل الحفاظ على نفسها. كان التمايز قويا بين القمة والقاعدة، وعلى المستويات كافة. فكانت هي التي تدبر الشؤون وفق ما تفرضه عليها مصلحة استمرار البناء. وخلال النضال ضد المستعمر، بدأ يتشكل وعي جديد، وبطيء لدى القاعدة، وهي ترى نفسها أمام عدو خارجي. وبدأ يتكون وعي بالوطن، وحس وطني يرى أن بإمكانه أن ينبي وطنا جديدا بناء طبيعيا تكون فيه القمة في خدمة القاعدة.
كان للمدرسة وللإعلام، في القرن الماضي، دور كبير في نشوء وعي جديد بضرورة تغيير البناء لتصبح فيه القاعدة هي أساس القمة، وانطلاقا منها يمكن أن تقام. فكان تأسيس الجماعات الاجتماعية، والمؤسسات الشعبية بداية لتحول جديد في العلاقة بين القمة والقاعدة. وكانت أحداث 20 فبراير مؤذنة بضرورة تبدل العلاقة بين القمة والقاعدة. تزامنت أحداث الربيع العربي مع الثورة الرقمية التي جعلت التواصل ممكنا بدون تدخل الرقيب، وجعلت وصول المعلومات وتداولها متاحا للجميع. لقد لعب التواصل وتداول المعلومات، عما يجري في الداخل والخارج، دورا كبيرا في جعل الجميع مدركا لواقع جديد، وأن التصورات التي كانت سائدة لم يبق أي مبرر لاستمرارها. صارت القاعدة اليوم أكثر إلماما بما كانت تجهله حتى وقت قريب. ومن هنا جاءت مطالبة جديدة بأن تكون القمة في مستوى تطلعات القاعدة.
إن الوعي الذي بدأ يتشكل لدى القاعدة، رغم كل ما ظل يحيط به من ترسبات ومتخيلات ناجمة عن أزمنة الهيمنة التاريخية للقمة، لا يوازيه وعي ملائم لدى القمة. ظل التعنت، وممارسة لعبة المواجهة والتصدي، ديدنها وهي تواجه قاعدة لا تريد سوى معادلة طبيعية لبناء هرم طبيعي. وما يعرفه الوطن العربي حاليا، جماعات وأشتاتا، ليس سوى واحد من نتائج تلك الممارسة. ألم يكن الأحرى مع تحول الزمن، ونهاية الحرب الباردة، وحصول تطورات جديدة على الصعيد العالمي، أن تكون القمة في المستوى الذي يؤهلها لتجديد بناء القاعدة، والعمل على بناء مجتمعات جديدة؟
إن الجواب الوحيد الممكن تقديمه في هذا النطاق هو أن الحاكم بأمر الله انتهى إلى وهم راسخ بأنه يمثل إرادة لا راد لها، وأنه سيبقى أبد الدهر. وأن علاقة القمة بالقاعدة أزلية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ هذا الوهم الذي كان يجد بعض مسوغاته في التاريخ، وفي امتلاك المؤسسات، وفي حرمان القاعدة من أن يكون لها حضور، وإلى جانب ذلك الدعم الذي كان يلقى من الدول الغربية التي لم تكن تهتم إلا بمصالحها، وغير معنية بما كانت تعانيه القاعدة، حتى وإن كانت ترفع بين الفينة والأخرى عصا حقوق الإنسان، والأقليات، والمرأة، فإنها كانت توظف لتأكيد المزيد من التبعية، وليس للدفع في اتجاه خلق علاقة جديدة بين القمة والقاعدة.
ما الذي يمنع من إقامة علاقة جديدة وعلى أسس سليمة بين القمة والقاعدة في الوطن العربي؟ أليس الإنسان العربي جديرا بأن يشارك في الحياة وفق إرادته في العيش الكريم على غرار الشعوب المتطورة؟ إلى متى ستظل القمم العربية بلا قاعدة؟ بل وتعمل على ألا تتصرف وكأنها بقاعدة؟ لقد تغير الزمان، فلماذا تصر القمة العربية على رفض تبدل الزمان، وعلى فرض فصل واحد على قاعدتها: رمضاء سرمدية، أو زمهرير أبدي؟ ألا يمكننا التفكير في ربيع يسهم فيه الجميع بلا تكبر أو استعلاء، أو تغييب وإلغاء؟ إن قمة بلا قاعدة بناء على أساس هار.