صناعةُ النّكد
تشير المعاجم اللغوية إلى المدلول اللغوي لكلمة النَّكَد: وأن النَّكِد شخص عسير شؤوم، وأن نكد العيش يعني كَدَرَهُ، وأننا إذا قلنا: (جاء فلان نكدًا) فهذا يعني غير محمود الْمَجِيء!، وأن النَّكِد: قليل الخير، ورجل نكِد: سيِّئ الطَّبع لا يُطاق(1).
وفي الآية القرآنية: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) سورة الأعراف: (58).
قال القرطبي في تفسير معنى (نكِدًا) في الآية: (النَّكِد: هو العسر الممتنع عن إعطاء الخير)(2).
لقد تفنن الناس في صناعة أفضل ما يحسنون، فوجدنا في عالمنا الرحب من يحسن صنع السيارات، ومن يحسن صنع الجوالات، ومن يحسن صنع البناء وناطحات السحاب، ومن يحسن صنع الابتسامة، ومن يحسن صنع النكد والبؤس، ولا يقتصر هذا الصنع على طائفة معينة من الناس، بل يضم كافة أطياف المجتمع، العلماء، والمدراء والأطباء، وأرباب التعليم، والأهل والأصحاب، وهذه الشريحة من الناس لا يهنأ لهم بال ولا يطيب لهم عيش حتى يباشروا صناعة النكد ونشره في المحيط الذي يعملون ويعيشون فيه، وذلك من خلال الدخول في عدة أنفاق مظلمة، منها:
1/ تضخيم الأمور يجعلون من الحبة (قُبة)، وهذا الخلق الذميم هو العلامة الفارقة لديهم، إن الإنسان يبدأ بالتفكير والتفكير يتبعه انفعال والانفعال يتبعه سلوك، ثم يصبح خلق لهذا الشخص، والتوازن والاعتدال في علاقة الإنسان (مع خالقه، مع مجتمعه، مع نفسه) ينتج عنه التوافق النفسي والاستقرار والشعور بالأمن وإعطاء الأمور حقها ونصيبها الصحيح، والبعد عن التهويل والتضخيم وتفسير الأمور على غير وجهتها الصحيحة، وتوقع الأسوأ قبل حصوله.
يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (143) سورة البقرة. لا إفراط ولا تفريط.
2/ اجترار واستدعاء الذكريات السلبية من الماضي والتي انتهت وعفى عليها الزمن، والتركيز على هذه الظواهر السلبية في المجتمع ونشر الأخبار السيئة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وتحليلها، والنظر لكل جديد بعين الريبة والشك، وعقدة التآمر، وأن كل ما يدار في العالم هو ضدنا وفي نكايتنا واحتلال خيراتنا.
إنَّه من المستحيل وجود أشخاص لم يتعرضوا لصدمات حادَّة وسلبية في حياتهم، فإذا أردنا أن نتذكر تلك الصدمات والحوادث سنستعيد الحزن والشعور بالأسى تجاه تلك الفترة، وسنلج في غياهب النكد من أوسع أبوابه.
لكن فعليًا يمكننا التعامل مع هذه الذكريات بشكل مختلف، فالإنسان لديه آلية دفاعية ذاتية للتعامل معها لكنَّ هذه الآلية قد تتعطل أحيانًا، لذلك يمكن أن نبدأ أولاً بصناعة الذكريات الجيدة أثناء الأحداث السيئة وما تنطوي عليه تلك الأحداث السلبية من فوائد وخبرات ومعرفة وعواقب حميدة، وهو ما يسمى بتحليل الذكريات السلبية وطريقة التعامل والتصالح معها.
إن من الحلول الجيدة في البعد عن صناعة النكد لنفسك ولمن حولك هو بالتفكير بالمستقبل الجميل في كل مرَّة تعاودك الذكريات السلبية، لأن الذكريات السيئة والسلبية تفتح الباب أمام تداعيات كلّ الذكريات الماضية المؤلمة وتسترسل في تفاصيلها.
يجب علينا أن نتعلم أمورًا جديدة وأن نكتسب خبراتٍ مختلفة ومتنوعة، والدخول في علاقات جديدة. فذلك سيساعد على تجاوز الماضي بكل ما فيه.
3/ عدم التفاؤل وبث روح الأمل وعبق الحياة، إنَّ الحياة مليئةٌ بالمشاكِل والمتاعِب، ومن المستحيل أن نَجد شخصًا لم تعرض له مشاكل ولم تواجِهه صعوبات، لكن رغم كلِّ قسوة وكُربة نتحمَّلها لا نَستسلم أبدًا، نتألَّم ونَبتسم، نبكي ونَضحك، نَسقط ونهوي يومًا، وننهض ونرتقِي في يوم آخر.
هكذا هي الحياة؛ جميلة رغم المكارِه، حلوة رغم مرارتها، وإنَّما يَكمن جمالها في الأمَل والتفاؤل والثقة في الله تعالى ثم الثقة في الذات.
ولهذا نجد أن الشخص المتفائل يَرى الحياةَ بنظرةٍ إيجابيَّة، فيسعى لإنجاز أعماله بكلِّ سماحة ورضا، فيتغلَّب على الصعاب ويذلِّل مشكلات الأمور وعوائقها فتَحلو له الحياة ويتيسر له العسير.
بينما الشَّخص المتشائم يرى الحياةَ كئيبة مظلِمة، فتغيب عنه الفُرَص التي لا يراها بعين بصيرته بل بعين بصره فحسب، فكلَّما زاد تشاؤمًا زاد خسرانًا، وكلَّما ابتعدَ عن الأمَل والتفاؤل ابتعدَت عنه الأفراحُ والمسرَّات وغرق في النكد والكآبَة، وساءت له الحياة بكل تفاصيلها.
وصانعوا النكد دائمًا ما نجدهم يتقمصون دور الضحية في كل الأحداث، وفي كل منعطفات الحياة وأنهم مظلومون، ويذكِّرون من حولهم بإخفاقاتهم وتعثرهم وسقوطهم…
4/ التذمر دون مبادرة أو المشاركة في صناعة أي حل حتى لو كان بسيطًا، فالتذمر يعتبر مضرًا بالروح والجسد، فهو مرتبط ارتباطًا تامًا بالتوتر السلبي، حيث يُعد التذمر مسؤولًا عن إفراز هرمون التوتر “الكورتيزول”، الذي يؤدي بدوره إلى إضعاف الجهاز المناعي، وجعله أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة.
إن التذمر والشكوى يعتبر عند بعض الناس سمة وعادة لازمة للتنكيد على من حوله فالمتذمر يشتكي من قلة التوفيق في حياته ومن جفاء المدير والزملاء والأقارب ومن سلوك الناس، فالمتذمر صانع النكد لا يرى سوى ما يثير الشكوى، فحتى في المناسبات التي يفترض فيها التفاؤل والفرح كحفل زواج مثلاً تجد المتذمر يبحث عما يتيح له الشكوى والتنكيد على الحاضرين فيذكرهم ببعض الزواجات الفاشلة والمنتهية بالطلاق، أو الإسراف في مائدة العشاء وهكذا يمضي وقته في البحث عن السلبيات وتجاوز الإيجابيات.
وصانع النكد شخصية هاربة من التحديات التي تضعها الحياة أمامه والذي لا يتحلى بالقدرة لمواجهة تلك التحديات إلا بخلق الأعذار والتباكي، وأن تلك التحديات غير عادلة وأنه غير محظوظ بمواجهتها فيسعى بصفة مستمرة للبحث عما يدعم ذلك الاعتقاد بتحري وملاحظة سلوكيات الناس السلبية.
وهو حريص أن تكون الشكوى والتذمر محور حديثه مع الآخرين للحصول على موافقتهم وإقرارهم بشكواه، ولينكد عليهم عيشهم حتى يبرر إخفاقاته، ويعزز القناعة لنفسه بسوء الحظ وظلم ذوي القربى وجفاء المجتمع والحياة.
وهو كذلك إنسان تتملكه الغيرة من نجاحات الآخرين فيسعى لتمثيل دور الضحية للهروب من اللوم الذاتي وهو بذلك يعزز الأعذار لنفسه، فلا يرغب في حقيقة الأمر أن تنتهي تلك الآلام، فهي المهرب والعذر له من مواجهة تحديات الحياة.
5/ الولع بالمخالفة فعندما تبدي رأيًا مُخالفًا لرأيه يرى أنك منحرف عن الصواب، وربما أشعرك ولو من طرف خفي بانحرافك الثقافي والأخلاقي والعقدي؛ هؤلاء هم صُناع النكد.
فمن الناس من هو محب للمعارضة، كَلِفٌ بالمخالفة، لا يوافق إخوانه على أمر، ولا يسلم لهم بشيء.
فإذا كان في قومٍ يتبادلون أطراف الحديث أشغلهم بكثرة شغبه واعتراضه ونكده.
وهذا المسلك ليس برشيد؛ إذ المروءة تقتضي موافقةَ المرءِ إخوانَهُ إذا أصابوا، وتسديدهم برفق إذا أخطأوا، وأن يتوقف إذا لم يستبن له الصواب من الخطأ.
فالموافقة وقلة المعارضة تجلب المحبة، وتستديم الألفة، وكثرة المعارضة وقلة الموافقة تستدعي المباغضة، وتقود إلى العداوة، وصناعة النكد في المحيط الذي ينتمي إليه.
قال ابن حزم رحمه الله: “إياك ومخالفةَ الجليس، ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في آخرتك وإن قل؛ فإنك تستفيد بذلك الأذى، والمنافرة، والعداوة. وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً”(3).
وقال الخطابي رحمه الله محذرًا من ذلك: “وقال بعضهم: إن من الناس من يولع بالخِلاف أبدًا، حتى إنه يرى أن أفضل الأمور ألا يوافق أحدًا، ولا يجامعه على رأي، ولا يواتيه على محبة. ومن كان هذا عادتَه فإنه لا يبصر الحق، ولا ينصره، ولا يعتقده دينًا ومذهبًا.
إنما يتعصب لرأيه، وينتقم لنفسه، ويسعى في مرضاتها، حتى لو أنك رُمْتَ أن تَتَرَضَّاه، وتوخَّيتَ أن توافقه على الرأي الذي يدعوك إليه-تَعَمَّدَ لخلافك فيه، ولم يرض به حتى ينتقل إلى نقيض قوله الأول. فإن عُدت في ذلك إلى وفاقه عاد فيه إلى خلافك.
فمن كان بهذه الحال فعليك بمباعدته، والنِّفار عن قربه؛ فإن رضاه غايةٌ لا تدرك، ومدى شأوه لا تُلحق”(4). ثم أورد أمثلة لذلك، …
6/ مسوح النصح الكاذب. صانع النكد أحيانًا يتقمَّص دور الناصح الأمين، فينقل لكَ الأخبارَ السيئة، ويروي لكَ ما سمعه من قالة السُّوء عنك، وعن الواقع، وعن الأمة، وعن الأعداء والأصدقاء ما يضيق به صدرك.
وصانع النكد كَلِفٌ بإظهارُ السوء وإشاعته في قالب النصح، ويزعمُ أنه إنما يحمله على ذلك، وإنما غرضه التعيير والأذى(5).
يقول ابن رجب – رحمه الله – “فإذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسنًا لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها إن كان له منها عذر، وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب فهو قبيح مذموم.
وقيل لبعض السلف: أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: (إن كان يريد أن يوبخني فلا). فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية، مع أمره بجلدها فتجلد حدًا ولا تعير بالذنب ولا توبخ به”(6). قال الفضيل: (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر).
7/ صانع النكد مثل الذباب؛ لا يقع إلا على الجرح: هذه الجملة من أحسن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية نقلها ابن سعدي في كتابه “طريق الوصول” وهي: أن بعض الناس لا تراه إلا منتقدًا دائمًا ينسى حسنات الطوائف والأجناس والأشخاص، ويذكر مثالبهم فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة، ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس، وفساد المزاج. فالشخصية النكدة يتلمس دائمًا ويفتش عن مواطن الضَّعف والخلل.
لذا يجب علينا أن نبحث عن الإيجابيات وننشرها، ونترك السلبيات ونتجاهلها وننساها لكي نسموا ببعضنا البعض ونرتقي إلى أعلى الدرجات، وننشر عبير حسن الظن بين الناس وفي المجتمعات.
وصناع النكد لا يرون الخير أو الطيب في مخالفهم، بل يبحثون بكل جد واجتهاد وعناء عن سلبيات محاورهم أو مخالفهم، فإن لم يجدوا سلبيات حوروا بعض الإيجابيات وجعلوها سلبيات ينتقدونها.
ورحم الله الإمام الشافعي حين قال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
وكما قال إيليا أبو ماضي:
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئًا جميلا
وكم هي النماذج الدالة على “المنهج الذبابي” كثيرة، أسوق بعضها من باب التدليل والتمثيل وتقريب الصورة:
إنْ قلتَ لصانع النكد: «أبشرك حفظت صحيح البخاري»، قال: «زادت نسخة في رفوف المكتبات»، وإنْ قلتَ له: «قرأتُ خلال شهر كتابًا»، ردَّ عليكَ: «هناك من يقرأ خمسة كتب»، وربما يزورك صانع النكد في بيتك الجديد فتجده يبادرك بسياط قوله: ألوانه غيرُ متناسقة! وينقصه حديقة، وهذا الحي سيء السمعة، ضعيف الخدمات، حتى يُبَغِّضُكَ فيه، وتتمنى أنكَ لم تسكنْه.
وعندما تفرح بشراء سيارةً جديدة وفارهة، يعزُّ على صانع النكد هذا الفرح!
فيسألك بكم شريتها، فتقول: «بكذا وكذا!» لكنه يجلدك بقوله: «ضحكوا عليك في سعرها!» ولو استشرتني لدللتك على مكان يبعها بثمن أقل! وأيضًا هذا الموديل من السيارة عليه مراجعات ومشاكل، ليتك اشتريت الموديل السابق أو انتظرت الموديل اللاحق. فتتمنى أنك لم تشري هذه السيارة!
وبعضُ الأزواج من شدة ولعه بالنكد لا تراه إلَّا عبوسًا معاديًا للابتسامة، يأنس إذا بدأ بالنكد على زوجتِه وأولاده، فيحول حياتهم إلى حياة البؤس والقلق! فيدفعه فشلُه وضعفُه أنْ ينفِّس على زوجته وأولاده بالتنكيد عليهم!
إننا كثيرًا ما نسمع بتكرار هذه الجملة من الأزواج “زوجتي نكدية” إن بعض الأزواج للأسف الشديد هم من يجعلوا من زوجاتهم يتصرفن هكذا.
وفي المقابل إن أصبحت الزوجة شخصية جذابة فهذا من اهتمام زوجها وعنايته بها، وعادةً الزوجة تتأثر بأخلاقيات زوجها فهي ستكتسب منه بعض العادات خصوصًا مع طول العشرة.
وإن كنا نؤمن بأن الاختلافات بين الزوجين أمرٌ طبيعي والسبب اختلاف البيئة والأفكار والمعتقدات، ففي هذه الحالة يجب بأن يحاول كلا الطرفين البحث عن كيفية التعامل مع تلك الخلافات وإيجاد حل لإخماد أي مشكلة بدلاً من إذكاء نارها، ولابد أن يعبر الزوج والزوجة عن مشاعرهما بكل صراحة ووضوح وأن يركزا على إيجاد حل جذري للمشكلة وتضخيم الأمور الإيجابية والتغافل والتغاضي عن السلبيات بدلاً من توجيه الانتقادات والإهانات لبعضهما، وجرح كل منهما مشاعر الآخر.
إن تعميق المحبة وتجديد الألفة والتقدير والاحترام والتفنن في ممارسة ذلك بين الزوجين ضرورة وحل من الحلول لمشكلة “النكد”. حتى يتمكنا من الاستمرار مع بعضهما بهدوء ولتحقيق ذلك لابد من تقبل عيوب الطرف الآخر ومحاولة التعايش والتأقلم معها، ومن الضروري أيضًا أن يهتم الزوجان ببعضهما وأن يحس كل واحد منهما بالآخر ويظل متواصلاً معه حتى لا يشعر أحد الطرفين بإهمال وجفاء الآخر له في أي مرحلة من مراحل حياتهما معًا.
إضافة إلى أهمية عدم اجترار الماضي السلبي بين الزوجين، فعلى كل منهما نسيان الماضي السيئ الذي مر في حياتهما معًا، والمحاولة لزرع بذور الفرح والتفاؤل والبدء من جديد بصفحة بيضاء نظيفة حتى يطيب لهما الغد.
ما أجمل أن تحيط نفسك بالأشخاص الإيجابيين والمؤمنين بقضاء الله وقدره، وما أجمل أن تستمع إلى أصوات الناس الواثقين من أنفسهم والمتفائلين بحياتهم.
صانعُ النكد يعطِّل الحياة ويقصِّر العمر، لا يستمتع بما حباه الله ولا يدع غيرَه يستمتع بما رزقه الله!
صانعُ النكد يعشقُ تكديرَ الأجواء وتشويه الأرض وتعكير الماء وكسر الخواطر!
صانعُ النكد سريعُ الغضب، متقلب المزاج، جافُّ الطبع، كئيب الطبع، لا يزمه دين، ولا يكفه خلق، ولا تمنعه مروءة!
عقولٌ تحتاج لتهذيب، وقلوبٌ تحتاج لتطهير.
والأصل أن ليس لصانع النكد وقت ولا مكان، فهو يمارس هواياته المفضلة (التنكيد) في أي زمان ومكان، ولكنه يحرص كثيرًا لضمان نجاح مهمته على أحسن وجه في التركيز على ثلاث لحظات:
لحظة شُغْلِك، ولحظة فرحِكَ، ولحظة ضعفك.
إن من الناس من يعاني عقدة النقص وخساسة الهمة، وسوء الطوية لذلك فالبحث عن سلبيات الآخرين هي الوسيلة الناجعة في تخفيف عقدة النقص التي يعيشها، فيشبع نفسيته المريضة بالتشفي بالآخرين والتقليل من قيمتهم.
ومنهم من يتسلق على ظهور العظماء من أبناء هذه الأمة، ليسقطهم ويحرقهم وليظهر نفسه أنه في مصافهم أو في منزلتهم أو خير منهم.
صناع النكد شخصيات سلبية يغلب عليها طابع الحسد، والترصد، والتثبيط، والتشكيك، والتخوين، وتصيّد أخطاء الآخرين.. شخصيات تتجاوز ذاتها وتنشر في مجتمعها جوًّا من الكآبة والنكد واغتيال الفرح.. يتصيدون أخطاء المجتمع ويرون في كل تصرف (ظاهرة خطيرة) تؤكد وجهة نظرهم.. وتتفاقم الحالة لدى البعض لدرجة (لا يكفرون المجتمع فقط) بل ويكفرون أنفسهم وعائلاتهم، ولا يرون سوى الموت مخرجا له ولهم..
ولكن الدنيا تظل دائمًا بخير، وحياة البشر (مهما حاولنا ضبطها) في عافية؛ صحيح لا يمكننا العيش كملائكة وأنبياء دون ذنوب وأخطاء، ولكن خير الخطائين التوابون.
ومهما كان رأيك في الناس لا يمكنك فرض نظرتك النكدية السوداوية عليهم- وإذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم (كما جاء في الحديث الصحيح)..
أمَّا التعامل مع النكديِّ، فبأمور يسيرة، منها:
– صانع النكد بشر، وهو لا يعدو أن يكون قريب أو صديق جديرٌ بالرَّحمة والشَّفقة، فحاوِل أنْ تجعل منه إنسانًا أفضلَ، بالنصيحة والكلمة الطيبة، والبعد عن مواطن النقد والاتهام، وكذا عدم استشارته في كل صغيرة وكبيرة فلستَ مضطرًّا أنْ يطَّلِع على تفاصيل حياتكَ.
– توجيهه لمعالي الأمور، وحب القراءة وكتب تزكية النفوس النافعة، وعدم الدخول معه في مهاترات وجدال عقيم، فاشتغالك معه بمسائل لم تقع ولن تقع؛ سفه، وتشاغلك بمسائل لا طائل من البحث فيها؛ حمق وهوج، وحدتك وغضبك على مخالفته في مسائل يسع المسلم فيها السكوت؛ من قِلة العلم والتوفيق. ومع ذلك لا تهدر جهدكَ ووقتكَ في إصلاحه واقتصد في ذلك جهدك.
– من علامات إخلاص النية وصدق الطوية وكمال الشخصية أن يكون إحساسك بالآخرين وحرصك على عدم الاعتداء عليهم يوازي حرصك على حماية مشاعرك، وأن تحب لهم ما تحب لنفسك، وأن تعاملهم بما تحب أن تعامل به.
قال الإمام المحدث الفقيه أبو سليمان الخطابي (ت388هـ):
أرْضَ لِلنَّاسِ جَمِيعًا مِثْلَ مَا تَرْضى لِنَفْسِكْ
إِنَّمَا النَّاسُ جَمِيعًا كُلُّــهُمْ أَبْـنَاءُ جِـنْسِــكْ
غَيْرُ عَدْلٍ أَنْ تَوَخَّى وَحْشَـةَ الْنَّاسِ بِأُنْسِكْ
فَلَهُمْ نَفْسٌ كَنَفْسِكْ وَلَـهُمْ حِــسٌّ كَـحِــسِّــكْ
قال حاتِم الأصَمُّ: “معي ثلاث خصال أظهر بِها على خصمي”، قالوا: “وما هي؟” قال: “أَفْرَح إذا أَصاب، وأحْزَن إذا أخطأ، وأحْفَظ نفسي حتَّى لا تتَجاهل عليه”.
– وأخيرًا أنت وحدك من يمكنه نبذ هذا الخلق الذميم (صناعة النكد)، بالتفاهم، والثقة، والتقدير، والاهتمام، والكلمة الطيبة، والصبر، والاحتساب كل ذلك يستطيع – بإذن الله – أن يكون المنافس الوحيد لــ “صناعة النكد وممارساته”.
- الهوامش:
1 – ينظر: لسان العرب لابن منظور، مادة (نكد).
2 – تفسير القرطبي: (3/158)
3 – رسائل ابن حزم (1/ 383).
4 – العزلة للخطابي، ص 69.
5 – ينظر: الفرق بين النصيحة والتعيير، لابن رجب (ص11).
6 – الفرق بين النصيحة والتعيير، لابن رجب (ص8).