الدراسات الثقافيةنقد

الثقافة العِلمية

ظلت الثقافة في التصور العربي الحديث مرتبطة بالإيديولوجيا لأنها تمثل جاهز المعرفة التي يتسلح بها المثقفون، وهم ينخرطون في الجدال الفكري والسياسي الذي يفرضه الواقع اليومي.


أما الثقافة العلمية فهم منها براء، ولا يولونها أي اعتبار. فهي إلى جانب كونها تستدعي التكوين الصارم، والمواكبة المتأنية والجهد الدقيق في الفهم والاستيعاب، تفرض عليهم تغيير سلوكهم الفكري، وطرائق تفكيرهم، وهم منشغلون عن هذا.


إن جهدهم الأساس تستوعبه «المجالس» وتملأه النقاشات التي يخرج كل واحد منهم مزهوا بإقناعه الآخرين أو إفحامهم، أو فرضه نفسه عليهم. 


إن الثقافة العلمية لا تتصل فقط بالعلوم الحقة، ولا حتى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي أيضا ليست شغل الأكاديميين والباحثين فقط. إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة العامة وبالمجتمع. وكلما كان رصيد أفراد المجتمع كبيرا بما يتعلق بها سواء على مستوى المعلومات، أو الرؤية، كان المجتمع أكثر تماسكا وإدراكا لما يحيط به.


فالثقافة العلمية المتصلة بالصحة، والبيئة، والعلاقات الاجتماعية،،، تعطي للفرد داخل المجتمع رؤية مختلفة عما تقدمه له مختلف أصناف التفكير التي يلجأ إليها للضرورة.


ولا يمكننا تفسير هيمنة الفكر الخرافي، والمعرفة اليومية المبنية على الإشاعات والآراء المغلوطة في مختلف جوانب الحياة في الواقع العربي سوى تأكيد على غياب الثقافة العلمية، بل وعلى التشكيك فيها مع هيمنة الجهل والأمية والوعي المتأخر. 


لقد عملت الوسائط الاجتماعية الشعبية على حضور مختلف أصناف الخطابات، وفي كل الاختصاصات، من التي تنشر القيم المعرفية الملائمة، إلى تلك التي تعمل على إشاعة الخرافة وبيع الأوهام. ولما كانت الأصناف الأخيرة أقرب إلى الأهواء الجماعية كانت أكثر تأثيرا في النفوس ضعيفها وقويها.


ولذلك نجدها تنتشر انتشارا واسعا بين الناس. بينما التي تعمل على تقديم المعرفة العلمية المبنية على أسس دقيقة لا يتفاعل معها إلا القلة القليلة. ولا يدل ذلك إلا على غياب الثقافة العلمية. 


لطالما اهتممنا بالعقل، ودعونا إلى العقلانية في رؤية الأشياء وتمثلها. لكن التنبيه إلى ضرورة العقل، والدعوة إلى ممارسته، إذا لم يستند إلى خلفية أو رؤية علمية يظل بعيدا عن تحقيق أهدافه. كما أن جعل العلم في تعارض مع الدين من التصورات التي ما تزال تدفع في اتجاه التحفظ منهما معا من لدن كل من يتشبث بأحدهما دون الآخر في حل المعضلات الإنسانية العامة. ولا يمكن هذا إلا أن يسهم إلا في انتشار الأفكار السائدة وإعادة تداولها بين الناس. 


إن الصراعات المفتعلة بين الدين والعقل والعلم في فضائنا الثقافي العربي الذي لا تزال العلاقات الإيديولوجية هي التي تحدده، تعيق نظرتنا إلى كل منها نظرة موضوعية تحدد مجالاتها التي تشتغل فيها، وتعيِّن حدود كل منها في تقديم الأجوبة الملائمة عن نوع الأسئلة التي يمكن أن يجيب عليها أحدها دون الآخر.


وما دمنا نتعامل مع هذه المجالات بدون تدقيق ما يمكن أن يضطلع به أي منها في المجتمع لا يمكننا أن نؤسس للثقافة العلمية بالمعنى الذي نعطيه إياها. 


يحتاج العقل إلى الثقافة العلمية، احتياج الدين إليها. ولا يكفي ادعاء العقلانية لنكون قادرين على توظيف العقل بالشكل الملائم. كما لا يكفي أن نتحدث عن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم لندعي أننا نسهم في إشاعة الثقافة العلمية.


كما أنه لا يمكننا فقط بدعوى الاشتغال بالعلم الإيهام بأننا ننشر القيم العلمية. إن نشر التفكير العلمي والقيم والمعرفة العلمية من خلال استغلال مختلف الوسائط، وإقامة الجسور بين مختلف المجالات الكبرى، هو ما يمكن أن يوصلنا إلى تصورات جديدة عن دور العلم في الحياة، بدون جعله بديلا عن العقل أو الدين اللذين يمكنهما حين ينبنيان على أسس علمية يشتركان في تقديم رؤية سليمة ومعقولة لكل منهما بعيدا عن السفسطة أو السجال العقيم.


بهذا فقط يمكننا جعل ما ينتشر في الفضاءات الوسائطية الجديدة يتراجع عن فرض هيمنته على عقول الناس وأهوائهم. 
كما يمكننا، بواسطة الثقافة العلمية، تجاوز التمييز بين العقل والدين، يمكننا تجاوز التقسيم بين العلوم والآداب والفنون، ونحن نفضل أحدهما على الآخر في مدارسنا ومعاهدنا المختلفة.


فإذا كان الإبداع الفني أيا كان جنسه له خصوصيته، فإن دراسة الفن والإبداع والأدب ينبغي أن تتأسس بدورها على الأسس العلمية. وهذا لا يلغي أهمية البقاء رهن التأويلات والقراءات المعيارية، لكن شريطة الاستفادة مما تقدمه الإجراءات العلمية المناسبة. 


نقصد بالثقافة العلمية التي علينا إشاعتها بجعلها مرتبطة بالمجتمع، وفي خدمته، وليست فقط في المختبرات والمراكز، الثقافةَ المبنيةَ على السؤال النقدي الذي لا يسلِّم بالأشياء التي ينتهي إليها إلا بعد إخضاعها للبحث والتمييز والمقارنة.


ولا بد في هذا السياق من انتهاج سياسة تربوية وتثقيفية على أسس البحث العلمي لتكوين أجيال قادرة على التفكير وإعمال النظر، وطرح الأسئلة. 


إن مدارسنا، ومنابرنا الإعلامية، وكل أصناف الوساطات في فضاءاتنا تعيد إنتاج أصناف التفكير السائدة، وتغيِّب الثقافة العلمية في النظر والعمل، وفي أي موضوع من الموضوعات التي نحيا بها.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى