نقد

حسين الواد والمدرسة التونسية

 

صرت أفتقد في السنوات الأخيرة البهجة التي كانت تعتريني حين كنت أحزم في الثمانينيات أو التسعينيات حقائبـــي لأشارك في مؤتمر أو ندوة عربية في مرابد العراق، أو في دمشق أو القاهرة أو تونس أو المنامة أو الكويت، أو الشارقة، كانت الموضوعات دقيقة وجادة، وكان المشاركون فيها قامات أدبية وبحثية، يتميز كل منها بخصال وطباع وعمق ثقافي. 

كانت النقاشات والسجالات قوية وعميقة ومفيدة. وبقدر ما كان الاختلاف صارخا كانت المودة متبادلة وحميمية. هل أذكر: عز الدين إسماعيل، ومصطفى ناصف، ومحمد عبد المطلب، وجابر عصفور وصلاح فضل، وسعد مصلوح، واعتدال عثمان وسيزا قاسم، وسواهم من مصر، أوفريال غزول ومحسن جاسم الموسوي ومحمد الجزائري، وحاتم الصكَر، وفاضل ثامر، وياسين النصير، وصالح هويدي، وعبد الله إبراهيم وسعيد الغانمي وعلي عواد من العراق، أو عبد الله الغذامي وسعيد السريحي من السعودية، أو إبراهيم غلوم والهاشمي العلوي من البحرين، أو سليمان الشطي، ومحمد الرميحي من الكويت، أو إبراهيم السعافين من الأردن، أو عبد العزيز المقالح من اليمن، أو يمنى العيد من لبنان، ناهيك عن المغاربة: محمد مفتاح، ومحمد برادة، وأحمد اليبوري، وسعيد علوش، وبشير القمري، ومحمد العمري، أو حسام الخطيب من سوريا، أو واسيني الأعرج ومرتاض من الجزائر، وأعتذر عن كل الأسماء الذين أحمل لهم محبة وتقديرا خاصين.
وجدتني أسترجع ذاك الشعور عندما سمعت نبأ وفاة الزميل العزيز التونسي حسن الواد قبل يومين. كنت قد التقيته مؤخرا في معرض الكتاب في تونس، وكان اللقاء سريعا. وتواعدنا على أن نلتقي مجددا، فكان هازم اللذات، ومفرق الجماعات محفزا لاسترجاع الذكريات، والتفكير فيما هو آت. جيل من الباحثين المتميزين بدأ يتنازل بالتدريج عن المساهمة في تطوير الفكر الأدبي العربي مخليا تراثا قلما يتم الالتفات إليه من الأجيال الجديدة التي تفكر في قضايا ومشاكلها الثقافية بكيفيات أخرى. 
جعلني سفر حسين الواد الأبدي أسترجع ذكريات بعيدة حين كنت مع جيلي نحمل هموما كبيرة تضيق بها رؤوسنا الصغيرة، ولم يكن أمامي سوى استحضار العديد من الوجوه التونسية، من جيله، التي كانت تؤثث المشهد الثقافي العربي وتمده بالطاقة والدينامية الحالمة بالمستقبل. منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ولكل منهم موقع في القلب والذاكرة. هل أذكر: عبد السلام المسدي، وتوفيق بكار، ومحمود طرشونة، وحمادي صمود، وعبد الله صولة، وتوفيق الزيدي، والأزهر الزناد. هل يمكنني أن أنسى محمد القاضي وصالح بن رمضان، ومحمد الباردي، والشريف وناصر العجيمي، والهمامي والخبو والسماوي، والجوة والسعداوي، وشكري المبخوت، واللائحة طويلة. 

فعلا يمكننا الحديث عن مدرسة تونسية، تماما كان الحديث عن مدرسة مغربية وما يزال. مشاركة المغرب العربي في تطوير الدراسات الأدبية واللسانية والبلاغية العربية، حديث بالقياس إلى المساهمة العربية المشرقية. وما كان للمغاربة أن يحتلوا هذا الموقع في المشهد العربي لولا توفر عاملين اثنين: الأول ارتباطهم بالثقافة العربية المشرقية، واطلاعهم الواسع والدقيق لما كان يمور فيها. والثاني هو مواكبتهم لما يجري في الغرب، خاصة ما اتصل بالثقافة الفرنسية. كانت هذه المواكبة عاملا من عوامل إثراء الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، لاسيما وأن هذه المواكبة كانت تتعدى الاطلاع على عناوين التيارات والكتب إلى محاولة الاستيعاب الدقيق والتمثل العميق لما ينتج بالفرنسية التي كتب بها الفرنسي إلى جانب الروماني، والبلغاري، والليتواني، والهنغاري، وكل الذين وجدوا في فضاء فرنسا ملتقى الثقافات وحواراتها. فكانت بذلك منارة معرفية بعد الحرب الثانية. 

يبدو ذلك الاستيعاب والفهم في الترجمات التي أنجزها المغاربة، أو في الدراسات التي كانت تعتمد المرجعيات الفرنسية. وكان حسين الواد من رواد هذا الانفتاح على هذه الثقافة، وهو الذي تشبع بالثقافة العربية الأصيلة، وباللغة العربية الجميلة شأنه في ذلك شأن كل التونسيين، فكانت دراسته حول البنية القصصية في «رسالة الغفران» رائدة في تناول السرد العربي القديم من وجهة نظر جديدة. كما أن كتابه حول «مناهج الدراسات الأدبية» كان من الكتب التي تدرس في شعب اللغة العربية وآدابها في كلياتنا المغربية، وكذلك دراساته المختلفة حول الشعر العربي القديم. وحين استقدمه عبد الصمد بلكبير إلى كلية الآداب في مراكش ترك آثارا طيبة لدى طلبته. وكان المرحوم محمد الماكَري صاحب كتاب «الشكل والخطاب»، لا يتوقف عن الثناء عليه كلما ذكرناه في أحاديثنا. 
تعرفت على حسين الواد في تونس والرياض فوجدت فيه الكثير من خصال العالم الباحث، والإنسان الهادئ العميق الذي يألف ويؤلف. لا يتكلم إلا لماما، وحين يتكلم تجده مقتنعا بما يقول. لا يجامل ولا يتملق. أفكاره واضحة، ويقدمها بلا التواء ولا تصنع. وهذه القيم التي يشترك فيها مع الكثير من الباحثين الجادين بدأت تتوارى وراء المجاملات وتدافع المصالح. 
ساهم حسين الواد مع ثلة من جيله في تشكيل مدرسة تونسية أصيلة وصارمة. وكانت لها امتداداتها في الوطن العربي. ماذا سيبقي من هذه المدرسة بعد زوال رموزها؟ سؤال يهم التونســيين والعرب أجمعين.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى