منبرُنا

دوستويفسكي في الدار البيضاء

اقتنيت من سوق الكتب المستعملة في حي “الحبوس” رواية “ملعون دوستويفسكي” للأفغاني عتيق رحيمي. كان شبيه راسكولنيكوف وسالي في الرواية، شاب وشابة أفغانيان. يظهر الشاب صامتًا طوال الوقت، في حالة خرس اختياري. أقرب شبهًا ببطلي هذا نجم ساحة اﻷمراء في الدار البيضاء، المهمش الذي لا يهتم لشأنه أحد غيري في هذه اللحظة.


ففي مقهى الفندق الذي أسكنه، غير بعيد عن معرض الدار البيضاء، كل صباح قبل الإفطار، كان يقف قبالتي دوستويفسكي بقامته وعظام لحيته ـ تلك اللحية التى وصفتها بإتقان آخر زوجاته آنا غريغوريفنا حين كان يمشطها جيئة وذهابًا وهو يملي عليها فصول رواياته. صامت، يجلس وحيدًا ولا يقوم سوى بحركة يتيمة، وهي النهوض والمشي، ثم الدوران في النقطة نفسها، بعدها يعود إلى الجلوس على جدار النافورة المعطلة لساحة الأمراء، أو (البرنس). عيناه شاردتان، ولا يمكن للناظر الذي يعرف دوستويفسكي إلا أن يشعر بأنه أمام فيودور حقيقي جاء من وراء الزمن.


حاولت تصويره، ولكنه هرب راكضًا. نصحني محمود الريماوي بألا أحاول، خوفًا من ردة فعل غير متوقعة.. ولكن كم هو عجيب أن ترى دوستويفسكي كل صباح. تراه بصمت المعجزة.


الدار البيضاء، أو الغول اﻷسطوري، كما يحلو لبعض المثقفين تسميتها، مدينة عملاقة تبتلع كل شيء وتصهره في معدتها الهائلة. كل حي صغير فيها بمثابة حياة كاملة تختصر العالم. نهارها يموج بالحياة، والعمال، وطالبي الرزق، والطلبة، والمجانين المسالمين، والمطاعم المتناسخة على انعطافات الرؤية، بليلها غير المأمون الذي تتربص به كائنات شبحية.


أذكر حين كنت أدرس في الرباط، في مطلع التسعينيات، أتردد في زيارة الدار البيضاء وحيدًا، تحت وقع ما سمعته من قصص كثيرة عنها أشبه بالخرافة. فمن أراد أن يهرب، أو يتوه عن أهله ولا يجدونه، فإنه يذهب إلى الدار البيضاء.. قصص عديدة تتداولها اﻷخبار حول مختفين يتم العثور عليهم هناك. وأحيانًا بعد عقود من اختفائهم. مدينة يمكن تشبيهها بمدن العالم الكبرى، كمكسيكو سيتي، وبومباي، وسان بطرسبورغ؛ مدينة دوستويفسكي.


لم يعد الآن يعتريني أي خوف وأنا أتبع أثر مجنوني المسالم الشبيه حد التماهي بصاحب “الجريمة والعقاب”. لقد تجاوزت ذلك الوهم بعد زيارات سنوية متتابعة لمعرض الكتاب، لأكتشف بأنها مدينة حميمة، وسلام كامل في النهار، فهي تكون سارحة مشغولة بنفسها وأسواقها وحركتها طوال نصف اليوم، ولكنْ، ما إن يحل الليل إلا وتستحيل شوارعها الرئيسة هدوءًا متوجسًا وحانات داجية، وعلى العابر في أزقتها التسلح بقدر مهم من الانتباه والحذر.


حين اقترب الغروب كان الشبيه قد قطع دوراته اليومية حول ساحة اﻷمراء، تلك الدورات التي يؤديها كوظيفة، أو واجب، وبحماس صامت. يدور حول الساحة ويستريح لحظة على حواف النافورة المهجورة قبل أن يستأنف المشي ـ من جديد ـ بحماس لا يفتر.


ولكن ما إن تبدأ الرؤية في الأفق بالبهوت والغروب يبعث برسائله، وبحدس يقظ فإن شبيه دوستويفسكي في تلك الأثناء يترك مكانه ويتقدم خطيًا مخترقًا الحارات التي بدأت تنسحب منها الحياة. وفي الصباح، أراه يحوم أمامي قرب المقهى. يدور ويدور كمتصوف جاء من وراء الزمن والحياة ليتلو صلواته بصمت وهو يطوف حول كعبته.


ثم يختفي دقائق عدة متنقلًا في أكثر من مكان وساحة، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى تلك النافورة المهجورة التي تتضح أكثر من مقهى (لاشوب) الذي اعتدت الجلوس فيه في الصباح. وكأن سرًا غامضًا لن يمكن لسواه حمله يدفعه إلى الاستراحة على حواف تلك النافورة من دون الأماكن العامة المتاحة للجلوس، والتي تتوزع بين تكيات، وكراس إسمنتية، وحواف أسوار واطئة وعتبات، ولكنه يختار فقط تلك الدائرة، وفي مكان محدد منها يعرفه ويجده شاغرًا طوال الوقت.


على طوال زياراتي السنوية التي تتزامن مع معرض الدار البيضاء، كنت أجد شبيه دوستويفسكي ينتظرني في المكان نفسه. وكأن الـ355 يومًا، حيث أني عادة ما أمكث فقط عشرة أيام من عمر المعرض كل عام، المستقطعة من حياتينا يتوقف فيها الزمن مديدًا، لينبثق من جديد في لحظته الجديدة.


وجدتني مع الوقت أبحث عنه، هو الذي لا يبحث عن شيء أو أحد، وقد حسم حياته بالمشي اللانهائي. وبالهدوء اللانهائي، غارقًا في بحيرة صمته التي يجدف فيها بساقيه في طرق حفظتها خريطة رأسه، من دون تعثر، أو تردد، أو ارتباك.


جربت مرة أن أدور وراءه في طريقه الخطي الذي يتبع حواف الطريق، طريق مدروس بحكم الخبرة والعادة، ولا يتعثر بشيء. طريق الحواف هو طريق الباعة وماسحي اﻷحذية وعسس البنايات والمحال. كان يمر عليهم دون أن يتعثر بشيء أو أحد، قبل أن يعود أدراجه إلى ساحة البرنس حيث النافورة المهجورة موطئ استراحته الدائم قبل أن ينطلق في جولة جديدة مكرورة، وجدت أن الوجوه فيها تتغير باستمرار، والأجساد تبدل مواقعها في كل مرة.


وحين يقترب الغروب، فإنه يقضي استراحته اﻷخيرة، وعينه على نواة اﻷفق الذي بدأ إشراقه يكبو رويدًا رويدًا، ومن هناك ينطلق إلى المجهول، حيث سيقضي عتمة ليله.
ولكن ذات غروب قررت أن أتبعه حتى النهاية، غير مكتف بجولات النهار، ممنيًا النفس باكتشاف جديد يستحق سكنًا في مساحة ذاكرة الرأس، أو ذاكرة الورق.


كان يسرع الخطى هذه المرة. شعرت بخطواته تتسع عما عهدته وهو يذرع الساحات النهارية. وكانت خطواتي تتلاشى وراءه، ولكنني كنت أبذل قصارى جهدي للحاق به. تعمدت ألا أحاذيه حتى لا يشعر بخطواتي، تاركًا مسافة فراغ واسعة، لا تلبث أن يعتمرها أحد العابرين وهو يمشي ببطء ليجعل الفجوة بيننا تتسع.


مشيت طويلًا وراءه بتحفز من يتبع مسار عاصفة، إلى أن دخل حيًا شعبيًا مظلمًا، فتبعته رغم هطول العتمة التي بدأت تخلع رداءها المتوجس على الوجود. كانت خطواته تتسع إلى أن اختفى في أحد المنعطفات، فوجدت نفسي أركض حتى تعثرت بصبية يلعبون بصوت عال مستغلين قدر الإمكان آخر لحظات الغروب. اختفى دوستويفسكي من مرمى نظري نهائيًا. رجعت إلى أحد الصبية وسألته عن اسم الحي. كان هادئًا ومبتسمًا وقد قرأ في ملامحي علامات غريب تائه: (حي الشيشان).


ـ حي الشيشان!
الناس يسمونه هكذا، ولا أعرف اسمه الحقيقي.
ـ أريد الوصول إلى وسط البلد إلى ساحة البرنس، من أين أخرج.
ـ إحذر جيدًا. لقد دخل الظلام. يجب أن تأخذ تاكسي.
ـ أين أجد تاكسي؟


تبرع بالمشي أمامي حتى أخرجني من الحي، ووقف معي وهو يلوح لكل تاكسي فارغ.
حين أزمعت الركوب أخرجت من جيبي عدة دراهم لأعطيها إياه فرفض أن يقبلها.
اختفى دوستويفسكي، ولكنه ظهر في الصباح كسائر عهده.


والآن، وأنا أكتب هذه الأسطر، مر يومان على زيارتي للدار البيضاء، ولكني في هذه الزيارة لم أجد دوستويفسكي في الساحة، بعد أن افترقت عنه 355 يومًا.
جلست وقتًا أنتظر عبوره الصامت، ولكن لم يبن له أي أثر. سألت عنه ماسح أحذية يقتعد غير بعيد عن النافورة المعطلة.


ـ ذلك الرجل الصامت ذو اللحية والعينين الغائرتين الذي اعتاد أن يجلس هنا. أين ذهب؟ ماذا حل به؟
ـ لا أعرف.


جلست في مكانه الذي اعتاد على حافة النافورة المعطلة. ومن هناك قمت ماسحًا الطرقات والساحات النهارية التي اعتاد أن يسلكها. أستريح قليلًا، حيث اعتاد أن يستريح، قبل أن أستأنف جولاتي الصامتة. وحين يهل الغروب، ثم تعتم الرؤية في الأفق، أعود أدراجي إلى الفندق.


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى