المدارس النحوية ـ البصرة والكوفة
- المدرسة النحوية الكوفية
طلب العلم في البصرة على أئمتها، قرأ على أبي عمرو بن العلاء، وعلى عيسى بن عمر الثقفي، لكنه لم يقارب أحدا من تلامذتهم فلم ينبه، وعاش بالبصرة غير معروف، وكان أول كوفي ألف في العربية، وكتابه «الفيصل» عرضه -فيما ذكروا- على أصحاب النحو بالبصرة فلم يلتفتوا إليه.
ولا جسر على إظهاره لما سمع كلامهم، أما هو فيزعم أن الخليل طلب الكتاب فأطلعه عليه، «فكل ما في كتاب سيبويه: قال الكوفي كذا، فإنما عنى الرؤاسي هذا».
وزعم جماعة من البصريين أن الكوفي الذي يذكره الأخفش في آخر المسائل، ويرد عليه الرؤاسي. يعد من قراء الكوفيين، وسترى من أسماء كتبه الموضوعات التي عني بها: كتاب التصغير، الإفراد والجمع، الوقف والابتداء، معاني القرآن.
ولما رجع إلى الكوفة وجد فيها عمه معاذ بن مسلم الهراء “187” مرجع الناس في العربية، وعني بالصرف ومسائله خاصة، وتبعه في هذه العناية من قرأ عليه من الكوفيين، حتى قيل: إنهم فاقوا البصريين فيها، ومن هنا عدهم بعض العلماء واضعي علم الصرف.
وتخرج بالرؤاسي تلميذاه المشهوران: الكسائي والفراء. أما الكسائي فأنت تعرف أنه أعجمي الأصل وأحد القراء السبعة وإمام الكوفيين في العربية، أخذ عن يونس أحد أئمة البصرة وجلس في حلقة الخليل، ثم خرج إلى بوادي نجد والحجاز وتهامة يأخذ عن الأعراب.
«فأنفد خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، فقدم البصرة فوجد الخليل قد مات وفي موضعه يونس، فجرت بينهما مسائل أقر له فيها يونس وصدره في موضعه».
ثم انتقل إلى بغداد، فعاش في قصر الرشيد مؤدبا للأمين والمأمون، ونال الحظوة وأقبلت عليه الدنيا: يخدمه وليا العهد، ويعنى به ويعوده الرشيد نفسه.
ولما خرج الرشيد إلى الري اصطحب معه الكسائي ومحمد بن الحسن الشيباني، فاتفق أن ماتا سنة 189 في يوم واحد، فقال الرشيد: «دفنت الفقه والنحو في يوم واحد». تمركزت في مدينة الكوفة في العراق أيام العباسيين وعلى رأسهم الكسائي.
المدرسة النحوية البصرية وهي السابقة في دراسة علم النحو، وأول من ذكر من أعلامها أبو الأسود الدؤلي، وتلاميذه هم الذين نشروا النحو في البصرة، وتخرج على أيديهم وأيدي تلاميذهم طبقات من أعلام النحو رفعوا بناء المذهب البصري على أسس متينة وقواعد محكمة.
وكان الكوفيون يخالفون البصريين في معظم القواعد النحوية الأساسية والفرعية فحصل تنافس تاريخي بينهما اعتمد فيه علم النحو على الفلسفة وعلم المنطق فتدهورت حاله بسبب سهولة تبرير أي خطأ في اللغة على هذا الأساس ومع الزمن فضل الجمهور المدرسة البصرية وأفكارها لسهولتها ومنطقيتها حيث الأفكار الكوفية كانت في الغالب متعمدة لمخالفة المدرسة البصرية.
- نشأة الخلاف واحتكاك المدرستين
أول ما يعرف من الخلاف بين البصريين والكوفيين ما أثبته سيبويه في «الكتاب» من حكاية أقوال «الكوفي» أبي جعفر الرؤاسي على ما علمت آنفا. والظاهر أن مرافقة الرؤاسي للخليل في القراءة على عيسى بن عمر جعلت بينهما نوعا من الأنس سمح للخليل أن يطلب من الرؤاسي كتابه، فروى منه بعض أقوال لتلميذه سيبويه، فأثبتها هذا في كتابه.
ولم يكن في هذا الخلاف ولا في غيره مما حدث بين البصريين أنفسهم يومئذ، أكثر من المذاكرة وحكاية الأقوال المخالفة والرد عليها أحيانا. فأنت كثيرا ما تجد سيبويه يورد لشيخيه يونس والخليل أقوالا يخالفها فيقول: «وزعم الخليل»، «وزعم يونس».
ولم تدخل الدنيا بين المشهورين من رجال هذه الطبقة، فالخليل والرؤاسي مثلا كلاهما صالح عفيف، ومتى خلت المناقشات العلمية مما يؤرثها من حوافز المادة أو الجاه بقيت هادئة جميلة صافية.
فلما قرّب العباسيون الكسائي وتلاميذه وخصوهم بتربية أولادهم، وبالإغداق عليهم إذ كان أهل الكوفة بالجملة أخلص لهم أحسن سابقة معهم على عكس أهل البصرة، اجتهد المقربون في التمسك بدنياهم التي نالوها،
ووقفوا بالمرصاد للبصريين الذين يفوقونهم علما، فحالوا بينهم وبين النجاح المادي أو المعنوي بكل ما يستطيعون من قوة؛ وإذا كان لبصري كالأصمعي مثلا حظوة عند خليفة ولم يقدروا على إبعاده ماديا، اجتهدوا في الغض من علمه.