لقد اعتقدتُ لفترة طويلة أن فدوى طوقان لم تكن لها علاقات عاطفية، ولست أدري ما سبب هذا الاعتقاد، ربما جاء من طبيعة قراءاتي الشعرية والنقدية، وما كنت أسمعه عن علاقة الكتّاب بالكاتبات، ولم يكن لفدوى وعلاقاتها أحاديث متداولة على نطاق واسع ليكون معلوما لجمهرة القراء، حتى عندما قرأت أشعارها وسيرتها الذاتية بجزأيها، وما أصدره الدكتور المتوكل طه عن شعرها الذي لم ينشر[1]، لم يدر في خلدي أن للشاعرة الكبيرة الهادئة اللطيفة الصامتة أغلب الوقت علاقاتٍ عاطفية سوى تلك الحادثة التي مرت في حياتها، وهي بعدُ لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها.
تزداد قراءاتي في التنوع، فيقع بين يديّ كتاب رجاء النقاش “بين المعداوي وفدوى طوقان- صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر”[2]، فأتعرف من خلاله على الرسائل التي كتبها الكاتب المصري أنور المعداوي لفدوى طوقان، وقد كانت بينهما قصة حبّ، وجمعتهما علاقة كان فيها الكثير من الجمال والحب والكتابة والشعر، ولم أقتنع بما قدمه النقاش من تفسير حول سبب انتهاء العلاقة أو بالأحرى عدم تتويج هذا الحب بالزواج. ثمة أسباب بقيت مخفية، أو ربما هو سبب وحيد، ولم تصرح به فدوى بعد ذلك، كما أنه قد غاب عن الكتاب رسائل فدوى لأنور المعداوي، فقد ورد في الكتاب أنها طلبت من أنور أن يتلف تلك الرسائل.
ويتبين من خلال كتاب النّقّاش أن فدوى طوقان قد مرت بتجربتي حبّ قبل المعداوي، أحدهما “شاعر مصري اشترك- متطوعا- في بعض معارك حرب فلسطين (1948-1949) والتقى بفدوى في هذه الفترة وكان بينهما حب روحي عميق، ثم افترقا بعودة الشاعر إلى مصر”[3]، والثاني أيضا شاعر مصري، أحجم النّقّاش والرسائل عن ذكر اسمه، وعندما نشر كتاب النّقّاش كان هذا الشاعر ما زال على قيد الحياة، وأفصح عن اسمه الشاعر والناقد رمضان عمر في كتابه الذي أعده عن الشاعرة فدوى وشعرها، وهو الشاعر كامل أمين[4].
كما يذكر النّقاش قصّة حب أخرى وصفها بأنها “كانت معروفة لدى عدد من الأدباء المصريين، وكان من السهل معرفة هذه القصة، لأن القصة كلها كانت لا تزيد على مجموعة من قصائد الحب التي نشرها الشاعر إبراهيم نجا ونشرتها فدوى”[5]، وقد حدثت القصة على الأغلب بعد أن انتهت قصتها مع الشاعر المصري الآخر الذي ظل مجهول الاسم واشترك في حرب فلسطين، فقد انقطعت أخباره بعد 1949، وإن كانت قصائد إبراهيم وفدوى منشورة في هذه الفترة.
ثم أتقدّم أكثر من عالم فدوى طوقان الوجداني بعد أن قرأت الرسائل المتبادلة بينها وبين ثريا حداد (جمعها وحرّرها الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري)، وتكشف هذه الرسائل عن علاقة فدوى طوقان بأخي ثريا سامي، الإعلامي المعروف الذي رحل أمس (19/1/2021)، فقد أحبته وهي في الثالثة والستين من عمرها.
تتحدث فدوى من لندن في الرسالة العاشرة المؤرخة بـ 14-6-1980، عن لقائها بسامي، وتعبر عن سعادتها بهذا اللقاء، سعادة تقطر بها الكلمات بعاطفة واضحة. تقول: “سعدت هذا الصيف بسامي كما لم أسعد به من قبل، سامي الحقيقة، وليس سامي خيالي ورؤياي. إنه حقيقة جميلة يُختصر فيه كل الجمال الذي في هذا العالم. كم هو حبيب إلى قلبي وروحي”[6]. وتذكر في الرسالة ذاتها بعض التفاصيل التي عاشتها مع سامي في لندن. إذ كتبت لثريا تقول: “أكتب إليك الآن في ساعة مبكرة من هذا الصباح، فيما هو يغفو ويفيق على تحركاتي في البيت، والتي أحاول جهدي أن تكون خفيفة لا تحس ولا تلمس ليظل هانئا في غفوته. سمع قبل لحظات صوت عود ثقاب فيما أشعل سيجارة، فرفع رأسه وقال مندهشا: تدخنين الآن؟ قلت: أريد أن أشرب قهوتي وأكتب إلى ثريا”[7].
أما المصدر الأخير الذي وقع بين يديّ، وأفادني في رسم صورة ربما تكون كاملة عن علاقات فدوى طوقان العاطفية فكان كتاب “حوارات فدوى” للناقد الأردني يوسف بكّار[8]. يشتمل الكتاب على ستة عشر حوارا منذ عام 1956 وحتى أيلول 2003.
تتجلّى أهمية هذا الكتاب في أنه مصدر مهم وأساسي لدراسة شعر الشاعرة وأدبها وحياتها عموما، فقد وضحت في تلك الحوارات كثيرا من القضايا، وخاصة في حواراتها المتأخرة، فما كانت تحجم عن قوله في عصر “الحريم” والكبت والسيطرة الذكورية، صار بإمكانها أن تقوله بعد أن تغير العصر، وتبدلت مفاهيمه، واتسعت آفاق الحرية.
كان لموضوع الحب في هذه الحوارات حضور بارز، وقلما خلا حوار من طرح سؤال يتعلق بالحب في حياة فدوى طوقان وفي أشعارها، وقد بدت شديدة الحنين لقصة حبها الأول، حب الفتى الذي كان يكبرها بعام واحد، ابن مدينة نابلس، صاحب “الفلة”[9]، ولم تره بعد تلك الحادثة التي قدم لها فيها الفلة إلا بعد ثلاثة وثلاثين عاما. وتخبر فدوى طوقان أحد محاوريها أن اسمه “صبحي”، رافضة أن تقول اسم عائلته. وتذكر أنه قد توفي شابا. وتعبر فدوى عن مدى تأثرها بهذا الحب بقولها: “كان يرسل لي فلة، وحتى اليوم رائحة الفل تنعشني، وكلما شعرت برائحة الفل أرحل مباشرة إلى ذلك الزمن بعد كل هذه السنين،…، هذه القصة تركت عندي الأثر الكبير”[10].
وأود أن أشير إلى ما وقع فيه الباحث جمال علي طفيلي من خطأ عندما تحدث في بحث “الاتجاه الرومانسي في شعر فدوى طوقان- دراسة تحليلية”[11]، فقد ذكر أن فدوى طوقان صرّحت باسم صبحي في حوارها مع ليانة بدر، وهو الحوار الرابع[12]في كتاب يوسف بكار “حوارات فدوى”، على الرغم من أن هناك سؤالا مباشرا حول القصة، واسترسلت الشاعرة بالحديث عن القصة دون أن تذكر الاسم. والصواب أنها صرحت باسمه دون أن يطلب منها المحاور ذلك في الحوار الخامس عشر من كتاب حوارات فدوى طوقان، فقد سألها سؤالا بعيدا عن الاسم: “هل من شخصيات حاضرة في ذهنك الآن عدا قصة صاحب الفل؟”، فيكون الجواب: “ضحكت، وقالت: على فكرة كان اسمه صبحي، هذا ما أستطيع الإفصاح عنه.
لن أقول اسم عائلته”[13]. وكان هذا الحوار مع مراسل صحيفة القدس العربي عام 2003. فلست أدري كيف توصل الباحث إلى أن فدوى “اضطرت أمام لجاجة الصحافة للبوح بسرّه، صرّحت باسمه الأول”[14]. ومن الجدير ذكره أنه على تعدد الحوارات مع الشاعرة فدوى طوقان وفي فترات متباعدة، لم يكن أحد منهم، حسب ما جاء في كتاب يوسف بكار، يسأل الشاعرة مجرد سؤال عن اسم ذلك الفتى.
كان الفتى صبحي حب فدوى طوقان الأول، وتوضح الحوارات أن فدوى كذلك أحبت في صباها الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود الذي كان طالبا عند أخيها إبراهيم طوقان في مدرسة النجاح الوطنية، وكان يزورهم في البيت، وعندما استشهد- رحمه الله- في معركة الشجرة (1948)، تقول فدوى “ظللت يوما كاملا منذ الصباح وحتى المساء وأنا أبكي. قصصت له صورة من إحدى الصحف، ألصقتها على كرتونة وجعلت أنظر إليها وأبكي”. ولم تكتف بذلك بل كتبت قصيدة له بعنوان رقية على اسم ابنة الشاعر، وعندما نشرتها في الديوان لم تستطع إهداءها إلى من تريد، فقد “كان الحب عارا وفضيحة. ولم يسمح لي تضمين هذا أبدا بسبب آثار القمع والكبت”[15].
تقول الشاعرة فدوى طوقان “في كل تجارب الحب التي مرت بي كنت أحب كثيرا. أحب في كل مرة وكأنها المرة الأولى. لكن دائما هناك غصة في نفسي سببها أن الرجل لا يحبني لشخصي، وإنما لأنني شاعرة، وأستطيع أن أكتب فيه شعرا. أريد أن يحبني لشخصي”[16]. بدت فدوى طوقان عاتبة على هؤلاء الرجال الذين مروا في حياتها. كانت تبحث عن ذلك الرجل الذي يحبها لشخصها، ولذلك لم تجده إلا في ذلك الرجل الإنجليزي الذي أحبها ولم يكن يعرف أنها شاعرة، أو أنها يمكن أن تكتب فيه قصيدة. وتعلّق فدوى على العلاقة بينها وبين هذا الرجل قائلة: “كنت حبه الثاني بعد زوجته وأولاده، وكان إنسانيا جدا معي”[17].
بقيت فدوى طوقان في هذه الحوارات تحمل ذكرى طيّبة عن أنور المعداوي، ولو خيرت فيمن تختار للزواج لو عاد فيها الزمن، لاختارت أنور، تقول في الحوار قبل الأخير: “كنت أحبّ هذا الرجل كثيرا”[18]، أما عن سامي حداد- وإن لم تصرح باسمه في هذا الحوار معبرة عن ندمها لمعرفته- فتقول: “هذه حكاية شخص حتى الآن لا أسامحه، لقد جرحني”. وكانت فدوى قد كتبت رسالة لثريا تخبرها فيها عن سوء تعامل سامي معها، “فهذا هو سامي على حقيقته يظل دائما سجين أنانيته ولا وزن للمشاعر والعواطف الإنسانية في مقاييسه وموازينه”[19].
لقد عاش الحب مع فدوى طوقان حتى بعد أن تقدمت في السن. مع أنها أوقفت التجربة الأخيرة، ولم تستمر فيها سوى عام واحد، ولم تصرّح عن اسم ذلك الحبيب الذي كتبت عنه بعض قصائد ديوانها “اللحن الأخير”، لقد خجلت من أن تحبّ في هذه السن. تجيب في الحوار الثاني عشر الذي أجريَ معها عام 2001 عن سؤال المحاور: “وهل داهمك الحب حقا في هذه المرحلة؟”. تقول في الإجابة: “نعم، واعتذرت عنه، فقد داهمتني تجربة حب (على كبر) وأنا خجلة من الإفصاح عنها”[20].
لقد تعدد الرجال في حياة الشاعرة فدوى طوقان، وكان شعرها خير حامل لمشاعرها، وقد تجنبت أن تكتب عن هذه المشاعر نثرا، بل اختارت أن تكتبها شعرا، لأن الشعر كما قالت لا أحد يحاسب عليه، كما يحاسب على النثر[21]، ولذلك يعد شعر فدوى طوقان مدونة ذات دلالة صادقة فنيا وشعوريا عن تجارب الحب التي عاشتها لاسيما وأنها ترى أن “شعر الشاعر هو سيرته الذاتية”[22].
وبالمجمل، كان هناك ثمانية من الرجال أثروا الحياة العاطفية لفدوى طوقان؛ الفتى الصغير صبحي “حب فدوى الأول”، والشاعر عبد الرحيم محمود، وثلاثة شعراء مصريون أحدهم مجهول الاسم، والثاني الشاعر كامل أمين، والثالث إبراهيم نجا، والناقد أنور المعداوي، والإعلامي سامي حداد، والحب الأخير(مجهول الهوية)، وقد داهمها كما تقول على كبر.
لقد شكلت هذه الكتب التي استعنت فيها للإضاءة على موضوع الحب في حياة فدوى طوقان مصدرا مهما لتفسير شعرها التفسير الاجتماعي القريب إلى الحقيقة، وما كانت تعانيه من حجب ورقابة ومعاقبة بسبب موضوع إنساني بحت، لم يكن بمقدورها أن تعيشه بشكل سليم ومعافى في ظل تلك الأجواء، فانعكس كل ذلك على شعرها، وجاءت قصيدة “سلام من نسيم التيمز” حالة خارجة عن سياق شعرها في الترميز والتورية، وذلك لأنها جاءت في رسالة خاصة جدا لصديقة مقربة، ولم تكن تتوقع أن يتم نشرها في كتاب، تقول فدوى في هذه القصيدة[23]:
سلام من نسيم “التيمز” أندى *** وشوق يا ثريا ليس يهدا
هنا فدوى، هنا سامي المفدى *** صفا لهما اللقاء وطاب وردا
ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه الحوارات والرسائل والسير الذاتية، فكلها وثائق ذات أهمية خاصة في تفسير شعر الشاعر وتستجلي غوامضه وتفتح آفاقا واسعة لفهمه بشكل أعمق وأفضل[24].
الهوامش:
[1] قصائد لم تنشرها فدوى طوقان- قراءة المحذوف، دار الشروق للنشر والتوزيع، رام الله، ط1، 2004.
[2] صدر الكتاب عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، ط1، 1996.
[3] بين المعداوي وفدوى طوقان، ص172
[4] سيرة فدوى طوقان وأثرها في أشعارها، رمضان عمر، دار الأسوار، عكّا، ط1، 2004، (هامش رقم 119، ص66).
[5] بين المعداوي وفدوى طوقان، ص191.
[6] رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد، ص62
[7] السابق، ص62-63
[8] صدر الكتاب عن دار الآن ناشرون وموزعون، عمّان، طبعة مزيدة ومنقّحة، 2019.
[9] حوارات فدوى، ص39
[10] السابق، ص121
[11] رسالة ماجستير مقدّمة للجامعة العربية الأمريكية، بيروت، عام 2015.
[12] أجري الحوار عام 1991.
[13] السابق، ص122
[14] الاتجاه الرومانسي في شعر فدوى طوقان، ص171.
[15] السابق، ص47
[16] السابق، ص51
[17] السابق، ص52
[18] السابق، ص123
[19] رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد، ص94.
[20] حوارات فدوى، ص96
[21] ينظر: حوارات فدوى طوقان، الحوار الرابع، ص48
[22] السابق، ص87
[23] رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد، ص64-65.
[24] تحدثت في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية” عن “مصادر فهم الشعر” بشيء من التوضيح، وعن أهمية الرجوع إلى حوارات الشعراء ورسائلهم، لأنها تستجلي كثيرا من الأمور فيما يخص الصنعة الشعرية. (يُنظر الكتاب، ص237- 244).