الأدب النسوي

عن قوّة النساء .. ما معنى أن تكون امرأة ؟

 

  • كتابة تاريخ جديد لـ”الشيء” الإنساني

بدأت المجلّات الفرنسية، بعد الكتب، تكتب تاريخاً جديداً لـ”الأشياء الفرنسية”، ضمن منشورات تراعي زمنية “الشيء” الذي تؤرّخ له.

ونقدّم اليوم واحدة من أقوى وأعرق المجلات الفكرية الفرنسية “فلسفة” philosophie ضمن عددها الخاص الأخير الذي خصصته لموضوع كبير: “قوّة النساء، تاريخ آخر للفكر”.

بالإضافة إلى مقالات العدد، أجرت هيئة تحرير المجلة حوارات عديدة مع نساء من المشهد الفكري في فرنسا وبلجيكا. وقد استهلّت هذه الحوارات بحوار مع الفيلسوفة البلجيكية فينسيان ديسبري (أندرلخت 1959)، التي تدرّس بجامعة لييج، ومن مؤلّفاتها كتاب “التفكير مثل فأر” (كاي، 2009). وهي لا تقدّم نفسها باعتبارها مناضلة نسوية، حيث تشير في العديد من مقالاتها وحواراتها إلى أنها تجد صعوبة كبيرة في تقديم نفسها باعتبارها تنتمي إلى خانة النسوية، حين تُستعمل بمعنى النضال والتأثير في تاريخ النساء. وسيكون الأمر، كما ترى وتؤكّد، نوعاً من التضليل، بل تقدّم نفسها باعتبارها فيلسوفة مؤمنة بقضية النساء، واستفادت من هذه القضية، وذلك أمر يستوجب منها الاعتراف.

لكن السؤال الذي ظلّت فينسيان تطرحه هو: هل النساء يفكّرن ويفعلن ويؤثّرن بشكل مختلف عن الرجال؟ إذا كان الجواب هو نعم، وإذا كان الهدف هو تطوير قضية المرأة فهل من مصلحة النساء تقديم وتوضيح هذه الاختلافات؟

والوجه الآخر الذي تقدّمه مجلة “فلسفة” لهذه الفيلسوفة المختلفة هو اهتمامها بعالم الحيوانات، ولها في هذا المجال كتب ودراسات عديدة.

  • ما معنى أن تكون امرأة؟

جلّ النساء طرحن هذا السؤال: ما معنى أن تكون امرأة؟ فكان له مفعول بأثر رجعي. عادت ف. ديسبري إلى مسارها وحاولت البحث عن علامة في مسارها المهني والنسوي، ولاحظت أنها اهتمّت بأشياء ليست خاصّة جدّاً بها كامرأة وغير مناسبة، وعُدّت عديمة الفائدة بالنسبة للفلسفة لأنها لم تحقّق مفاهيم كُبرى مثل المشاعر.
لكن، رغم كل شيء، لا بدّ من مكابدة البحث عن قوّة النساء.

إن عالِم الطبائع ثيلما رويل بيّن كيف أن النساء الرائدات في دراسة الثديات في الستينيات لاحظن الكثير من الأشياء أفضل من زملائهن الرجال لأنهن بقين زمناً طويلاً في مجالهن. لماذا؟ بكل بساطة، تضيف ف. ديسبري، لأنه في تلك المرحلة، جلّ المناصب الجامعية كانت مخصّصة للرجال، وكنّ لا يملكن سوى طموحاً أكاديمياً ضئيلاً. فهل هو حظّ، ربّما، للمعرفة إعمار مجال بدون طموح، دون هدف آخر غير ملاحظة ما سيقع فيه، دون تقدير للنتيجة التي يمكن نشرها؟ هذه إحدى مفاتيح المتعة التي تشعر بها النساء الباحثات في مجالات المعرفة. وهذا دفع ديسبري للاهتمام بعالم الحيوانات منذ ثلاثين سنة، وهو يتوافق مع حالتها الذهنية باعتبارها امرأة. لذلك، نضيف، إذا وُجِدت هناك قوة نسائية، فهي تبدأ إذاً من قوة اليقظة.

  • الاهتمام بموضوع الدراسة

تعطي ف. ديسبري مثالاً آخر على قوة النساء، يتمثل في اهتمامهن بالموضوع الذي تقمن بدراسته. فصديقاتها في العمل يتميزن بهذه الميزة الفاعلة. إنه نوع من القلق النظري؛ “النساء تحب النظريات، لكن ليس بأي ثمن. نحن لا نحبّ النظريات التي تسطّح التنوع الموجود في الواقع، التي تبعده عنه، التي تلحق الشرّ بالأشياء، والتي يمكن أن تكون حقيقية أو خاطئة دون أن يغير ذلك شيئاً”.

وأضافت أنها عندما شرعت في دراسة المشاعر كانت مضطرّة لقراءة النساء عالمات الإناسة. فقد اهتممن كثيراً بهذا الموضوع، وسلّطن الضوء على الطريقة التي كانت تُوزّع بها المشاعر وتنعكس على السيطرة. إن قوّة النساء هي قوّة إبدال، أي أن المرأة تصبح قوية لأن امرأة أخرى كانت وراء تلك القوّة. “إن قول “هذه امرأة قوية” يمكن أن تكون رجلاً. أنا لا أقبل قول إني امرأة قوية إلا بالرجوع، اعترافاً، إلى القوة التي منحتني إياها نساء أخريات، وبوعي هي القوة التي يمكن أن أنقلها بدوري”. هكذا تستخلص “فانسيان ديسبري” تجربتها كامرأة قوية.

  • ثلاث نساء قويات

يذكّرنا ملف العدد من المجلة الفلسفية الفرنسية “قوة النساء” برواية للكاتبة الفرنسية ماري نداي (1967، جائزة غونكور 2009) “ثلاث نساء قويات”، التي ألهمت هيئة تحرير المجلة بهذا المحور العام. ترى الكاتبة، من خلال روايتها، أن كل امرأة، بطريقتها، قوية بشكل خاص، وكل القوة مرتبطة بمعرفة المعاناة التي مرّت بها واستطاعت أن تحوّلها إلى قوة وطموح. ولا يمكن لهذا المحور الوجودي ألا يذكّرنا بواحدة من أكبر كاتبات النثر في القرن العشرين، جين بولز صاحبة رواية “امرأتان صارمتان”.

“القوة” نعت ظهر في عنوان رواية نداي، لكن الكاتبة تؤكّد أنها وهي تكتب الرواية لم تفكّر في هذه اللفظة، وأنها لا تظهر أبداً في الرواية. فهي لم تقصد وصف نوع من النساء اللاتي تراهن قويات. والأمر مجرد تقديم شخصيات لا تمثّل إلا نفسها وليس خلق وجوه، رغم أن شخصية “خدي ديمبا” في الرواية رمز أكثر منها شخصية واقعية. وحين انتهت من كتابة الرواية، قضت عدّة أسابيع في البحث عن عنوان. فاختارت عنواناً أولياً “ثلاث نساء”، لكن كان ينقصها نعت. وكان يمكن أن تختار واحداً في اتجاه مغاير عن “قويات”، مثل “حزينات”، أو “مضطربات”… لكن الرواية تؤكّد أنها لا تحبّ العناوين الحزينة ولا تلك التي يمكنها أن تجعل القارئ يشعر بالقصة، أو يحكم على الشخصيات.

وهي مقتنعة أن نعت “قويات” يقوم بنفس الشيء رغم كل شيء، بحيث حين يفتح القارئ الرواية تكون لديه فكرة مسبقة عن الزاوية التي ينظر منها المؤلّف إلى نساء لم يتعرّف (القارئ) عليهن بعد، وذلك يجعله يفكر إيجابياً فيها. لذلك، تعترف ماري نداي، بكون عنوان روايتها يحرجها اليوم، لأنه يكشف عن فكر الكاتبة، “في حين أنا لا أرغب في أن تظهر أي نيّة في مشروعي، أي فكر مسبق، أي رغبة في التحكّم”.

لكن في الأخير استقرّ اختيارها على لفظة “قويات” نظراً للتناغم الموجود بين الكلمات الثلاث: ثلاث. نساء. قويات. ونظراً، أيضاً، للمفارقة الطاغية عليها، ما دامت قوة هؤلاء النساء لن تظهر بعد ذلك. لكن، من حقّنا طرح السؤال بخصوص طبيعة هذه “القوة”، خصوصاً بعد ظهور ترجمات عديدة للرواية إلى لغات أخرى، ولم تظهر فيها لفظة “قويات” كأنها بلا دلالة. فهل القوة تعني: النفوذ، التأثير، السلطة…؟

بعد مسافة زمنية فصلت الكاتبة عن روايتها، الصادرة سنة 2009، وجدت اليوم أنها لم تكن ترى في النساء امتلاكهن لأي قوة خاصة متعلقة بجنسهن. فموضوع روايتها لا يتجاوز ثلاث نساء قويات، ولا يقول: النساء قويات.

عن سؤال “بماذا توحي لك عبارة “قوّة النساء”؟” الذي طرحته سفين أورتولي (من هيئة تحرير مجلة “فلسفة”) أجابت الروائية الفرنسية كلوي دولوم (1973) بأن العبارة سلفية جدّاً، إنها توحي بشخصية ليليت، أول امرأة خلقها الله من صلصال. نجد هذا الأمر في الإنجيل، والتلمود، والزبور، وخصوصاً في القبالة. ليليت هي المرأة التي تعرف كل شيء، وتلك التي تقول “لا”، وترفض الخضوع للرجل. وحين تمّ طردها من جنة عدن أصبحت شيطانة تائهة في كلّ مكان.

لقد تمّ تقديم قوّة المرأة، على الدوام، باعتبارها قوّة يجب القضاء عليها. وإن انتشار هذه الفكرة في الفضاء العام، جعل تأليف كتاب مثل “الساحرة، قوة النساء التي لا تُهزم” (2018)، أمراً ضرورياً. وبعد قرون من الرفض والإنكار، كان لا بدّ من وقوع ذلك، من أن نعيَ بأن المرأة قوية فعلاً، وخطيرة أيضاً، وهذا بُعدٌ نسعى للتستُّر عنه. لذلك تدعو دولوم إلى ضرورة فهم هذه القوّة كشرط لتغيير التمثلات، وأيضاً كقوّة لتفجير كل شيء. لقد ظللنا نربط دائماً شرط القوة هذا بنوع من النعومة، التي هي بالضرورة خاصة بالمرأة. لكن لا ينبغي التغاضي عن عنف النساء، سوداويتهن وحدّتهن.

  • استعادة مقولات ميشيل فوكو

استعادت دولوم مقولة ميشيل فوكو حول “السلطة الطبيعية”، وهي مرتبطة بتسليط الرقابة على الجسد، الحياة والجنس. وهذه المقولات ممتدّة في مجال التحليل النفسي بالأساس. ففي التحليل النفسي من الصعب إعادة بناء الذات باعتبارك إنساناً حين يُقال بأن في أعماقنا توجد، إذا صدّقنا فرويد، “رغبة قضيبية”. إن التسلط موجود في أعماق النفس، وتلعب دوراً رئيسياً في تكوين النساء، مما يعني أن النساء يوجدن في حركة دائمة للعثور على مكانهنّ، لفرض أنفسهنّ ككائنات تامّة؛ إنهنّ يكونّ أنفسهنّ دون توقّف، لكن في خفاء.


العربي الجديد

 

محمود عبد الغني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى