النقل الديداكتيكي للمعرفة اللسانية إلى المعرفية المدرسية
النقل الديداكتيكي هو”مجموع التحولات التي تطرأ على معرفة معينة في مجالها العالم من أجل تحويلها إلى معرفة تعليمية قابلة للتدريس”. إن المعرفة العلمية يتم إنتاجها في سياق علمي خالص يعتمد على البحث والتجربة من قبل علماء متخصصين، ويتطلب الوصول إليها سنوات عديدة من الدراسة والتحليل، تشوبها بعض مراحل الإخفاق والدحض والانتقاد البناء، وكل ذلك في سبيل الرقي بالبحث العلمي وتطويره.
لذلك يتطلب تدريسها للمتعلمين داخل الفصول الدراسية أن تُجرد من السياق الذي أنتجت فيه، وأن تُبلور في قالب تربوي يناسب مستواهم المعرفي وقدراتهم العقلية، وهو ما يطلق عليه اسم “النقل الديداكتيكي للمعرفة العالمة”.
إن النقل الديداكتيكي يحوّل المعرفة العالمة إلى معرفة مدرسية قابلة للتدريس، وتستجيب لمتطلبات المجتمع وحاجاته، وتخضع للإطار العام الذي يحكم السياسة اللغوية المتبناة من قبل القوى السياسية المتحكمة في تدبير الشؤون العامة للبلد. هذا النقل لا يتم بشكل مباشر بل يمر بالمراحل التالية:
إن المعرفة العلمية معرفة متخصصة تهم فئة من فئات المجتمع، ولا يستطيع فهمها وتمثلها إلا ذووا التخصص، وبذلك فهي غير قابلة للتدريس، إلا أنها تشكل المادة الخام التي يُعتمد عليها في بناء المواد المدرسية، أما المعرفة المدرسية فهي نتاج عملية النقل الديداكتيكي للمعرفة العلمية بعد تكييفها مع السياسة اللغوية والتربوية، وتُقدَّم على شكل برامج دراسية يشرف على إعدادها نخبة من اللسانيين والبيداغوجيين والأساتذة، ويسهر المدرس على تنفيذها حسب التوجيهات التربوية المعتمدة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى معرفة مُدرَّسة تنحصر فيما يتم تدريسه داخل الفصل الدراسي بشكل فعلي.
انطلاقا من وضعيات ديداكتيكية تفتح للمتعلم آفاقا واسعة للمساهمة في بناء تعلماته بتوجيه من المدرس، إلا أن المعرفة المُدرَّسة لا تُكتسب كليا من قبل المتعلم، وإنما يصبح قادرا على تمثل جزء منها فقط، وتوظيفه وإعادة إنتاجه في مواقف تواصلية معينة، فتتقلص بدورها إلى معرفة مُكتسَبة يستطيع استحضارها واستخدامها بشكل سليم لحل وضعيات-مشكلة معقدة،كما تشكل لديه منطلقا لبناء تعلمات جديدة.
وينبغي أن نشير إلى أن النقل الديداكتيكي للمعرفة العلمية إلى معرفة مدرسية يتخلله نقل ديداكتيكي آخر يتم داخل الفصل الدراسي، ويقوم به المدرس من أجل تكييف البرنامج الدراسي مع مستوى متعلميه، ويطلق عليه “النقل الديداكتيكي الخاص”؛ ذلك أن النقل الديداكتيكي العام يراعي في إعداد البرامج الدراسية قدرات المتعلمين الإدراكية والمعرفية والحس- الحركية بشكل عام، دون أن يأخذ بعين الاعتبار بعض الحالات الخاصة التي تتولد عن تعثرات دراسية سابقة، مما يدفع المدرس إلى القيام بنقل ديداكتيكي خاص كإجراء لملائمة المحتويات الدراسية مع مستوى متعلميه، وتفادي الفشل الدراسي الذي يقود حتما إلى الهدر المدرسي.
ويشترط في المسافة الفاصلة بين المعرفة العلمية والمعرفة المدرسية أن لا تكون كبيرة لئلا تنحرف المفاهيم والمعارف، كما لا ينبغي أن تكون صغيرة لئلا تكون بعيدة المنال عن إدراك المتعلمين كما يوضح الشكل التالي:
يتضح انطلاقا من الرسم أعلاه أنه كلما كانت المسافة بين المعرفة المدرسية والمعرفة العلمية صغيرة كلما قلَّت نسبة انحرافها، وازدادت درجة صعوبتها، وكلما كبُرت المسافة بينهما ازدادت درجة انحرافها واتسمت ببساطتها، لذلك ينبغي أن تكون المسافة الفاصلة بينهما معقولة؛ إذ يجب أن تكون المعارف الـمُدرّسَة معارف جديدة تناسب مستوى المتعلمين وقدراتهم العقلية والوجدانية والحس– الحركية، وتلبي حاجياتهم، وتتدرج من البسيط إلى المركب،كما ينبغي أن تحافظ على مصداقيتها العلمية فلا يشوبها زيغ أو تشويه. ويجب أن تتصف عملية النقل الديداكتيكي بمجموعة من الصفات مثل:
– عدم المبالغة في تبسيط المعرفة العلمية.
– أن لا يؤدي تجزيء المعرفة العلمية وتبسيطها حسب قدرات المتعلمين ووفق البرنامج الدراسي إلى الإخلال بها، وإفقادها قيمتها العلمية.
– الانتقال من البسيط إلى المركب إلى الأكثر تركيبا.
– أن تكون المعرفة العلمية المقدمة للمتعلمين على شكل وحدات تتسم بالترابط فيما بينها.
1- الفاسي أحمد، الديداكتيك مفاهيم ومقاربات، مطبعة الخوارزمي، تطوان، 2016، ص:20.