نظرية القوة الناعمة عند جوزيف س. ناي
قبل أكثر من أربعة قرون، نصح الفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي* Niccolò Machiavelli 1469-1527، الأمراء بأن يكون المرء مخوفاً أهم من كونه محبوباً. ولكن الأفضل في وقتنا المعاصر أن يكون المرء مالكاً لهاتين الصفتين معاً. فقد كان كسب القلوب والعقول مهماً على الدوام، ولكن الأهمية أكثر في عصر التطورات التكنولوجية الحديثة ووسائل التواصل والاجتماعي.
إنه عصر التأثير الثقافي الذي يمثل قمة فاعلية القوة الناعمة التي يمتد تأثيرها إلى كل البيوت دون استئذان.
مفهوم القوة الناعمة إن معنى القوة في المعاجم العربية ضد الضعف، والقوة: الطاقة من طاقات الحبل وجمعها قوى، وهي مبعث النشاط والنمو والحركة، وتنقسم إلى طبيعية وحيوية وعقلية، كما تنقسم إِلى باعثة وفاعلة. فالقوة الجاذبة: هي التي تدفع الشيء نحو المركز، أما القوة النابذة: التي تدفع الشيء للابتعاد عن المركز. وفي اللغة الإنكليزية فإن كلمة Power مأخوذة من الكلمة الفرنسية Pouvoir المنحدرة من أصل اللاتيني، التي تعني لغوياً القدرة والمكنة والاستطاعة.
وكلمة Power التي غالباً ما تترجم إلى العربية بـ (السلطة) وتشتمل على معنيين: الأول ينطوي على معنى القوة فيقال القوة العسكرية Power Military أو قوة الأفكارIdeas of Power . أما المعنى الثاني فينطوي على دلالة سياسية أو قانونية محددة. فيقال السلطة السياسية Power Politicalأو السلطة الفردية Power Individual().
وهذا يعني أن القوة كل قدرة يمكنها أن تحدث أثراً، وحسب ” بوتومور” يرى أن القوة هي قدرة أحد الأفراد أو الجماعات الاجتماعية على ممارسة هذا الفعل من أجل اتخاذ وتنفيذ القرارات، وذلك بشكل أوسع، وتحديد نظم وجدول العمل من أجل صنع القرار، بالمقابل يعتبر” فبير” أن القوة نوعاً من ممارسة القهر أو الإجبار بواسطة أحد الأفراد على الآخرين. وهكذا فإن القوة من منظور شامل يرتبط بها كل سلوك إنساني بصورة أو بأخرى خلال عملية التواصل والتأثير، حيث إن ظاهرة القوة تتخلل كافة الأنشطة الاجتماعية().
يعود مصطلح القوة الناعمة Soft Power إلى أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي جوزيف س. ناي *Joseph S. Nye، الذي قام بتطويره في كتابي ” ملزمون بالقيادة bound to lead ” الذي أصدره عام 1990، ثم عاود استخدامه في كتابه ” مفارقة القوة الأمريكية The paradox of American power ” عام 2002، ويستدعي مصطلح القوة الناعمة بشكل تلقائي نقيضه القوة الصلبة أو القاسية أو الخشنة().
وقد عرّف جوزيف ناي، مفهوم القوة الناعمة بأنه ” سلاح مؤثر يسعى إلى تحقيق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام، أو دفع الأموال “(). إنها في جوهرها قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استناداً إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدلاً من الاعتماد على الإكراه أو التهديد،
وهذه الجاذبية يمكن نشرها بطرق شتى: الثقافة الشعبية، الدبلوماسية الخاصة والعامة، المنظمات الدولية غير الربحية، مؤسسات المجتمع المدني، مجمل الشركات والمؤسسات التجارية العاملة.
كما عرفها بأنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية والصلبة()، أي القوة الجاذبة المفضية إلى السلوك المرغوب والمطلوب(). وهذا يعني بالضرورة:
- القدرة على تشكيل تصورات ومفاهيم الآخرين وتلوين ثقافتهم وتوجيه سلوكياتهم.
- أن تحصل على النتائج التي تريدها دون تهديدات ملموسة أو رشاوي.
- قدرة القوة الناعمة على تشكيل تفصيلات الآخرين.
- القوة الناعمة أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجة، بل هي القدرة على الجذب الذي يؤدي إلى الإذعان.
- عندما تبدو أفكار ما أو سياسة معينة مشروعة في عيون الآخرين، تتسع القوة الناعمة.
- القدرة في جاذبية النموذج والقيم والسياسات وصدقيتها وشرعيتها بنظر الآخرين.
ويحصر جوزيف ناي موارد القوة الناعمة لأي دولة من الدول الكبرى الفاعلة على المسرح السياسي العالمي في ثلاث مقومات أساسية: (1) الثقافة العامة وما إذا كانت جاذبة أم منفرة للآخرين، فعندما تحتوي ثقافة مجتمع ما على قيم عالمية، وتروج سياساته قيماً ومصالح يشاركه فيها الآخرون، فإنه يزيد من إمكانية حصوله على النتائج المرغوبة بسبب علاقاته التي يخلقها من الجاذبية والواجب، على العكس من ذلك القيم الضيقة لثقافة ما يقل احتمال إنتاجها للقوة الناعمة.
(2) القيم السياسية ومدى جدية الالتزام بها سواء في الداخل أم في الخارج سلماً أم حرباً. إن القيم التي تدافع عنها حكومة ما فتنتصر لها بسلوكها في الداخل (كالديمقراطية مثلاً) وفي المؤسسات الدولية (بالعمل مع الآخرين)، وفي السياسة الخارجية ( بتشجيع السلام وحقوق الإنسان) تؤثر تأثيراً قوياً على تفصيلات الآخرين.
(3) السياسة الخارجية المنتهجة ودرجة مشروعيتها وقبولها الطوعي من جانب دول العالم وشعوبه بما يعزز مكانة الدولة(). كما تشمل القوة الناعمة مجموعة من أدوات الإقناع والجذب والتي تتم من خلال السمعة الدولية والسلطة المعنوية والأخلاقية والوزن الدبلوماسي والقدرة الإقناعية والجاذبية الثقافية والمصداقية الاستراتيجية والشرعية(). من ثم ، فإن موارد القوة الناعمة الممنوحة للدولة – مثل إرثها التاريخي ونظامها المجتمعي – تحدد قوة وبالتالي فعالية قوتها الناعمة.
يعتبر عامل الوقت جانب مهم للغاية لاستمرارية القوة الناعمة، ويبدو أن توليد الطاقة الصلبة يتطلب وقتاً أقل بكثير حيث إن مواردها ملموسة. في المقابل، يستغرق بناء القوة الناعمة وقتاً طويلاً نسبياً حيث تتطور مواردها غير الملموسة على مدى فترة طويلة من الزمن. وبالمثل، يختلف البعد الزمني لاكتساب القوة الصلبة واستراتيجيات القوة الناعمة: في حين أن الإكراه العسكري أو الاقتصادي يميل إلى نتيجة فورية ولكن قصيرة المدى، فإن الجذب والإقناع يميلان إلى إحداث تغيير طويل الأجل.
يرجع هذا إلى جانب متأصل في المفهوم: نظراً لأن القوة الصلبة تجبر المرء على التصرف بطريقة مختلفة عن سلوكه المعتاد ، فإن المرء يفعل ذلك بشكل لا إرادي. على العكس من ذلك ، فإن القوة الناعمة تغير موقف المرء تجاه الغاية المتمثلة في أن المرء يتصرف طواعية بطريقة مختلفة عن سلوكه المعتاد. يشدد جالاروتي Gallarotti على أن القوة الصلبة تستدعي فعلاً قسرياً، في حين أن القوة الناعمة تحث على العمل التطوعي.
علاوة على ذلك، يذكر أن الإكراه يؤدي إلى الصراع والطواعية للموافقة وهو ما يفسر سبب استمرار حلول القوة الناعمة لفترة أطول من حلول القوة الصلبة. على سبيل المثال، أدت الإجراءات القمعية التي فرضت على ألمانيا بعد الحرب الأولى إلى نشوب حرب عالمية ثانية، في حين أدت القوة الناعمة المستخدمة في بناء الاتحاد الأوروبي إلى ما يقرب من 70 عاماً من السلام في جميع أنحاء أوروبا().
وفي النهاية يمكننا القول إنه ليس جديداً أن تقوم الدول بممارسة التأثير والنفوذ بمختلف أشكاله على غيرها من الدول والشعوب، فهذا ديدن الدول منذ فجر التاريخ ونشوء الدول، سواء بواسطة السفارات والقنصليات وعبر الوسائل الدبلوماسية والثقافية والإعلامية المختلفة، وهو ما تقوم به الجماعات والمنظمات والأحزاب بطبيعة الحال في نطاق التأثير السياسي،
وتمارسه الشركات في النطاق الاقتصادي والتجاري، وهو الوظيفة الطبيعية للوسائل الإعلامية في المجال العام، وصولاً إلى ما يقوم به الأفراد في العلاقات الشخصية والاجتماعية، والجميع دولاً وأحزاباً وشركات وأفرداً يستهدفون تحقيق غايات ثقافية وسياسية واقتصادية وعسكرية لحسابهم().
فقد لا تكون القوة العسكرية أساسية في تكوين القوة الناعمة للدولة، لكن المؤكد أن القوة الاقتصادية للدولة وامتلاكها لجهاز إداري وإطار تنظيمي كفؤ وفعّال، ينتج الثروة، ويحقق رفاهية المجتمع هي شروط أساسية في تكوين القوة الناعمة.
فمفهوم القوة الناعمة برغم من أهميته، لكنه أيضاً مفهوم مراوغ، والأرجح أنه لا وجود للقوة الناعمة في غياب قدر مناسب من النجاح الاقتصادي، وجهاز سياسي وإطار تنظيمي كفؤ يقود المجتمع.