البحث العلميتربية وتعليمعلوم

بِنية الثورات العلمية

يستهل شوقي جلال ترجمته لكتاب “بنيات الثورات العلمية” لصاحبه “توماس كون” بحصر جملة من التمايزات التي تفصل القرن العشرين عن القرن التاسع عشر: فإذا كان القرن التاسع عشر قد جسد العلم و اليقين و الإيمان بالنظريات و أحادية المذهب و الثقة في الاستقرار و انتصار الإنسان و الايمان بالذات الفاعلة المتعالية على السياق و التاريخ.

فإن القرن العشرين قد هدم كل ذلك ليؤسس للشك و التمرد و التعددية و الأزمات و الصدمات، وليخضع الذات للسياق و التاريخ. إذا كان القرن التاسع عشر قد توج فلسفة التنوير، كما جسدها ديكارت ورسخ استقلال الفكر و العقل و الثقافة و الحقيقة، فإن القرن العشرين أسس لتاريخ وسوسيولوجية الفكر و العقل و الثقافة و الحقيقة، وربط البنية التي تتلاحم فيها الذات مع الموضوع، بالمجتمع و التاريخ. بعبارة أخرى،

إن القرن العشرين قد ألغى الدعائم التي ترسخت في القرن التاسع عشر و أحدث ثورة في مقومات الفكر ومرتكزات الثقافة في جميع الفروع المعرفية، فالثورة التي شملت الفيزياء الكلاسيكية و العلوم الطبيعية انعكست على الفلسفة و العلوم الاجتماعية، فأصبح من المشروع التساؤل عن حقيقة و صدق الفيزياء الكلاسيكية أو الحديثة.

إن النظرية النسبية قد غيرت مفهوم الزمان و الخصائص الهندسية للمكان، بل غيرت مفهوم الكون. نتج عن هذا التغيير تشكيك في جوهر الفيزياء الكلاسيكية و في أساس العلوم المضبوطة، فكان أن تم تجريد الحدث من موضوعيته و استقلاليته.

لاحظ “هيزنبرج” أن النظريات الحديثة اتنبثقت من داخل العلوم المضبوطة، و ذلك في إطار البحوث التي حاولت إنجاز برنامج الفيزياء الكلاسيكية. طرحت هذه الملاحظة جملة من الإشكالات منها: كيف يحدث التحول الثوري من الداخل؟ كيف يتطور العلم، و ما معنى الحقيقة العلمية ؟ و ما هي العلاقة بين المعرفة العلمية و الثقافة ؟ ما هي معايير العلم و كيف نمايز بينه و بين اللاعلم؟

كيف نشأت المعرفة العلمية و ما وظيفتها و ما حركتها ؟ إن هذه الإشكالات الفلسفية المعرفية و المنطقية التي ولدتها أزمة العلوم الطبيعية، أدت إلى الوقوف عند الأسس الإبستيمولوجية للعلم، و ذلك لضبط محور العملية المعرفية و الذات و الموضوع و علاقة المعرفة العلمية بنسق الموضوعات المناظرة.

كان من نتائج ذلك تفسير العديد من المفاهيم السائدة و توضيح العملية المعرفية و تعديل أسلوب التعامل مع الظواهر. و ذلك بفضل مجموعة من الإنجازات التي حققتها العلوم عامة، بما في ذلك العلوم الإنسانية..

لئن كانت هذه الإشكالات في مجموعها قد أسهمت في إحداث تغيير في صورة العالم، فإن الإشكال الذي كان له دور أساسي في ذلك هو إشكال تطور العلم في التاريخ، الذي أدى – حسب ما أشار إليه شوقي جلال – إلى بلورة اتجاه جديد سمي ب” منطق التطور العلمي”. ترجع أهمية هذا الاتجاه إلى كونه اهتم بدراسة الميكانيزمات التي تنتج العلم و ترصد ديناميته و تضبط مساراته،

وأسس مناهج تتغيا تحصيل المعارف الجديدة و اكتشاف قوانين التقدم العلمي و معاييره و صيغه و تحدد علاقة العلم بالتراث الثقافي و نسق الفكر المشترك و ترصد علاقة التقدم العلمي بالتقدم الاجتماعي و الارتقاء الحضاري و علاقة العلم بالتنبؤ بالمستقبل و بالسياسات القومية والإبداع و التعليم … كما وضع هذا الاتجاه معايير الحكم على المعرفة للفصل بين العلمية منها و غير علمية.

لقد حقق العلم إنجازات هائلة بدت تشكل خطرا يهدد الإنسان و الوجود الحضاري، من ثم فرض السؤال التالي: هل مسيرة العلم عشوائية أم يمكن التحكم فيها و توجيهها ؟ إن فهم مسيرة العلم و توجيهه يقتضي فهم قوانينه بالدرجة الأولى، و ما يقتضيه ذلك من رصد للعلاقات بين كل فروع المعرفة .

إن تعقد فروع المعرفة و تخصصاتها و غزارة إنتاجاتها و عمق إشكالاتها و ما يفرضه ذلك من تنوع المدارس و المناهج، وضع مؤرخ العلم أمام إشكالات عديدة منها: هل يدرس العلم بوصفه فرعا معرفيا أم بوصفه ظاهرة اجتماعية لها تاريخ ؟هل هناك علم عام نستقي منه المعطيات ؟ هل العالم الفرد أو العلماء قوة اجتماعية؟ ما هي الجوانب النفسية للعلماء المبدعين

و كيف عبروا عن أنفسهم؟ و ما هو دور البيئة و التراث؟ما المحدد لحركة العلم و ترابط الوقائع العلمية ؟ و ماهو التفسير المنطقي للاكتشافات؟ للإجابة على هذه الأسئلة تم الاهتمام بدراسة مظاهر اطراد التقدم العلمي و أدائه في إطار ما عرف ب ” علم العلم ” الذي أسسه جون برنال في كتابيه “الوظيفة الاجتماعية للعلم” و “العلم في التاريخ” و يتضمن فروعا عديدة منها: البنية المنطقية للعلم و منطق تطور العلم و سوسيولوجيا العلم و تنظيم العلم و اقتصاد العلم و طبيعة الإبداع و سيكولوجيا النشاط العلمي و نظرية تنظيم العلم باعتباره مؤسسة اجتماعية.

و قد تعددت وجهات النظر و مناهج البحث التي اهتمت بدراسة هذه الظاهرة في إطارها الثقافي الاجتماعي التاريخي، و ما يتطلبه ذلك من الاستفادة من إنجازات العلوم الإنسانية. هذه الإنجازات التي غيرت مسار التفكير الفلسفي و دخلت في مواجهة مع الفلسفة العلمية، أي الوضعية المنطقية أو التجريبية المنطقية، لأن تطور العلم جعل المفكرين يتبنون اتجاها غير وضعي في تناول فلسفة العلم.

و هنا يسجل شوقي جلال أن الفلسفة الوضعية أغفلت تاريخ العلم، بدعوى عدم ارتباطه بفلسفة العلم، و من منطلق عدم وجود منطق للاكتشاف. إن فلسفة العلم تقتصر على منطق البحث، الذي تنحصر مهمته في تحديد اللغة، و ذلك من أجل ضمان دقة الاصطلاحات و تطابقها، فهو يهتم بالأساس بالبنية المنطقية لكل القضايا الممكنة التي تزعم أنها قوانين علمية.

نظر فلاسفة التجريبية المنطقية إلى تاريخ العلم باعتباره يزيح الخرافة و غيرها من معوقات التقدم العلمي بشكل تدريجي عن طريق تراكم المعارف، و هذا التفسير المألوف لتاريخ العلم هو ما أطلق عليه توماس كون مفهوم “التطور عن طريق التراكم”.

يشير شوقي جلال إلى أن التمرد على فلسفة العلم أثمر آراء زعمت أنها جديدة من حيث مذاهبها و تصوراتها للطرق الملائمة لحل مشكلات فلسفة العلم و بيان هذه المشكلات. من هذه الدراسات كتاب ” بنية التوراث العلمية ” لتوماس كون. تقوم نظرية توماس كون على ما دعاه ب ” النموذج الإرشادي” أو ” البراديكم” و الذي حدده بوصفه الإطار الفكري العام الذي يؤطر مجمل النظريات في عصر بعينه و يضبط طرق البحث المعتمدة في حل المشكلات العلمية و أساليب فهم الوقائع التجريبية.

يركز كون على الطبيعة الجمعية للنشاط العلمي و يلح على أنه ليست هناك نقلات منطقية بين النمادج الإشارية المنفصلة التي يعدها عوالم مختلفة، معتبرا إن النماذج الإرشادية غير قياسية، إذ ثمة قطيعة بين المفاهيم النظرية الأساسية المختلفة في العلم، و من هنا فإن النظريات العلمية أو البراديغمات ليست نتيجة منطقية للنظريات السابقة. في كل حقبة علمية يسود نموذج إرشادي. إن النماذج الإرشادية مختلفة عن بعضها البعض و تحل محل بعضها البعض على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية.

يرتبط النموذج الرشادي، في نظر توماس كون، بمخططات معرفية هادفة تحدد طابع النظرية و مسار تطورها و أسلوب التعامل مع التجارب. ينبني تصوره هذا على فكرة “النسبية اللغوية ” التي قال بها وولف و سابير. تتلخص هذه الفكرة في أن ما ندركه قائم على أساس معايير لغوية، فتحليلنا للواقع يتم وفق قواعد تصنيف تجسدها مفردات اللغة و الأبنية النحوية، و وفق أنساق اللغة الموجودة في الأذهان، و بالتالي فإن المجتمعات المختلفة موجودة في عوالم مختلفة. تفضي بنا هذه الفكرة إلى استنتاج أننا لن نسترشد بالدلائل نفسها و لن نمتلك التصور نفسه عن العالم مالم تكن خلفياتنا اللغوية متماثلة.

إن النسبية اللغوية تفترض أن الصور اللغوية المختلفة تصنع أبنية مختلفة، و من ثمة تؤثر على معايير التفكير و السلوك. بتوظيف هذه الفكرة استطاع توماس كون أن يثير مشكلات جوهرية في فهم بنية و وظائف المعرفة العلمية و فهم العملية التاريخية الفعلية لتطور العلم.

إن الثورة العلمية في رأي توماس كون تعني التحول إلى عالم مغاير إدراكيا و مفاهيميا. يرتبط تغير العالم بإبدال النموذج الإرشادي، فتتغير وفقا لذلك رؤية العالم تغيرا تفضي بالصيغ و القواعد و المصطلحات إلى أن تأخذ معنى كيفيا جديدا. إن هذا التحول ـ أي الثورة ـ ليس له أسباب منطقية أو تجريبية تحركه، و هذا يدل – حسب تصوره- على وجود عناصر لا عقلية في تاريخ العلم.

إن قول توماس كون بوجود عناصر لا عقلية و ما يوحيه ذلك من نفي للارتقاء الحضاري العلمي على نحو متتابع كان محط انتقادات عديدة. حاولت بعض الانتقادات الدفع بالجانب اللاعقلي إلى أقصى حد ، في حين ركزت انتقادات أخرى على المشكلات الفلسفية التي تثيرها فكرة تغير النماذج الإرشادية و جدوى الحوار بين المجتمعات العلمية التي تتبنى نماذج إرشادية متباينة، ما دامت هذه النماذج الإرشادية تستجيب لعوالم مختلفة يتعذر التفاهم فيما بينها. إن هذا الطرح يلزم عنه أن حوار الثقافات مستحيل، فالحوار لكي يكون مجديا لابد أن يتم في إطار نفس النموذج الإرشادي بلغته و مفاهيمه،

و من ثم فإنه لابد – استطرادا مع نظرية كون- من أن يكون المرجع و الفيصل هو الإشارة إلى العالم الخارجي مصدر الظاهرة، كما أنه لابد من إقامة البرهان التجريبي لحسم الخلاف. يشير توماس كون إلى أن هناك من يرفض الإقرار بالظاهرة الجديدة و يسعى إلى تطويعها قسرا وفق إطار فكري موروث. يتعلق الأمر هنا بظاهرة إنسانية اجتماعية أو ثقافية لها منطق متميز. إن الأمر هنا ليس اختيارا إراديا، بل هو مرتبط بمرجع تدعمه أجهزة البحث التي هي جزء من عناصر البرهان التجريبي.

ركزت الانتقادات أيضا على التعريف الذي قدمه توماس كون للمنهج العلمي و المعايير التي اعتمدها للتمييز بين العلم و اللا علم و قوله بنسبية المعرفة، فكل معرفة صحيحة قياسا إلى نموذجها الإشاري دون معايير للحكم على الصواب و الخطأ غير الرجوع إلى النموذج الإرشادي. إنه يساوى بين مناهج بحث القدماء و المحدثين حتى و إن تعارضت، و على الرغم مما يراه انقطاعا بين النظريات في التاريخ.

في هذا الإطار يشير شوقي جلال إلى أن التعارض بين النظريات القديمة و النظريات الحديثة يتعلق بنظرية المعرفة و المنهج العلمي اللذين يندرجان في إطار معايير التقدم العلمي و الحضاري. إن الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية قد تكون واحدة عند الأقدمين و المحدثين، لكن الفارق الجوهري فارق معرفي. لهذا فالنظريات التي أشار إليها كون عند المقارنة بينها و بين النظريات الحديثة هي نظريات غير علمية في رأي منتقديه. إن هناك اتصالا بين النظريات لكن في اتجاه واحد لا اتجاهين.


فالباحث المحدث يستطيع أن يفهم نظرية بطليموس، بينما من يفكر بطريقة الأقدمين يصعب عليه فهم النظريات الحديثة. و يتساءل في الاتجاه نفسه ماذا عن النظريات التي تبثت صحتها ثم حلت محلها نظريات أخرى؟ يقول لانسانا كيتا إن الفرق هو في المدى و الدرجة، و يضيف بولكاروف إن تعديل النظرية يحدث بوسائل مختلفة و يتناول مستويات متباينة، ثم إنه لابد من النظر في طبيعة التحول،

فقد تكون النظرية الجديدة استيعابا للنظرية القديمة و الانتقال إلى مستوى أعمق يقضي بإعادة النظر في الأسس الفيزيقية و الفلسفية و المنطقية لمفهوم ما. إن التغيير في أداة الاستقراء يفضي إلى نتائج و تفسيرات جديدة و بالتالي إلى نظرية جديدة.

هذه بعض الاعتراضات التي ساقها شوقي جلال في تقديمه لكتاب”بنية الثورا-$-CA العلمية ” الذي انطلق فîه صاحبه توماس كون من كتابات إميل مايرسون و هلين متسجر وانيليز ماير ومن كتاب لافجوي “سلسلة الوجود العظمى”، ليحدد الطريقة التي كان يفكر بها المرء علميا خلال حقبة كانت فيها قواعد الفكر العلمي مغايرة للقواعد السائدة اليوم. و قد أتاحت له هذه الكتابات صياغة مفهومه عن الصورة التي يمكن أن يكون عليها تاريخ الأفكار العلمية.

لقد حاول توماس كون استكشاف مجالات علمية ليست لها علاقات واضحة بتاريخ العلم واضحة ، لكنها تطرح مشكلات أثارت انتباهه، من ذلك دراسة بياجي لعوامل نمو الطفل التي تجعله ينتقل من مرحلة إلى أخرى من مراحل النمو، والدراسات التي تناولتها سيكولوجيا الإدراك، خاصة مدرسة الجشطلت و تأملات وورف حول أثر اللغة على رؤية الإنسان للعالم و المعضلات الفلسفية التي ناقشها كواين و المتعلقة بالتمايز بين ما هو تحليلي و ما هو تركيبي و دراسة لودفيك فليك المعنونة ب ” ظهور الحقيقة العلمية و تطورها” و دراسة ساتون. كل هذه الدراسات جعلته يدرك أن الأفكار التي تم التطرق إليها بحاجة إلى أن تعرض في إطار سوسيولوجيا الجماعة العلمية.

طرح توماس كون تصوره عن العلم في معهد لوويل في بوسطن، من خلال محاضرات حول البحث عن نظرية لعلم الفيزياء. بالإضافة إلى ذلك درس تاريخ العلم و ما يطرحه من المشكلات. تمخض عن هذه الدراسة وضع قالب منظم من الأفكار شكل مصدرا للتوجيه و إطارا لصوغ بنية المشكلات التي اهتم بمناقشتها. إن الدراسات التي قام بها غلب عليها الطابع التاريخي، لكنها اتخذت فيما بعد منحى ركز فيه بالخصوص على الدور الرئيسي لبعض المبادئ الفلسفية في البحث العلمي الخلاق، و على مقاربة طريقة تراكم الركائز التجريبية التي تؤدي إلى صوغ نظرية جديدة و طرق استيعابها من قبل الباحثين الملتزمين بنظرية قديمة مناقضة .

أما الجزء الأخير من دراسته، فقد خصصه لمقاربة أوجه الاختلاف بين العلماء المتخصصين في العلوم الاجتماعية و علماء الطبيعة، و ذلك من منطلق أن المقاربات التي تقدمها العلوم الطبيعية لهذه الإشكالات هي أكثر رسوخا و تحديدا من المقاربات التي تقدمها العلوم الاجتماعية. مع ذلك يمكن القول إن ممارسة علوم الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء لا تثير جدالا بشأن القضايا الأساسية التي هي محط نقاش بين علماء النفس أو علماء الاجتماع مثلا، و السبب في ذلك راجع إلى الدور الذي تمارسه النماذج الإرشادية في مجال البحث العلمي.

تشير النماذج الإرشادية إلى الإنجازات العلمية التي تمثل في عصر بذاته نماذج للمشكلات و الحلول بالنسبة لجماعة من الباحثين العلميين. نلاحظ أن كون في كتابه هذا أولى عناية خاصة لهذا الجانب، و ذلك لتقويم المعطيات وإحداث تغير في إدراكها. و على الرغم أن منظوره قابل لأن يشمل أنماط البحث الجديدة التاريخية و الاجتماعية،

فإنه اقتصر على ايراد شواهد من تاريخ علمي الأحياء و الفيزياء، منبها إلى أن الطريقة التي تؤدي بها مظاهر الشذوذ إلى جذب اهتمام المجتمع العلمي تحتاج إلى دراسة مستفيضة على نحو ما يحدث بالنسبة لبزوغ الأزمات، و مؤكدا على أن كل ثورة علمية تغير المنظور التاريخي، و تؤثر في بنية منشورات البحث العلمي و الكتب الدراسية الصادرة بعد الثورة العلمية.

وضع توماس كون تمايزا تخطيطيا عاما بين مرحلتي ما قبل النموذج الإرشادي و ما بعده . إن كل مدرسة علمية تسترشد بنموذج إرشادي، لكن هذا ليس كافيا للانتقال التطوري للعلوم الذي يسهم فيه التقدم التكنولوجي، و الأوضاع الخارجية الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية. إن الأوضاع الخارجية قد تساعد على تحويل شيء لا يعدو كونه مجرد شذوذ إلى مصدر لأزمة حادة،

و قد حاول كون أن يفسر كيف تؤثر الظروف الخارجة عن العلوم في اختيار أحد البدائل المتاحة لمن يلتمس إنهاء أزمة ما عن طريق اقتراح إصلاح ثوري في صورة أو أخرى، و قد قدم في هذا الكتاب بعدا تحليليا لفهم التقدم العلمي، و بين المضامين الفلسفية لهذه النظرة إلى العلم، حيث وقف في الفصل الأول منه على الدور الذي يقوم به التاريخ في إحداث تحول في صورة العلم.

وذلك من خلال تقديم صورة تخطيطية عن مفهوم العلم مغايرة لما هو شائع و لما يمكن أن نستقيه من السجل التاريخي لنشاط البحث لعلمي ذاته. إن هذا المفهوم الجديد الذي يقدمه لن يتبدى واضحا حتى و لو انطلقنا من التاريخ، إذا ظللنا نلتمس المعطيات التاريخية بهدف الإجابة على أسئلة تفرضها الصورة العامة النمطية و المنافية للتاريخ التي تزودنا بها كتب تدريس العلوم، و التي تفيد أن محتوى العلم يتوافق مع المشاهدات و القوانين و النظريات التي تعرضها.

إن هذه الكتب تحصر المناهج العلمية في طرائق البحث العلمي التجريبية المستخدمة لجمع المعلومات التي يعرضها الكتاب الدراسي، علاوة على العمليات المنطقية المستخدمة لربط تلك المعلومات بالقواعد العامة النظرية الواردة في نفس الكتاب. إن حصاد هذا المفهوم عن العلم ينطوي على مضامين ذات دلالات عميقة بشأن طبيعة العلم و تطوره.

يعتبر رتوماس كون أنه لو كان العلم هو مجموع الوقائع و المناهج و النظريات التي تشتمل عليها الكتب الشائعة لكان العلماء هم من جاهدوا للإسهام بهذا العنصر أو ذاك من مكونات هذه المجموعة المحددة. بذا يصبح التطور العلمي هو تلك العملية المؤلفة من أجزاء تضاف على مداها تلك الوحدات إلى رصيد الأساليب التقنية و المعارف العلمية، و يصبح تاريخ العلم هو المبحث الذي يسرد وفق تتابع زمني تلك الإسهامات و الإضافات المتوالية و العقبات التي عاقت تراكمها. و بالتالي تكون أمام المؤرخ المهتم بالتطور العلمي مهمتان:

ـ تحديد من اكتشف أو ابتكر الحقيقة العلمية أو النظرية أو القانون العلمي و متى تسنى له ذلك.
ـ وصف و توضيح الأغلاط و الخرافات التي عاقت سرعة تراكم مكونات موضوع العلم الحديث.

وقد نحت غالبية البحوث هذا المنحى غير أن بعض مؤرخي العلم واجهوا مؤخرا صعوبات حالت دون الوفاء بالمهام التي ينيطها بهم مفهوم التطور عن طريق التراكم، و اكتشفوا أنه ربما لم يتطور العلم عن طريق تراكم الاكتشافات و الاختراعات الفردية. إن هؤلاء المؤرخين وجدوا صعوبة في التمييز بين العلمي و الخرافي في مشاهدات و معتقدات الماضي.

وكلما دققوا النظر كلما ازدادوا شعورا بأن تلك الآراء التي كانت سائدة عن الطبيعة لم تكن في جملتها أقل علمية مما هو سائد اليوم. إذا وصفنا تلك المعتقدات بأنها أساطير، فإن المناهج التي أفضت إليها و الأسباب التي دعت إلى الإيمان بها هي نفسها الأسباب و المناهج التي تقودنا الآن إلى المعرفة العلمية.

و إذا كان لزاما أن ندرجها ضمن مقولة العلم فإن العلم إذن يشتمل إذن على عقائد تناقض العقائد التي نؤمن بها اليوم. إزاء هذين البديلين يختار المؤرخ البديل الثاني. إن النظريات البائدة ليست بالضرورة غير علمية، غير أن هذا الخيار يجعل من الصعب علينا أن نرى التطور العلمي في صورة عملية متنامية تراكميا. إن البحث التاريخي الذي يكشف عن صعوبات تحديد الابتكارات و الاكتشافات الفردية هو نفسه الذي يثير شكوكا في العملية التراكمية التي قيل إنها جمعت هذه الإسهامات الفردية في مركب واحد لتؤلف العلم.

نتج عن كل هذه الشكوك و المشكلات ثورة في المناهج التاريخية في دراسة العلم. إذ بدأ مؤرخو العلم يطرحون أسئلة جديدة، كما شرعوا في تتبع العلوم في مسارات مختلفة أدت إلى أن العلم أصبح يبدو في صورة مختلفة تماما عما ألف عرضه كتاب التراث التاريخي السابقون، بما يوحي بإمكانية وضع صورة جديدة للعلم.

إن هذه الدراسة تهدف إلى رسم ملامح تلك الصورة، من خلال رصد مضامين منهج جديد للتاريخ، و ذلك بالانطلاق من الإشكال التالي: ما هي أوجه العلم التي ستبين أولا قصور التوجيهات المنهجية عن وضع نهاية موضوعية وحيدة لكثير من المسائل العلمية؟ إذ لو طلبنا من شخص أن يدرس الظواهر الكهربائية أو الكيميائية، و هو يجهل هذين الميدانين.

ولكنه يعرف المنهج العلمي في البحث، فإنه سينتهي بصورة منطقية إلى أي نتيجة من النتائج المتضاربة. إن خبرته السابقة في مجالات أخرى و تكوينه الفردي هو ما سيحدد ذلك. سوف نلاحظ أن المراحل التطورية الأولى لأغلب العلوم اتسمت بالتنافس بين عدد من المفاهيم المتمايزة عن الطبيعة، كل منها مستمد جزئيا مما يمليه المنهج و المشاهدة العلميين، كما أنها جميعها تقريبا متسقة معهما.

إن ما مايز بين هذه المدارس المختلفة ليس خطأ هذا المنهج أو ذاك فجميعها “علمية”: بل ما مايز بينها هو طرقها غير القياسية في النظر إلى العالم و ممارسة العلم فيه. فالخبرة و الممارسة يلزمهما تقييد تطابق المعتقدات العلمية المسموح بها، و إلا لن يكون ثمة علم. لكن ليس بإمكانهما وحدهما أن يحددا مجموعة خاصة من المعتقدات،

إذ من الواضح أن هناك عنصر تحكمي ناجم عن عوارض شخصية و تاريخية، و هو يعتبر أحد المقومات التكوينية للمعتقدات التي تؤمن بها جماعة علمية محددة في زمن محدد.غير أن هذا العنصر التحكمي لا يعني أن جماعة علمية يمكنها العمل بدون معتقدات معترف بصحتها، كما أنه لا يقلل من قيمة الأفكار الخاصة التي تلتزم بها الجماعة العلمية في فترة زمنية بعينها.

يشير توماس كون إلى أن البحث الحقيقي يبدأ عادة حينما يتلقى الفريق العلمي إجابات جازمة عن إشكالات محددة من نحو : ما هي الكيانات الأولية التي يتألف منها الكون؟ كيف تتفاعل هذه الكيانات فيما بينها ؟ و كيف تؤثر على الحواس؟ و ما هي الأسئلة المشروعة التي يحق لنا أن نسألها عن هذه الكيانات؟ و ما هي التقنيات المستخدمة بحثا عن الحلول؟

تكمن أهمية الإجابات عن هذه الإشكالات في كونها توجه العقل العلمي و تحدد فعاليته و مساره التطوري، إنها محاولة لوضع الطبيعة قسرا في الأطر المفاهيمية التي زودنا بها النظام التربوي التعليمي. و هنا يدرج توماس كون ما يسميه ب” العلم القياسي” الذي يعرفه بأنه النشاط الذي يقوم على افتراض أن المجتمع العلمي يعرف صورة العالم، و أن نجاح مشروعه يقوم على رغبة هذا المجتمع في الدفاع عن هذا الافتراض.

لهذا نجده يقمع الإبداعات الجديدة لأنها تدمر اعتقاداته الراسخة. إذا لم تف إحدى التجهيزات المعدة بأغراض البحث العادي و إذا خفقت في تحقيق النتائج المرجوة، نتيجة كشفها عن شذوذ لايمكن ملاءمته مع قواعد العلم القياسي يعمد المجتمع العلمي إلى صوغ مجموعة جديدة من المعتقدات تشكل أساسا جديدا لممارسة العلم.

إن هذه السلسلة من الأحداث الخارجة عن المألوف، و التي تقع خلالها تلك النقلة المتمثلة في تعديل الاقتناعات لدى أهل الاختصاص هي الأحداث التي يعتبرها توماس كون ثورات علمية تزلزل التقليد و تكمل النشاط المرتبط بتراث العلم القياسي، و هو يركز في دراسته هاته على الوقوف عند النقاط الأساسية في التحول العلمي و التي اقترنت بأسماء كوبيرنيكوس و نيوتن و لافوازييه و اينشتين… و التي حتمت على المجتمع العلمي رفض إحدى النظريات العلمية لفائدة نظرية أخرى مناقضة لها.

و ما يفرضه ذلك من تحول هام في المشكلات المطروحة للبحث العلمي و في المعايير التي تحدد المشكلة المجازة أو الحل المشروع لها، و ما يحدثه كل ذلك من تحول في الخيال العلمي و تحول للعالم الذي يدور في إطاره النشاط العلمي. إن مثل هذه التحولات هي الخصائص المميزة للثورات العلمية و التي يمكن نلمسها من خلال دراسة الثورة النيوتونية أو الثورة الكيميائية مثلا أو من خلال دراسة معادلات ماكسويل التي كانت ثورة بنفس قدر معادلات أنشتاين.

إن نظرية جديدة – حسب المتخصصين – تعني تحولا في القواعد التي تحكم ممارسة العلم القياسي و تؤثر في النشاط العلمي، و هذا هو السبب في أن كل نظرية جديدة نادرا ما تكون مجرد إضافة كمية لما هو معروف مسبقا و يستلزم استيعابها تجديد بناء النظرية السابقة، و هو ما يدل على عملية ثورية أصيلة نادرا ما تكتمل على يد رجل واحد أو تتم في وقت وجيز، لهذا يواجه المؤرخون صعوبة في تحديد تاريخ دقيق لبداية هذه العملية الممتدة.

يشير توماس كون في ختام الفصل الأول إلى أنه إذا كانت الكثير من التعميمات التي انتهى إليها تندرج في إطار الدراسة الاجتماعية أو الدراسة النفسية الاجتماعية، فإن بعض النتائج التي توصل إليها تندرج في إطار مبحث المنطق أو نظرية المعرفة، و قد ربط تلك التعميمات و النتائج بسؤال صاغه على الشكل التالي: كيف يعجز تاريخ العلم عن أن يكون مصدرا للظواهر التي يمكن أن نطبق نظريات المعرفة عليها ؟

و هو سؤال سينقله إلى الفصل الثاني الذي يحمل عنوان: السبيل إلى علم قياسي و قد مهده بتحديد المقصود ب”علم قياسي” في كونه الدراسة التي تعنى بالبحث الذي رسخ بنياته على إنجاز أو إنجازات الماضي العلمية، و هي إنجازات يعترف مجتمع علمي محدد و لفترة زمنية بأنها تشكل الأساس لممارساته العلمية.هناك الكثير من الكلاسيكيات العلمية مثل كتاب “الفيزيقا” لأرسطو و “المجستي” لبطليموس و “أسس الرياضيات” و “البصريات” لنيوتن و “الكهرباء” لفرانكلين و “الكيمياء” للفوازييه و جيولوجيل للييل، التي تشرح مجمل النظرية و توضح تطبيقاتها. إن هذه الكلاسيكيات أفادت في تحديد المشكلات و المناهج الحقيقية الخاصة بمجالات البحث العلمي، و قد جمعت بين خاصيتين جوهريتين: إنجازاتها كانت عظيمة و غير مسبوقة، ثم إنها كانت منفتحة على جميع أنماط المشكلات. هاتان الخاصيتان جعلتا توماس كون يعتبرها ” نماذج إرشادية” مرتبطة ب”العلم القياسي”. يقصد بهذا المصطلح أن بعض الأمثلة المقبولة للممارسة العلمية ـ الأمثلة التي تشمل القانون و النظرية و التطبيق و طرق استخدام الآلات ــ تعطينا نماذج تؤسس لتقاليد متجانسة و معايير محددة للممارسة العلمية لا يحيد الباحثون الذين يشتغلون في إطارها عنها. إن هذا الالتزام و ما ينجم عنه من إجماع يمثلان الشروط الأولية للعلم القياسي، أي شروط نشوء و استمرارية تقليد بحثي بذاته. يؤكد توماس كون على أن الوصول إلى نموذج إرشادي هو علامة نضج في تطور أي مجال علمي محدد، ثم إن تطور العلم الناضج ينتج عن الانتقال المتعاقب من نموذج إرشادي إلى آخر. لتوضيح فكرته يقدم لنا مثالا من تاريخ البحث العلمي في مجال الكهرباء خلال النصف الأول من القرن 18 حيث تطور من خلالها هذا العلم قبل التوصل إلى أول نموذج إرشادي معترف به، فقد شهدت هذه الفترة آراء كثيرة عن طبيعة الكهرباء كانت مستمدة جزئيا من الفلسفة الجسيمية الميكانيكية التي استرشدت بها جميع البحوث العلمية وقتذاك. في هذا الإطار يسجل توماس كون أنه في حالة انعدام نموذج إرشادي محدد أو انعدام اللبنات الأولى المؤسسة لنموذج إرشادي بديل تكون جميع الوقائع التي قد تسهم في تطور العلم متعادلة من حيث الأهمية، لذلك تبدو مرحلة جمع الوقائع عشوائية بالقياس إلى الطريقة التي باتت مألوفة لنا بفضل ما حققه العلم من تطور. لكن على الرغم من أن هذا الأسلوب في جمع الوقائع أسهم في نشأة الكثير من العلوم إلا أنه أفضى إلى خليط مشوش، و نادرا ما نجد الوقائع التي تم جمعها دون استرشاد، واضحة وضوحا يتيح ظهور أول نموذج إرشادي.
يفضي هذا بتوماس كون إلى القول إن تفسير أي تاريخ طبيعي يتطلب استحضار معتقدات نظرية و منهجية متكاملة و منسجمة تسمح بالاختيار و التقويم و النقد. إذا لم تكن هذه المعتقدات موجودة ضمن حصاد الوقائع التي تم جمعها، يتعين آنذاك توفيرها و إضافتها من خارج. في المراحل الباكرة من تطور أي علم نجد سلسلة واحدة من الظواهر يتم وصفها و تفسيرها بطرق متباينة. غير أن هذه التباينات الأولية تتلاشى بعد تمكن إحدى المدارس من التأكيد على جانب واحد من رصيد المعلومات الكبير و المشوش. بعبارة أخرى، عندما يبادر فرد أو جماعة خلال عملية نشوء و تطور أحد العلوم الطبيعية إلى تقديم صيغة تركيبية قادرة على اجتذاب جل المشتغلين بهذا العلم من أبناء الجيل التالي، فإن المدارس القديمة تبدأ في الزوال بفعل تبني أعضائها للنموذج الإرشادي الجديد الذي يتضمن تعريفا جديدا أكثر دقة لمجال ىالبحث. إن عملية الانتقال إلى النضج لا تحدث فجأة أو بصورة خالصة إلا نادرا، و في الآن نفسه لم يحدث أي من هذه التحولات، تاريخيا على نحو تدريجي أي على نفس الامتداد الزماني للتطور.
بعد أن تحدث توماس كون عن السبيل المؤدي إلى العلم القياسي انتقل في الفصل الثالث إلى تحديد طبيعته، مؤكدا على أن من سمات النموذج الإرشادي عدم قابليته للتكرار، إذ هو خاضع للتعديل و إعادة التحديد. إن النموذج الإرشادي محدود النطاق و الإحكام، فظهوره و اكتسابه لمكانته مرتبط بنجاحه دون النماذج الإرشادية المنافسة له في حل بعض المشكلات التي اعترف فريق من العلماء بأنها مشكلات عويصة، لكن هذا النجاح ليس كاملا. إن نجاح أي نموذج إرشادي إنما هو التزام يتقيد بالأمثلة المختارة التي لا تزال غير كاملة. إن قوام العلم القياسي هو التحقيق الفعلي لذلك الالتزام بتوسيع مساحة الحقائق التي يكشف عنها النموذج الإرشادي و التي تكون حقائق ملهمة على نحو مميز. يرتبط ذلك بتوسيع دائرة الملاءمة بين تلك الحقائق و بين تنبؤات النموذج الإرشادي و بالعمل على تدقيق النموذج الإرشادي ذاته.إن عملية الصقل و التنقية هي ما يشغل بال أغلب العلماء، وذلك في إطار إنجاز ما يسميه توماس كون بالعلم القياسي الذي يحدده في كونه محاولة لوضع الطبيعة قسرا داخل إطار النموذج الإرشادي. هذا الإطار معد مسبقا و جامد نسبيا، ذلك أنه ليس من أهداف العلم القياسي تسليط الأضواء على أنواع جديدة من الظواهر، بل إن الظواهر التي لا تتلاءم معه يتم إغفالها غالبا، ليوجه البحث العلمي القياسي في اتجاه الإبانة عن الظواهر و النظريات التي وضعها النموذج الإرشادي. إن هذه القيود التي تولدها الثقة في النموذج الإرشادي ضرورية لتطور العلم. غير أن العلم القياسي يملك آلية ذاتية تخفف من سلطة هذه القيود التي يلتزم بها البحث، في حالة توقف النموذج الإرشادي- الذي هو مصدر هذه القيود – عن أداء دوره بفعالية. هنا يقف العلماء مواقف متباينة و تتغير طبيعة المشكلات المطروحة بعد أن فرغوا من حل مشكلات كان من المتعذر عليهم تصورها و حلها دون الالتزام بالنموذج الإرشادي المتبنى. لتبسيط هذا التصور و توضيح المقصود من البحث القياسي أو البحث المرتكز على نموذج إرشادي، يحاول توماس كون توضيح المشكلات التي يتألف منها أساسا العلم القياسي. في هذا الإطار يشير إلى وجود ثلاث بؤر قياسية يتركز حولها البحث العلمي، و هي :
1 – مجموعة الوقائع التي أبان النموذج الإرشادي عن أنها تكشف عن طبيعة الأشياء على نحو مميز، والتي استخدمها لحل العديد من المشكلات.
2- مجموعة الظواهر التي يمكن قرنها بالنتائج التي تتنبأ بها نظرية النموذج الإرشادي. و هنا يشير إلى أن المجالات التي يمكن أن تماثل فيها النظرية العلمية الطبيعة بصورة مباشرة نادرة، خاصة إذا ما كانت هذه النظرية العلمية قد صيغت في قالب رياضي أساسا.
3 – مجموعة التجارب و المشاهدات التي تشمل جميع أنشطة جمع الوقائع. تتألف هذه المجموعة من جهد الباحث لإحكام نظرية النموذج الإرشادي و حل بعض مظاهر اللبس المتبقية و إتاحة الفرصة لحل المشكلات التي تم الانتباه إليها. هذه الجهود المضنية تؤطرها نظرية النموذج الإرشادي التي تحدد المشكلة و تضمن لها الحل الدائم.
هناك مجموعة أخرى من التجارب التي تهدف إلى إحكام صياغة النموذج الإرشادي،إذ غالبا ما يثير النموذج الإرشادي بعض اللبس عند تطبيقه على ظواهر أخرى مرتبطة بالظواهر التي تم استحداثه لحلها. و هنا يأتي دور التجارب التي تكون ضرورية لاختيار النموذج الإرشادي الخاص بالمجال الجديد، من بين وسائل التطبيق المختلفة.
يلاحظ أن بعض المشكلات التي تجمع بين الطابع الكيفي و الطابع الكمي تقتصر على التوضيح فقط، و ذلك عن طريق اللجوء إلى إعادة صياغة جديدة للنموذج الإرشادي، و هذا ما يؤدي إلى تغييره جذريا كما يلاحظ في جميع العلوم. عادة ما يعتقد أن هذه التغيير ناتج عن العمل التجريبي، إلا أن توماس كون يخالف هذا الاعتقاد، و يؤكد على أن مشكلات تحديد و إحكام النموذج الإرشادي هي مشكلات نظرية و تجريبية في آن واحد، و هي تفضي ليس فقط إلى معلومات جديدة، بل أيضا إلى نموذج إرشادي يتفوق على النموذج الأصلي الذي انطلق منه في الدقة و الوضوح و هذا هو مسعى العلم القياسي.
ينتهي بنا توماس كون في هذا الفصل إلى اعتبار المسائل التي تؤسس لأدبيات العلم القياسي التجريبية و النظرية هي: تحديد الحقائق الهامة و الدالة و ملاءمة الحقائق مع النظرية و صياغة النظرية. فالعمل بنموذج إرشادي يتم انطلاقا من هذه المسائل، و التخلي عن النموذج الإرشادي يعني التوقف عن ممارسة العلم الذي يحدده هذا النموذج. إن حالات التخلي هاته هي التي تتولد عنها الثورات العلمية.
في الفصل الرابع يتحدث توماس كون عن العلم القياسي و حل الألغاز، ليشير من خلاله إلى أن مشكلات البحث القياسي نادرا ما تؤدي إلى إنتاج إبداعات هامة، سواء فيما يخص المفاهيم أو فيما يخص الظواهر أو فيما يخص النتائج التي تكون متوقعة سلفا، و بالتالي يمكن استيعابها و تمثلها، لذا فالتغيرات المتوقع حدوثها في هذه النتائج تكون محدودة جدا. يؤطر هذا الفصل الإشكال التالي: إذا لم يكن هدف العلم القياسي اكتشاف إبداعات، و إذا كان الفشل في الاقتراب من النتيجة المرقبة سلفا يعزى إلى العالم الباحث، فلماذا يتم البحث في هذه المشكلات؟ الجواب هو أن النتائج التي يتم التوصل إليها من خلال البحث القياسي تعد هامة في نظر العلماء، لأنها تضيف جديدا إلى نطاق تطبيق النموذج الإرشادي و تزيد من دقته، إلا أن التفاني الذي يبديه العلماء لحل مشكلات البحث القياسي يتجاوز هذا المعطى إلى الرغبة في الوصول إلى المعلومات الهامة، إذ على الرغم من أن نتيجة البحث يمكن تقديرها سلفا و بتفصيل شديد غالبا، بحيث أن ما يبقى مجهولا هو في حد ذاته غير هام ،إلا أن وسيلة الوصول إلى تلك النتيجة تظل موضع شك إلى حد كبير. إن الوصول بمشكلة البحث القياسي إلى نتيجة نهائية يعني الوصول إلى ما هو مقدر سلفا بوسيلة جديدة، و هو ما يتطلب حل كل أنواع الألغاز على مستوى الأداة و المفاهيم و المستوى الرياضي، و من يصل إلى هذا المستوى يصل إلى البرهنة على أنه خبير في حل الألغاز. إن التحدي الذي يفرضه اللغز يمثل جانبا هاما من االجوانب التي تحفز العالم.
هنا يقف بنا توماس كون ليحدد المقصود بمفهوم بالألغاز حسب المعنى القياسي، في أنها تلك المشكلات المحددة التي تهيء لكل باحث فرصة لإثبات قدرته الإبداعية و براعته في وضع الحلول، و يشير بهذاالخصوص إلى أن المعيار المحدد لجودة اللغز هو أن يكون له حل مؤكد، لا أن تكون نتيجته هامة بحكم طبيعتها الأصلية، فالقيمة الأصلية ليست معيارا للغز.
يتضح من خلال ما سبق أن النموذج الإرشادي الذي يتم إقراره هو الذي يحدد معيار اختيار المشكلات التي يمكن افتراض وجود حل لها، و يبقى هذا المعيار قائما طالما ظل هذا النموذج الإرشادي مسلما به، و بالتالي فالمشكلات التي يطرحها هي التي سيقبلها المجتمع العلمي بوصفها مشكلات علمية، أما المشكلات الأخرى فيتم نبذها. من بين ما قد يترتب عن هذا المعطى أن النموذج الإرشادي يمكن أن يباعد بين المجتمع العلمي و بين مشكلات اجتماعية، تعذر اختزالها في صورة لغز من نحو ايجاد شفاء للسرطان أو وضع خطة لسلام دائم . ذلك أن وصف مشكلة بأنها لغز يتضمن إمكان ايجاد أكثر من حل مؤكد لها، و ضرورة وجود قواعد تحدد طبيعة الحلول المقبولة و ترسم الخطوات التي تصل بنا إلى هذه الحلول. قد يكون المقصود بالقواعد هنا “وجهة النظر المعتمدة” أو ” المفهوم” أو “التصور الذهني المسبق” . هذا يعني أن خصائص المشكلات التي يمكن تناولها في إطار تراث بحثي معين تشبه كثيرا خصائص اللغز.
إذن هناك شبكة من الالتزامات المفاهيمية و الأداتية و المنهجية التي اعتمدها توماس كون للربط بين العلم القياسي و بين الألغاز. إن هذه الشبكة تزود الباحث بالقواعد التي تحدد له عالمه و علمه و المشكلات الخاصة التي يمكن أن يركز عليها، و التي تحددها أيضا معارف عصره. هذه المشكلات تستثير تحديه الشخصي من أجل الوصول إلى حل اللغز المتبقي.
يعتبر توماس كون أن وجهة النظر هذه، التي تتلخص في أن دراسة الألغاز و قواعدها تيسر لنا أن نفهم بشكل أفضل طبيعة الممارسة العلمية القياسية، و هي توازي وجهة نظر أخرى ترى أن هذا الربط قد يوقع في اللبس، إذ على الرغم من وجود قواعد يلتزم بها في زمن معين جميع الباحثين في إطار تخصص علمي محدد، إلا أن تلك القواعد ليست بالضرورة محددة لكل الخصائص المشتركة في الممارسة العلمية لهؤلاء الباحثين. إن العلم القياسي نشاط محدد لدرجة كبيرة، و لكن هذا التحديد لا يكون بالضرورة كاملا و شاملا، لهذا نجده يركز على النماذج الإرشادية أكثر من تركيزه على القواعد المشتركة و الافتراضات و وجهات النظر، على اعتبار أن تلك النماذج هي مصدر الترابط و الاتساق بين تقاليد البحث القياسي، أما القواعد و الافتراضات فتشتق منها.
يمكن للنماذج الإرشادية أن توجه البحث حتى في حالة غياب قواعد. لذلك نجد توماس كون يخصص الفصل الخامس للحديث عن أسبقية النماذج الإرشادية من خلال إشكال أساسي هو: كيف يمكن الكشف عن العلاقة القائمة بين القواعد و النماذج الإرشادية و العلم القياسي. يشير توماس كون إلى أنه إذا عدنا إلى التاريخ و تتبعنا تخصصا علميا محددا في فترة زمنية معينة، فسنلاحظ أن نظريات متباينة تتوسل مجموعة من الأمثلة التوضيحية المتكررة و شبه المعيارية و تستخدمها على مستوى المفاهيم و الأدوات و المشاهدات، بيد أن تحديد النماذج الإرشادية المشتركة لا يتضمن تحديد القواعد المشتركة.إن تحديد القواعد المشتركة يستلزم المقارنة بين النماذج الإرشادية للمجتمع العلمي من جهة و بينها و بين التقارير التي يصدرها ذوو الاختصاص عن بحوثهم العلمية من جهة أخرى، بغرض الكشف عن العناصر التي يمكن استخلاصها من النماذج الإرشادية الأشمل و الأعم، لتكون قواعد للبحوث. إن بعض القواعد العامة المعتمدة في وصف المعتقدات المشتركة بين ذوي الاختصاص مسلم بها، و لكن القواعد الأخرى بما في ذلك بعض القواعد العامة ستبدو أقل قوة، لذلك يرفضها بعض المختصين، لكن لابد من قواعد يتم في ضوئها فهم الترابط المنطقي لتقاليد البحث. من ضمن هذه القواعد ضرورة تحديد ما هو مشترك في مجال البحث. يشير توماس كون إلى أن البحث عن شبكة من القواعد لجعلها أساسا لتراث بحث قياسي ما غير مجد، إذ يمكن أن يتفق العلماء مثلا، على أن نيوتن قدم حلا دائما لمجموعة من المشاكل البارزة،غير أنهم قد يختلفون في تحديد الخصائص التجريدية المميزة التي تجعل من هذا الحل حلا دائما. إنهم قد يتفقون على نموذج إرشادي، لكنهم قد يختلفون بخصوص تأويل عقلاني موحد له، لكن مع ذلك يبقى النموذج الإرشادي موجها البحوث حتى و إن لم يقدم لنا تفسيرا معياريا أو قواعد أساسية متفق عليها، فقيام النموذج الإرشادي لا يرتبط بذلك.
في نفس الاتجاه يؤكد توماس كون على الأهم هو إثارة المشكلات، إذا لم توجد قواعد تفي بهذا الغرض لن يوجد ما يلزم العالم بتقليد محدد للعلم القياسي. إذ ما المقصود بالفحص المباشر للنماذج الإرشادية؟ لقد قدم فتجنشتاين إجابات جزئية على أسئلة من هذا النحو، انطلاقا من محاولة الإجابة عن سؤال: ما الذي نحتاج إلى معرفته كي نستخدم حدودا من نحو كرسي؟ إن الذي نحتاج إليه هو إدراك مجموعة من الصفات المشتركة. بيد أن الخلاصة التي ينتهي إليها فتجنشتاين هي أننا إذا تمثلنا طريقة استخدام اللغة و عرفنا نوع العالم الذي تستخدم فيه، فلن يكون إدراك هذه المجموعة من الصفات المشتركة شرطا لازما. إن دراسة بعض الصفات المشتركة بين عدد من الكراسي مثلا قد تساعدنا في تعلم كيف نستخدم الحد المقابل لها بطريقة واعية، لكنه مع ذلك لا توجد مجموعة من الصفات التي يمكن أن تطبق في آن واحد على جميع ما يحيل عليه الحد. يرى فتجنشتاين أن الكراسي مثلا هي فصائل طبيعية ميزت شبكة من أوجه الشبه المتداخلة و المتقاطعة، و وجود مثل هذه الشبكة كاف لكي نتمكن من التعرف على الموضوع المقصود. هنا يوازي توماس كون بين تصور فتجنشتاين و بين مشكلات و تقنيات البحث التي تظهر في إطار تقليد ما لعلم قياسي، على اعتبار أن ما هو مشترك بينها ليس هو استيفاؤها لمجموعة من القواعد و الافتراضات الصريحة، بل ترابطها على أساس التشابه. من هنا يخلص إلى القول إن سبب التلاحم الذي نلاحظه في تقاليد البحث لا يعود إلى شبكة القواعد و الافتراضات، بل بل يعود إلى النماذج الإرشادية التي هي أكثر إلزاما و اكتمالا من أي قواعد الخاصة بالبحث العلمي. يعني هذا القول في نظره أن النماذج الإرشادية يمكن أن تحدد العلم القياسي دون توسط أي قواعد، و ذلك لأسباب منها:
1 ـ صعوبة اكتشاف القواعد التي وجهت بعض تراث العلم القياسي.
2ـ طبيعة تدريس العلوم، فالعلماء لا يتلقنون المفاهيم و القوانين و النظريات في صورة مجردة بوصفها كلا مستقلا بذاته، بل يتناولون هذه الأدوات الذهنية في وحدة مسبقة تاريخية و تربوية. إن هذه الوحدة تفيد في توضيح تلك الأدوات الذهنية مع تطبيقاتها العملية و من خلالها، فكل نظرية جديدة تأتي بسلسلة من التطبيقات المحددة على الظواهر الطبيعية، و بالتالي تكون عملية تعلم نظرية ما متوقفة على دراسة تطبيقاتها.
3 ـ افتراض أن النماذج توجه البحث عن طريق النمذجة المباشرة، أي ” الصياغة المباشرة على غرار النموذج”، و كذلك من خلال القواعد المجردة. إن العلم القياسي يمكنه الاشتغال بدون قواعد عندما يسلم المجتمع العلمي بحلول المشكلات الخاصة التي تم إنجازها. لهذا لا تصبح القواعد أمرا مهما إلا حينما يلاحظ أن النماذج الإرشادية غير مأمونة، و ذلك حينما تكثر التساؤلات حول مناهج البحث المشروعة، و المشكلات و معايير حلها،. إن هذه التساؤلات تتواتر بانتظام قبيل الثورات العلمية مباشرة و في أثنائها، أي في الفترات التي يتولد فيها التشكيك في النماذج الإرشادية. يمثل توماس كون لذلك بميكانيكا جاليليو و نيوتن التي أثارت سلسلة من المناظرات و المجادلات مع أنصار أرسطو و ديكارت و ليبنز، حول المعايير المشروعة للعلم. خلاصة الأمر هي أن العلماء حين يختلفون حول ما إذا كانت المشكلات الأساسية في مجال بحثهم قد تم حلها أم لا، يصبح للبحث عن القواعد دورا غير أدواره العادية. إلا أن النماذج الارشادية حين تكون آمنة و مؤكدة ، تؤدي وظيفتها دون ضرورة الإجماع على التبرير العقلي.
5 ـ إن العلم القياسي نادرا ما يكون مشروعا متجانسا و موحدا رغم أنه في ظاهره يوحي بذلك، فتوماس كون يؤكد على أنه غالبا ما يكون بنية متداعية. و هو يشير إلى أنه إذا عوضنا النماذج الإرشادية بالقواعد نفهم سبب تباين المجالات العلمية. فالجماعة العلمية تتبنى قواعد محددة بالرغم من اختلاف الإنجازات و تباينها. بل إن الباحثين من ذوي الاختصاص الواحد قد يتبنون نماذج إرشادية مختلفة على الرغم من أنهم درسوا الاكتشافات نفسها و الكتب نفسها. لتوضيح ذلك يمثل بعلماء الفيزياء، الذين يتعلمون قوانين ميكانيكا الكم و يستخدم أكثرهم هذه القوانين، لكنهم لا يتعلمون جميعهم ذات التطبيقات لهذه القوانين. ينتج عن ذلك أن التغيرات التي تطرأ على مجال ممارسة ميكانيكا الكم يكون لها تأثيرات متباينة عليهم. قد يحدث أثناء عملية التخصص ألا يدرس بعض علماء الفيزياء إلا المبادئ الأساسية لميكانيكا الكم، بينما يدرس آخرون بتفصيل تطبيقات النموذج الإرشادي لهذه المبادئ على الكيمياء أو فيزياء الجوامد، و بالتالي يتحدد معنى ميكانيكا الكم بالنسبة لكل منهم بما قرأه و تعلمه. النتيجة هي أنه، على الرغم من أن تحولا معينا في قانون الميكانيكا الكم سيمثل حدثا ثوريا بالنسبة لبعض أعضاء التخصص، إلا أنه قد لا يكون بالضرورة ثوريا النسبة للبعض لآخر. يعني هذا أنه على الرغم من أن ميكانيكا الكم تعد نموذجا إرشاديا لجماعات علمية كثيرة إلا أنهم لا يتبنون كلهم النموذج الإرشادي نفسه. يمكن لميكانيكا الكم أن تحدد في آن واحد تقاليد عديدة للعلم القياسي التي تتوافق زمانا دون أن تتطابق مجالا، إلا أن الثورة في إطار تقليد من هذه التقاليد لا تمتد بالضرورة إلى التقاليد الأخرى. خير مثال على ذلك أن الهليوم، في نظر عالم الكيمياء، تعتبر جزيئيا أما عالم الفيزياء فيرى أنها ليست كذلك ، رغم أن هناك قاسما مشتركا كبيرا بين خبرتيهما.
لكي يبين توماس كون إلى أي مدى يمكن لاختلافات من هذا النوع في النماذج الإرشادية أن تفضي أحيانا إلى نتائج هامة، يفرد الفصل السادس للحديث عن الشذوذ و انبثاق الاكتشافات العلمية، مشيرا إلى أن العلم القياسي مشروع تراكمي يتوخى زيادة متنامية للمعارف العلمية و الزيادة في دقتها، و هو بالرغم من أنه لا يتوخى الكشف عن إبداعات جديدة، إلا أنه غالبا ما يكشف عن ظواهر جديدة تقود العلماء إلى وضع نظريات جديدة جذريا، ذلك أن ممارسة البحث انطلاقا من نموذج إرشادي يؤدي إلى تغييره. إن هذا هو ما تفعله الإبداعات الأساسية في الواقع و النظرية. إنها نتائج غير مقصودة انبثقت من ممارسة البحث وفق مجموعة من القواعد، التي اقتضى استيعابها صوغ مجموعة أخرى من القواعد. غير أن دمج هذه القواعد في العلم أفضى إلى تغيير المشروع ذاته. هنا يتوقف توماس كون ليناقش الكيفية التي تحدث بها هذه التغيرات، مشيرا إلى أن تفحص العديد من الاكتشافات يجعلنا ندرك أنها ليست أحداثا منعزلة، بل هي سلسلة ممتدة متعددة الحلقات ذات بنية متواترة. إن الاكتشاف يبدأ مع إدراك الشذوذ الذي يدل على معطى مناقض للتوقعات المرتقبة في إطار النموذج الإرشادي. يتبع هذا محاولة اكتشاف نطاق الشذوذ، و لا تتوقف هذه المحاولة إلا عندما تتم ملاءمة الظاهرة الشاذة مع نظرية النموذج الإرشادي، بحيث تصبح ظاهرة متوقعة. إن استيعاب نوع جديد من الوقائع يستلزم ما هو أكثر من تكملة نضيفها إلى النظرية أو نجعلها ملاءمة لها .
بتمثل هذا التصور ندرك مع توماس كون التداخل القائم بين الجدة النظرية و الوقائعية في الاكتشاف العلمي. إذا سلمنا بأن الاكتشاف يشمل عملية الاستيعاب المفاهيمي، فهذا يعني أنه يتضمن تحولا في النموذج الإرشادي. فما أعلنه لافوازييه ـ مثلا ـ لم يكن اكتشاف الأكسجين، و إنما هو نظرية احتراق الأكسجين. قامت نظرية لافوازييه على القول إن الأجسام تمتص قدرا من الغلاف الغازي المحيط بها عند الاحتراق، و هي نظرية كانت أساسية لإعادة صياغة الكيمياء صياغة جديدة، أما اكتشاف الأكسجين فلم يكن في ذاته هو السبب في تغير النظرية الكيميائية.
في نفس الاتجاه يسوق توماس كون مثالين آخرين لتوضيح الظروف التي تنبثق في ظلها الاكتشافات. يتعلق أولهما بالأشعة السينية التي اكتشفها رونتجن عندما أدرك أن الساتر المستخدم في تجاربه قد توهج في وقت لم يكن فيه ذلك متوقعا. إن النموذج الإرشادي المنطلق منه لم يكن في إمكانه إدراك هذا الشذوذ. فاكتشاف الأشعة السينية ظل لعقد من الزمان دون أن يدخل ضمن أي تطور انقلابي في النظرية العلمية. و قداستلزم استيعاب ذلك الاكتشاف تغييرا في النموذج الإرشادي. المؤكد أن النماذج الإرشادية التي عمل بمقتضاها رونتجن و معاصروه لم يكن بالإمكان استخدامها للتنبؤ بالأشعة السينية، إذ على الرغم من أن الأشعة السينية لا تحظرها النظرية المعتمدة فقد ناقضت بشدة التوقعات الراسخة. يؤكد توماس كون على أن إجراءات و تطبيقات النموذج الإرشادي ضرورية للعلم ضرورة قوانين و نظريات النموذج الإرشادي و لها النتائج نفسها، فهي تفيد المجال الظواهري المتاح للبحث العلمي في زمن معين. إذا سلمنا بذلك أمكن أن ندرك لماذا اقتضى اكتشاف الأشعة السينية تغيير النموذج الإرشادي، و بالتالي تغيير الإجراءات و التوقعات، و أمكننا أن ندرك أيضا كيف أن اكتشاف الأشعة السينية بدا و كأنه فتح بابا جديدا بحيث ساهم كثيرا في الأزمة التي قادت إلى فيزياء القرن العشرين
الخلاصة التي ينتهي إليها توماس كون هي أن النظرية تتنبأ مسبقا بالاكتشافات، التي تشكل جزءا من العلم القياسي، و بالتالي لا تتمخض عنها أي وقائع من نوع جديد. إلا أنه يشير إلى أنه ليست كل النظريات قائمة على نموذج إرشادي، فالعلماء عادة يصوغون نظريات تأملية غير محددة المعالم بموجبها يضعون افتراضات تأملية. إن الاكتشاف لا يظهر و النظرية لا تصبح نموذجا إرشاديا إلا حين تتم صياغة التجربة و النظرية صياغة تؤكد الترابط القائم بينهما.
المثال الأخير الذي يسوقه توماس كون هو وعاء ليدن لتكثيف الشحنات الكهربائية الساكنة، فهذا الاكتشاف بدأ في وقت لم يكن فيه نموذج إرشادي وحيد للبحوث الكهربائية هو السائد، بل كانت هناك عدة نظريات متنافسة، و لم تنجح أي منها في التحكم في جملة الظواهر الكهربائية المتباينة تحكما جيدا و كان هذا المعطى مصدرا للعديد من حالات الشذوذ التي قادت إلى اكتشاف وعاء ليدن. وقد اقتضت التجارب التي أفضت إلى ظهوره مراجعة جذرية شاملة لنظرية السيال، و من ثمة هيأت لظهور أول نموذج إرشادي كامل عن الكهرباء.
إن الخصائص المشتركة بين الأمثلة الثلاثة التي ناقشها توماس كون تهم كل الاكتشافات التي تنبثق عنها أنواع جديدة من الظواهر، بما فيها الإدراك المسبق للشذوذ و الظهور التدريجي و الآني لكل من الإدراك القائم على المشاهدة الحسية و المفاهيم الذهنية ثم التحول في مجالات و إجراءات النموذج الإرشادي. يحدث هذا التحول حتما، رغم ما يتعرض له من معارضة. إن هذه الخصائص المشتركة هي جزء من طبيعة العملية الإدراكية نفسها، فالجدة في العلم لا تظهر إلا بصعوبة و إلا بعد مقاومة لأنها لا تتوافق مع النتائج المتوقعة. ففي البداية لا ندرك بالخبرة إلا ما هو عادي و مقدر سلفا، حتى و لو كانت ظروف المشاهدة هي نفسها الظروف التي نلحظ فيها وجود ظاهرة شاذة فيما بعد، هذا ما يدفعنا إلى المزيد من البحث، الذي يفضي بنا في نهاية المطاف إلى القول بوجود خطأ ما أو إلى ربط النتيجة بخطإ ما وقع من قبل. إن إدراك الشذوذ على هذا النحو يبدأ بمرحلة تحدث فيها ملاءمة للمقولات الذهنية إلى أن يصبح ما كان شاذا في البداية هو المتوقع سلفا. عند هذه النقطة يكتمل الاكتشاف. و هذه العملية مصدر انبثاق جميع الإبداعات العلمية الأساسية.
بعد توضيح هذه العملية، انتقل توماس كون إلى توضيح الأسباب التي تجعل العلم القياسي الذي أشارسابقا إلى أنه لا يهدف إلى الوصول إلى إبداعات بل ينزع في البداية إلى قمعها، يتحول إلى قوة فعالة تدفع بهذه الإبداعات إلى دائرة الضوء.
لتوضيح هذه المسألة، يبين أنه خلال تطور أي علم يكون أول نموذج إرشادي معترف بصحته قد نجح في تفسيرأغلب المشاهدات و التجارب المتاحة للأخصائيين في المجال بكل سهولة، و بالتالي يتم تطويره عادة ببناء جهاز محكم و استحداث لغة و مهارات تقنية متخصصة و صقل المفاهيم. من جهة أخرى يؤدي اختلاف الصبغة المهنية إلى تقييد مجال الرؤية و إلى مقاومة أي تغيير للنموذج الإرشادي فيصبح العلم جامدا بصورة متزايدة. لكن المجالات التي يثير فيها النموذج الإرشادي انتباه الباحثين يراكم فيها العلم القياسي معلومات مستفيضة و تفصيلية تؤدي إلى الدقة في المطابقة بين المشاهدة و بين النظرية و هذا له قيمته، لكن بدون الجهاز الخاص الذي أنشئ أساسا للوصول إلى نتائج مقدرة سلفا قد لا يتم الوصول إلى النتائج التي تفضي إلى التجديد المبدع. لا يبرز عادة هذا التجديد إلا للشخص الذي يعرف بدقة ما الذي يجب توقعه و الذي يدرك مكمن الخطأ. إن الشذوذ لا يظهر إلا بالرجوع إلى النموذج الإرشادي، الذي كلما كان ىأكثر دقة كلما زودنا بمؤشر مضبوط للكشف عن الشذوذ و هو بذلك يتيح فرصة لتغييره.يلاقي هذا التغيير عادة مقاومة. يرى توماس كون أن مقاومة التغيير في عملية الاكتشاف العادية لها فائدة، فهي تخول للنموذج الإرشادي عدم الاستسلام بسهولة و تضمن عدم تشوش فكر العلماء و صرف انتباههم بسرعة و دون موجب. إن العلم القياسي له طبيعة تقليدية صلبة، غير أنه يمهد بصورة دائمة السبيل إلى تغييره.
لتوضيح هذا التغيير ينتقل توماس كون إلى الفصل السابع الذي عنونه ب” الأزمة و انبثاق النظريات” ليؤكد أن الاكتشافات التي تحدث عنها في الفصول السابقة كانت أسبابا في تغيير النموذج الإرشادي، فهي عوامل هدم و بناء في الآن ذاته و قد مكن تمثلها من تفسير كم أكبر من الظواهر الطبيعية أو التفسير بشكل أدق لبعض الظواهر التي كانت معروفة قبلا، و قد تحقق ذلك بفعل إقصاء بعض المعتقدات و الإجراءات المعيارية السابقة و تغيير مكونات النموذج الإرشادي السابق. إن هذه التحولات حدثت في كل الاكتشافات التي تم إنجازها في إطار العلم القياسي فيما عدا الاكتشافات التي لم تثر الانتباه لأنها كانت متوقعة إجمالا بغض النظر عن التفاصيل. غير أن تحولات النموذج الإرشادي لا تحدث فقط نتيجة للاكتشافات بل يمكن أن تحدث أيضا نتيجة لوضع نظريات جديدة.
إذا كان إدراك الشذوذ يسهم في بزوغ أنواع جديدة من الظواهر، فإن هذا الإدراك يعد شرطا أوليا لكل التغيرات المقبولة التي تطرأ على النظرية. إن انبثاق نظريات جديدة عادة ما يسبقه الشعور بالقلق الذي ينتج عن الإخفاق المطرد في بلوغ النتائج المتوقعة من حل ألغاز. يشكل هذا القلق ايذانا بالبحث عن قواعد جديدة. لتوضيح ذلك يستدل توماس كون بثلاثة أمثلة هي : نظرية الفلك الأولى التي ظهرت مع بطليموس و التي بدت ناجحة في التنبؤ بالأوضاع المتغيرة للنجوم و الكواكب، لكنها لم تكن متسقة في تحديدها لمواضع الكواكب لكن تم التغاضي عن ذلك. غير أن هذا التغاضي أدى إلى تراكم الكثير من المشكلات في البحث القياسي في علم الفلك، مما أثمر مجموعة من المحاولات هدفت إلى التقريب بين مشاهدات الأجرام السماوية و بين نظرية نيوتن. لكن هذه المحاولات أدت إلى تزايد تعقيد علم الفلك، و مع مطلع القرن السادس عشر بدأت تزداد نسبة اليقين في أن النموذج الإرشادي لعلم الفلك قد أخفق عند تطبيقه على مشكلاته التقليدية. و كان هذا الأمر مقدمة لانبثاق فلك كوبرنيكوس.
المثال الثاني يخص نظرية لافوازييه عن احتراق الأكسجين، فقبل ظهور هذه النظرية تجمعت عدة عوامل أدت إلى خلق أزمة في مجال الكيمياء، منها على الخصوص ظهور كيمياء الهوائيات المضغوطة، فمع ظهور مضخة الهواء أدرك العلماء أن الهواء مقوم فعال في التفاعلات الكيميائية لكنهم استمروا في الاعتقاد أنه هو الغاز الوحيد الموجود، و هذا ما دحضته تجاربهم التي بينت وجود أنواع متباينة من الغاز، كما بينت في الآن نفسه عجز نظرية الفلوجستون عن تفسيرهذا المعطى. حاول العلماء سد هذا العجز بايجاد حلول أدت في نهاية المطاف إلى عدم التمكن من استخدام النظرية بشكل متسق فنتج عن ذلك ظهور بوادر الأزمة، خاصة بعد عجزها عن تفسير زيادة أوزان جل الأجسام عند الاحتراق أو التحمية.
المثال الثالث يقتبسه توماس كون من علم الفيزياء في أواخر القرن19، الذي شهد أزمة مهدت لانبثاق نظرية النسبية. بدأت هذه الأزمة بانتقاد المفهوم الكلاسيكي للفضاء المطلق، و مع قبول النظرية الموجية عن الضوء برزت في إطار العلم القياسي المشكلات التقنية التي ارتبطت بها الفلسفة النسبية الخاصة بالفضاء. في نفس الاتجاه مكنت دراسة ماكسويل للسلوك الكهرومغناطيسي للأجسام المتحركة من استنتاج أن المشاهدات التي استهدفت إثبات الحركة عبر الأثير هي شاذة.عموما اختلف العلماء حول مشكلات الحركة و علاقتها بالأثير، و باءت المحاولات التي قاموا بها لتسجيل الحركة بالنسبة للأثير و إدخال عنصر سحب الأثير ضمن نظرية ماكسويل بالفشل، فحدثت أزمة قادت إلى انبثاق نظرية أنشتين عن النسبية الخاصة.
إن الهدف التي توخاه توماس كون من خلال سوق هذه الأمثلة هوالتأكيد على أن النظرية الجديدة تظهر بعد فشل اضح، بوصفها استجابة مباشرة للأزمة. إن المشكلات التي أدت إلى هذا الفشل تكون معروفة في الغالب، لكن الممارسة السابقة للعلم القياسي قد قامت بتبريرها، لهذا عدت مشكلات محلولة أو شبه محلولة..
لقد أثبت فلاسفة العلم أن بالإمكان وضع عدة صياغات نظرية لأي مجموعة من الوقائع ، و بين تاريخ العلم، سهولة وضع هذه البدائل، خاصة في المراحل الأولى لنشوء نموذج إرشادي جديد، بيد أن ابتكار البدائل لا يقوم به العلماء إلا في مرحلة نشوء علمهم و هي المرحلة السابقة على ظهور النموذج الإرشادي، و في مناسبات خاصة جدا على مدى تطور العلم. فيما عدا ذلك يندر أن يفعلوا ذلك، إذ ما دامت الأدوات التي زودهم بها النموذج الإرشادي تثبت أنها قادرة على حل المشكلات، فإن العلم يواصل تقدمه عن طريق استخدامها بكل ثقة، و لا يتم تغييرها إلا عند الضرورة . أي عند الأزمات، التي تقدم مؤشرا بأن الوقت قد حان لتغييرها. و هذا ما يعني أن الاستجابة للأزمة قد تمت. بهذه الخلاصة ينتقل توماس كون إلى الفصل الثامن الذي يحمل عنوان ” الاستجابة للأزمة ” ليطرح إشكالا بخصوص كيفية استجابة العلماء للأزمات. أول ما يشير إليه هو أن العلماء لا يتخلون عن النموذج الإرشادي رغم وجود الأزمة التي أحدثتها حالات الشذوذ الملاحظة، إلا بعد أن تحل محله نظرية علمية تكون بمرتبة النموذج الإرشادي البديل. هذا يعني أن التخلي عن نموذج إرشادي يقترن دائما بقبول نموذج إرشادي آخر، و ذلك بعد مقارنة النموذجين الإرشاديين بالطبيعة من جهة ومقارنتهما ببعضهما البعض من جهة أخرى.
يورد توماس كون سببا آخر يؤكد من خلاله أن العلماء لا يرفضون النماذج الإرشادية لمجرد أنهم واجهوا حالات شاذة. إن الأسباب التي سبق ذكرها و المرتبطة ببعض الوقائع قد شكلت شواهد مناقضة لنظرية معرفية ابستيمولوجية سائدة، و من حيث إنها كذلك فإنها يمكن أن تساعد على خلق أزمة أو تزيد من حدتها، دون أن تصل إلى إثبات زيف هذه النظرية الفلسفية، ذلك لأن المدافعين عنها سيدخلون تعديلات لإزالة أي تناقض ظاهري. إن الشواهد العلمية المناقضة تسمح بظهور تحليل علمي جديد و مغاير بحيث لا تطرح هذه الشواهد في إطاره أي إشكال، و بالتالي ستبدو هذه الشواهد في نظرية جديدة للمعرفة العلمية عرضية و أشبه بحشو كلام. للتدليل على ذلك يسوق توماس كون قانون نيوتن الثاني عن الحركة. لقد اعتبر المؤمنون بنظرية نيوتن هذا القانون قضية منطقية خالصة لا يمكن لأي قدر من المشاهدات دحضها.
النتيجة التي نستخلصها مع توماس كون هو أنه لا يوجد بحث علمي بدون شواهد مناقضة. ذلك أنه لا يمكن لأي علم قياسي أن يحل كل المشكلات.إن تكاثر الشواهد المتناقضة يؤدي إلى تعدد السبل على نحو يقود إلى بزوغ نموذج إرشادي جديد.
يبدو أن العلم يسعى إلى المطابقة بين النظرية و الواقع و هو بالفعل يجهد للتقريب بينهما، غير أن هدفه هو بالأساس حل الألغاز. إن الفشل في تحقيق هذا الهدف يؤدي إلى نزع الثقة في رجل العلم، لا في العلم ذاته أو النظرية العلمية. إن تدريس العلوم يتم وفق تقديم التطبيقات بوصفها برهانا على صدق النظرية، غير أن هذه التطبيقات لا يسوقها الكتاب المدرسي باعتبارها برهانا، بل باعتبار معرفتها تسهم في تعلم النموذج الإرشادي الذي يشكل أساس الممارسة الجارية.
عن السؤال التالي: كيف يستجيب العلماء عند إدراك شذوذ في التطابق بين النظرية و الطبيعة؟ يجيب توماس كون بأنهم غالبا ما يفضلون التريث، فحالة الشذوذ التي تفضي إلى أزمة لابد أن تكون أكثر من مجرد مؤشر على الشذوذ. إن المشكلات المتعلقة بمدى ملاءمة طبيعة النموذج الإرشادي يجري تصحيح أكثرها. يقود هذا الأمر إلى سؤال آخر يصوغه توماس كون كالآتي : ما الذي يجعل شذوذا ما أمرا جديرا بالدراسة؟ و هو يعتبر أنه ليست هناك إجابة كاملة على هذا السؤال. لأنه قد تثير حالة شذوذ ثانوية أزمة إذا كانت التطبيقات التي تمنعها لها أهمية عملية خاصة، على نحو ما حدث في كيمياء القرن الثامن عشر. إن تطور العلم القياسي قد يحول شذوذا ما، لم يكن سوى مصدر قلق، إلى مصدر أزمة. عموما إن عملية تحول الشذوذ إلى أكثر من مجرد لغز من ألغاز العلم القياسي تكون مؤشرا على بداية الانتقال إلى الأزمة، و بالتالي إلى علم غير العلم المعتاد، و ذلك من خلال تعدد التنقيحات المتباينة. إن هذه التنقيحات تجعل قواعد العلم القياسي أكثر ضبابية و أقل دقة . ينتج عن ذلك أن الحلول السابقة بما في ذلك الحلول القياسية للمشكلات التي تيسر حسمها تصبح كلها موضع شك. إلا أن نتائج الأزمة لا تقف عند حدود التسليم الواعي بها، إذ تبدأ جميع الأزمات بحالة ضبابية تكتنف النموذج الإرشادي مع ما يتبع ذلك من تفكك في قواعد البحث القياسي و تنتهي جميع الأزمات في النهاية، إما بإثبات العلم القياسي قدرته على معالجة المشكلة و إما ببزوغ بديل جديد عن النموذج الإرشادي.
إن عملية الانتقال من نموذج إرشادي في حالة أزمة إلى نموذج إرشادي جديد للعلم القياسي ليست عملية تراكمية، بل هي عملية تتحقق عن طريق إعادة بناء المجال وفق قواعد أساسية جديدة تغير بعض القواعد النظرية الأكثر أساسية لمجال البحث و تجدد مناهج النموذج الإرشادي السابق و تطبيقاته. طبعا يلاحظ وجود تداخل، خلال الفترة الانتقالية، بين المشكلات التي تم حلها بواسطة النموذج الإرشادي القديم و الجديد معا ، لكن طرائق الحل جد متباينة.
في هذا الإطار، يشير توماس كون إلى أن النموذج الإرشادي الجديد ينبثق غالبا قبل استفحال الأزمة أو الاعتراف بها صراحة، لكن في حالات أخرى يمضي وقت طويل بين الوعي بالفشل و بين انبثاق نموذج إرشادي جديد. إن رجل العلم الذي يعيش في أزمة سوف يحاول تصور نظريات تأملية ذات طابع فلسفي بغاية الكشف عن مغاليق الألغاز. الحقيقة أن العلم القياسي يحتفظ بمسافة تمايزه عن الفلسفة الإبداعية، لكن من الملاحظ أن ظهور كل من فيزياء نيوتن في القرن السابع عشر و النسبية و ميكانيكا الكم في القرن العشرين اقترن بتحليل فلسفي لتراث البحث المعاصر لكل منهما، و السبب في ذلك أن العلماء إذا واجهتهم حالة شاذة يغيرون مواقفهم بخصوص النماذج الإرشادية القائمة و يغيرون طبيعة أبحاثهم و يكثرون من الصياغات البديلة ومن اللجوء إلى الفلسفة و مناقشة الأسباب النظرية. هذه كلها مظاهر تصاحب حالة الانتقال من البحث القياسي إلى البحث غير المألوف.
إذن ما ننتهي إليه في هذا الفصل هو أن مفهوم العلم القياسي ينبني على وجودهذه المظاهر جميعها أكثر مما ينبني على وجود الثورة. هذه الخلاصة ستنقل توماس كون إلى الفصل التاسع الذي يحدد فيه طبيعة الثورات العلمية في أنها سلسلة الأحداث التطورية غير التراكمية التي يبدل فيها نموذج إرشادي قديم كليا أو جزئيا بنموذج إرشادي جديد متعارض معه. بعد هذا التحديد ينتقل توماس كون إلى مناقشة إشكالين أساسيين يصوغهما كالتالي: لماذا نسمي التغير في النموذج الإرشادي ثورة؟ و ما هي أوجه التماثل التي تمكن من الحكم على التطور السياسي و التطور العلمي بأنه ثورة؟
إذا كانت الثورات السياسية تبدأ مع تنامي الإحساس بأن المؤسسات القديمة أصبحت عاجزة عن حل المشكلات، فإن هذا الإحساس يعد شرطا مسبقا للثورة، سواء تعلق الأمر بالمجال السياسي أو المجال العلمي أو حتى بأبسط التغيرات المقترنة باستيعاب ظاهرة من نوع جديد. إن التماثل القائم بين التطور السياسي و التطور العلمي واضح في هذا الجانب، لكن المقارنة بينهما تكشف عن جانب أكثرعمقا. فالثورات السياسية تهدف إلى تغيير المؤسسات السياسية، لذا فنجاحها يستلزم التخلي جزئيا عن تلك المؤسسات. إن الأزمة هي التي تضعف المؤسسات السياسية و تؤدي إلى فرز مشروع يهدف إلى تجديد المجتمع. يؤدي هذا الوضع إلى انقسام المجتمع إلى قطبين: قطب يدافع عن المؤسسات القديمة و آخر يدافع عن ضرورة إقامة مؤسسات جديدة، و هو وضع لا ينفع معه الأسلوب السياسي في ايجاد الحل، لوجود اختلاف بخصوص النموذج الذي ينبغي أن يتم في إطاره التحول السياسي و اختلاف في تقويم هذا التحول، زد على ذلك غياب إطار مؤسساتي يمكن الاحتكام إليه. يلزم عن هذه المعطيات اللجوء إلى تقنيات التحريض و إقناع الجماهير. ينبه توماس كون إلى أنه على الرغم من الدور الهام الذي تقوم به الثورات في تطور المؤسسات السياسية، إلا أن هذا الدور يرتبط بأحداث تقع خارج نطاق المؤسسات و خارج نطاق السياسة، و هو يؤكد على أن الدراسة التاريخية لتحول النموذج الإرشادي تكشف عن خصائص متشابهة، ذلك أن الاختيار بين نماذج إرشادية متنافسة هو كالاختيار بين مؤسسات سياسية متنافسة. إنه اختيار بين أنماط متعارضة للحياة الاجتماعية، و بالتالي لا يمكن أن تحدده التدابير التقويمية، بالرغم من كونها الخاصية المميزة للعلم القياسي، لأن هذه التدابير تعتمد جزئيا على نموذج إرشادي هو موضوع خلاف. إن كل فريق يوظف نموذجه الإرشادي ليجادل به، و هنا لا تكون المقدمات المنطقية و القيم المشتركة بين طرفي الحوار كافية للوصول إلى نتيجة. إن السبب في ذلك هو غياب معيار أسمى متفق عليه من طرف المجتمع المختص. هنا يدعونا توماس كون إلى عدم الاقتصار على النظر إلى أثر و فعالية الحجج المستمدة من الطبيعة و المنطق لتبين الكيفية التي تؤثر بها الثورات العلمية، بل يجب تجاوز ذلك إلى دراسة تقنيات الحجاج و الوقوف على طبيعة الفوارق القائمة بين أنصار النموذج الإرشادي التقليدي و بين خلفائهم الثوريين، و ذلك لمعرفة هل هناك أسباب أصيلة توضح لماذا يستلزم استيعاب ظاهرة من نوع جديد بالضرورة نبذ النموذج الإرشادي السابق.
يشير توماس كون إلى أنه إذا كانت هذه الأسباب موجودة، فهي ليست مستمدة من البنية المنطقية للمعرفة العلمية، لأنه مبدئيا يمكن أن تبرز ظاهرة جديدة دون أن يكون لها أي تأثير على الممارسات العلمية السابقة. إن ظهور نظرية جديدة لا يستلزم بالضرورة صراعا مع النظرية السابقة، بل يدل فقط على أن النظرية الجديدة أرقى من تلك النظريات المعروفة. يتضمن هذا القول بأن التطور العلمي سيكون تراكميا في جوهره، حيث تحل المعرفة الجديدة محل الجهل، بنسبة تفوق فيها النسبة التي تحل المعرفة من نوع مغاير. إن فكرة اعتبار العلم يتطور بشكل تراكمي لها ما يربطها بالنظرية السائدة التي ترى أن المعرفة معنى أو بناء ذهني يضفيه العقل مباشرة على المعطيات الحسية الخام. يؤكد توماس كون أن استيعاب جميع النظريات الجديدة و تمثل جل الأنواع الجديدة من الظواهر يستلزم التخلي عن النموذج الإرشادي السابق. إن التحصيل التراكمي لإبداعات غير مقدرة يكاد يكون استثناء، و هو ليس نادرا فقط بل مبدئيا غير مرجح. إن البحث العادي التراكمي مدين بنجاحه لقدرة العلماء على الاختيار المنتظم للمشكلات التي يمكن حلها اعتمادا على التقنيات المرتبط بالتقنيات التي يعرفونها، و هذا هو السبب في أن الاهتمام بالتصدي للمشكلات ذات النفع، بغض النظر عن علاقتها بالمعارف و التقنيات القائمة، يمكن أن يعوق التقدم العلمي. إن الاكتشاف الجديد لا ينبثق إلا إذا ثبت لرجل العلم أن تقديراته المسبقة عن الطبيعة و عن أدواته هي تقديرات خاطئة، و غالبا ما يتناسب الاكتشاف مع الحالة الشاذة المستعصية، و بالتالي يقوم صراع بين النموذج الإرشادي الذي ظهرت فيه هذه الحالة الشاذة و بين النموذج الإرشادي الذي ردها إلى حالة متسقة مع القانون. يسري الأمر نفسه على ابتكار النظريات الجديدة، الذي تحدده مبدئيا، ثلاثة أنماط من الظواهر:
ـ النمط الأول يتألف من ظواهر تم شرحها في ضوء نماذج إرشادية قائمة، لهذا فهي لا تدفع لبناء نظرية إلا نادرا، و حين تفعل فنادرا ما يتم قبولها.
ـ النمط الثاني يتألف من الظواهر التي توضح طبيعتها النماذج الإرشادية القائمة، لكن تفاصيلها لا تفهم إلا من خلال المزيد من إحكام صياغة النظرية، و هذه هي الظواهر التي يركز عليها العلماء.
ـ النمط الثالث من الظواهر هي حالات الشذوذ، التي تقود محاولات العلماء في إحكام الصياغة إلى الفشل، و من ثم إلى بزوغ نظريات جديدة.
إن النماذج الإرشادية تهيء لكل الظواهر ـ فيما عدا الشاذ منها ـ موضعا تحدده النظرية في مجال رؤية الإنسان للعالم من حوله. و يتعين على النظرية الجديدة أن تهيء إمكانية تنبؤات مختلفة عن التنبؤات المستمدة من سابقتها إذ لابد أن تحل محلها في عملية الاستيعاب كلها. إن وجهة النظر التي يعرضها توماس كون حول طبيعة الثورات العلمية و دورها مختلفة عن وجهات النظر السائدة التي تعتبر أن أي نظرية لا تقبل إذا كانت تتناول نفس الظواهر الطبيعية و تقدم تنبؤات عنها. لكي يوضح هذا التصور الذهني الذي يقيد النظرية العلمية يمثل بالنقاش الدائر حول العلاقة بين ديناميكا أنشتين المعاصرة و بين المعادلات الديناميكية لنيوتن. يعتبر توماس كون أن هاتين النظريتين متناقضتين خلافا لرأي الأغلبية التي ترى أن نظرية نيوتن تبدو ممكنة الاشتقاق من نظرية انشتاين، لذلك فهي حالة خاصة منها و هم يرون أنه لا يمكن لأي نظرية أن تدخل في صراع مع إحدى حالاتها الخاصة. إن هذا المنهج الحجاجي يحصن النظرية ضد أي هجوم، لكن الحفاظ عليها يستلزم حصر تطبيقاتها في تلك الظواهر المشاهدة، و هذا تقييد يحرم الباحث من الادعاء بأنه يتحدث “علميا” إذا تحدث عن أي ظاهرة لم تسبق مشاهدتها.إن هذه النقطة ما زال معمولا بها اليوم. يعتبر توماس كون أن النظرية القائمة لو ألزمت العالم فقط بالتطبيقات المعمول بها فسوف تنتفي أسباب الأزمات. فلو تم الالتزام حرفيا بالقيود التي تحصر مجال تطبيق نظرية ما لتوقف الميكانيزم الذي يوصل المجتمع العلمي إلى المشكلات التي قد تقود إلى تغيرات أساسية، و هو يؤكد على أن للحاجة إلى تغيير معنى المفاهيم المألوفة دور محوري في الحياة العلمية، فالانتقال من ميكانيكا نيوتن إلى ميكانيكا أنشتين لم ينطو على إدخال أهداف إضافية أو مفاهيم إضافية. إن الانتقال لهذا السبب وحده يبين الثورة العلمية باعتبارها تغييرا لشبكة المفاهيم التي يرى العلماء العالم من خلالها
إذا سلمنا بأن الفوارق بين النماذج الإرشادية المتعاقبة هي فوارق ضرورية، هل يمكن أن نحدد ما هي أنواع هذه الفوارق؟ إن النماذج الإرشادية المتعاقبة تحكي أشياء مختلفة عن الناس و سلوكاتهم، و هي تختلف فيما بينها لا من حيث موضوعها فقط ، بل تختلف لأنها موجهة إلى الطبيعة و موجهة أيضا إلى العلم الذي أنتجها. إنها مصدر مناهج البحث، و انطلاقا منها تطرح المشكلات موضوع البحث ومنها تستمد معايير الحل المقبولة لدى مجموعة علمية ناضجة في مرحلة زمنية ما. لذلك يستلزم تلقي أي نموذج إرشادي جديد غالبا إعادة تحديد العلم المطابق له، لأن بعض المشكلات القديمة قد تحال إليه أو يعلن أنها غير علمية البتة، كما تصبح مشكلات أخرى كانت مبتذلة أو غير موجودة، في ضوء نموذج إرشادي جديد، دافعا لإنجاز علمي هام. إن تغير المشكلات يؤدي إلى تغير المعيار الذي يميز الحل العلمي الحقيقي عن غيره.
نستخلص إذن أن إن التقليد العلمي القياسي الذي ينبثق عن ثورة علمية لا يتعارض فحسب مع التقليد السابق، بل يختلف عنه في وحدات القياس. إن التغيرات التي تطرأ على المعايير المنظمة للمشكلات و المفاهيم و التفسيرات المقبولة يمكن أن تؤدي إلى تحول العلم، فعلى الرغم من أن نيوتن ـ مثلا ـ استهدف حل مشكلات مشتقة من النظرية الميكانيكية الجسيمية عن العالم مع التقيد بمعايير هذه النظرية فإن النموذج الإرشادي الذي اهتدى إليه أحدث تغيرات هدمت جزئيا المشكلات و المعايير التي كان معمولا بها آنذاك.إن هذه التغيرات التي تطرأ على المعايير المنظمة للمشكلات و المفاهيم و التفسيرات المقبولة يمكن أن تؤدي إلى تغير العلم.
من هنا يعتب توماس كون أن التركيز على الوظائف المعيارية للنماذج الإرشادية يساعدنا على فهم كيف تصوغ النماذج الإرشادية صورة الحياة العلمية. إن دور النموذج الإرشادي كأداة للنظرية العلمية هو تقديم معلومات عما تشتمل عليه الطبيعة من كيانات و عن كيفية سلوك هذه الكيانات. ترسم هذه المعلومات خريطة تتولى البحوث العلمية المتقدمة توضيح تفاصيلها. إن هذه الخريطة حيوية مثل التجربة و الملاحظة. يشير توماس كون إلى أن النماذج الإرشادية تظهر في صورة مقوم أساسي للنشاط البحثي، و هي مقوم أساسي أيضا للعلم في مجالات أخرى، باعتبارها تحدد الخريطة و تحدد أيضا التوجيهات اللازمة لوضعها. فحين يدرس رجل العلم نموذجا إرشاديا، يكتسب في الوقت ذاته النظرية و مناهج البحث و المعايير في كل متلاحم، و هذا ما يجعل تغير النماذج الإرشادية تولد تحولات هامة في المعايير التي تحدد مشروعية المشكلات و الحلول المقترحة.
هذه الملاحظة التي يسجلها توماس كون تقوده إلى استنتاج أن سبب الاختيار بين النماذج الإرشادية المتنافسة يثير أسئلة لا يمكن حلها بمعايير العلم القياسي. إذا كانت مدرستان علميتان تختلفان بشأن ماهية المشكلة و ماهية الحل فإنهما سيدخلان في حوار غير مجد، و سيتبين أن كل نموذج إرشادي يفي بالمعايير التي يحددها لنفسه و يقصر عن الوفاء ببعض المعايير التي يحددها الخصم. نظرا لأنه لا يوجد نموذج إرشادي يحل كل المشكلات التي يثيرها، و نظرا لأن نموذجين إرشاديين لا يتركان كل المشكلات بدون حل، فإن الحوار بشأن النماذج الإرشادية يطرح السؤال: أي المشكلات يكون حلها أهم من سواها؟ و هو سؤال لا يمكن الإجابة عنه إلا في ضوء المعايير الكائنة خارج العلم القياسي. إن العودة إلى هذه المعايير الخارجية هي التي تجعل الحوار بشأن النماذج الإرشادية ثوريا، و لكن ثمة ما يبدو أكثر أهمية من المعايير و القيم و له دور في هذه العملية أيضا: إن النماذج الإرشادية ليست فقط مقوما أساسيا لبناء العلم،بل هي مقوم أساسي أيضا للطبيعة.
هذه الخلاصة التي ينهي بها توماس كون هذا الفصل هي التي ستكون منطلقا للفصل العاشر الذي يحمل عنوان ” التوراث تحول في النظرة إلى العالم”، و هو عنوان يختزل وجهة نظره التي تتلخص في أن تغير النماذج الإرشادية يؤدي إلى تغير العالم، فتتغير بذلك أدوات العلماء و اتجاهاتهم و رؤيتهم للأشياء. إن حدوث ثورة علمية تقود العلماء إلى الاستجابة لعالم مغاير. إن هذه التحولات، و إن كانت تحدث تدريجيا و في اتجاه واحد تقريبا، تلازم عملية التربية العلمية، فالباحث العلمي لابد أن يتدرب من جديد، عندما تتغير تقاليد العلم القياسي، على رؤية العالم من حوله بصورة جديدة تماما، بعد ذلك سيبدو له عالم بحثه غير قياسي مع العالم الذي اعتاده، و ذلك في مواضع عديدة. يرى توماس كون أن الخبرة الحسية ثابتة و محايدة، و ما النظريات سوى تفسيرات لمعطيات مدركة حسيا. و هو يؤيد بذلك وجهة النظر الابستيمولوجية التي قدمتها الفلسفة الغربية في إطار العلم القياسي التي تعتبر بأن المدركات الحسية يتم انتقاؤها لفحص موضوع الدراسة بشكل دقيق. تمكن هذه المدركات الحسية المنتقاة من صياغة نموذج إرشادي مقبول. إن النموذج الإرشادي يحدد بشكل مسبق العمليات و القياسات كما يحدد الخبرة المباشرة، لهذا يعمل العلماء الذين يتبنون نماذج إرشادية مختلفة على معالجات معملية مختلفة. أما لغة المشاهدة البحتة فلم يتسن بعد لأي محاولة وضع لغة للمدركات الحسية البحتة تكون قابلة للتطبيق بوجه عام. من هنا تتبنى دراسة توماس كون أطروحة تقوم على افتراض وجود نموذج إرشادي مستمد من نظرية علمية أو من لغة الخطاب اليومي يتم تصفيتها من كل العبارات غير المنطقية أو الدخيلة على الإدراك الحسي. إن هذه لغة تؤطر كما هائلا من التوقعات الخاصة بالطبيعة، لكنها تعجز عن إخبارنا بالكامل عن عالم معروف مقدما، كما تعجزعن تقديم بيانات محايدة و موضوعية بشأن المعطيات الحسية. و إذا قارنا موضوعات الإدراك الحسي بقراءات أدوات القياس، نجد أن هذه القراءات هي صور ذهنية محكمة، لا يتسنى للخبرة أن تصل إليها مباشرة إلا إذا حرص الباحث على أن يحدث هذا الاتصال مع هذه أو تلك. إن العالم لا تتم رؤيته جزءا جزءا و إنما تتم رؤيته انطلاقا من مقولات مفاهيمية و إجرائية معدة مسبقا، و هكذا حين تحدد النماذج الإرشادية مجالات الخبرة، يبدأ البحث عن تحديد إجرائي أو لغة مشاهدة بحتة.
نستنتج إذن أن وجود نموذج إرشادي يعد شرطا ضروريا لعملية الإدراك الحسي ذاتها، لأن ما يراه المرء يتوقف على ما يراه من أشياء من جهة و من جهة أخرى، على ما علمته خبرته التصورية البصرية السابقة أن يراه في هذه الأشياء، و إلا لن يكون هناك إلا ما وصفه وليام جيمس بعبارته “ألوان و طنين في فوضى مطلقة”.
من هذا المنطلق يعتبر توماس كون أنه يمكن فهم تاريخ العلم على نحو أفضل، إذا افترضنا أن العلماء يمرون بين الحين و الآخر بنقلات في الإدراك الحسي، غير أنهم يضطرون للالتزام بحدود ما يرونه و ما تتبثه أجهزتهم. فلو أن ثمة سلطة قادرة على إتباث أن الرؤية تحولت، فإن هذه السلطة ستغدو مصدر المعطيات، كما ستصبح هذه الرؤية البصرية مصدرا لمشكلات تستلزم البحث، و قد تبرز مشكلات مماثلة، لذا فإن التحولات الإدراكية الحسية في مجال العلم إذا اقترنت بالتحولات في النماذج الإرشادية، لاتتم المصادقة عليها من قبل العلماء بشكل فوري.
إن ما يحدث أثناء الثورة العلمية لا يمكن رده بالكامل إلى مجرد تفسير جديد لمعطيات مستقلة و تابثة فالمعطيات مختلفة وهي ليست تابثة بصورة مطلقة،. لتقريب هذه الفكرة يشبه توماس كون العالم الذي يؤمن بنموذج إرشادي جديد بالرجل الذي يضع عدسات عاكسة، إذ رغم مواجهته الموضوعات ذاتها فهو يجدها قد تحولت في كثير من تفاصيلها. إن العلماء لا يفسرون المشاهدات و المعطيات المتاحة لهم إلا انطلاقا من نموذج إرشادي، و هذه التفسيرات هي أجزاء من علم قياسي يهدف إلى صقل نموذج إشادي و توسيع نطاقه و إحكام صياغته. إن وجود نموذج إرشادي يجعل من تفسير المعطيات أمرا مركزيا للمشروع، لأنه يؤدي إلى إحكام الصياغة. و إحكام صياغة النموذج الإرشادي لا يعني تصحيحه، فالنماذج الإرشادية لا يصححها العلم القياسي على الإطلاق، و إنما يقودها إلى التسليم بمظاهر الشذوذ و الاعتراف بالأزمات.
في الفصل الحادي عشر يتحدث توماس كون عن الثورات و طابعها الخفي و هو يشير إلى وجود
أسباب هامة تجعل من الثورات تبدو و كأنها أحداث خفية، أهمها أن العلماء و العامة يستقون تصورهم للنشاط العلمي من مصدر سلطوي اعتاد إخفاء وجود الثورات العلمية لأسباب وظيفية جزئيا. يتجسد هذا المصدر السلطوي في كتب تدريس العلوم و تبسيط العلوم و الكتابات الفلسفية التي تحذو حذوها. تركز هذه المصادر على مجموعة جاهزة من المشكلات و المعطيات و النظريات التي سبق تحديدها و صياغتها وفق مجموعة خاصة من النماذج الإرشادية التي التزم بها المجتمع العلمي وقت كتابتها. تعمد فلسفة العلوم إلى تحليل البنية المنطقية لهذه المجموعة من المعارف العلمية التي تم إنجازها. تسجل هذه المصادر الثلاثة الناتج التابث لثورات الماضي و تعرض أسس التقليد العلمي القياسي، بدون تقديم معلومات دقيقة عن الوسيلة التي مكنت من معرفة تلك الأسس و كيف تمثلها الأخصائيون.
إن الكتب المدرسية أدوات تربوية تهدف إلى ترسيخ العلم القياسي، لذلك يرى توماس كون أنه من الضروري إعادة كتابتها كلها أو بعضها كلما تغيرت لغة العلم القياسي أو بنية مشكلاته أو معاييره، أي عقب كل ثورة. و ما إن تتم إعادة كتابتها حتى تخفي دور الثورات التي أفضت إليها، بل تخفي وجود هذه الثورات. وهو لا يقف في انتقاده للكتب المدرسية عند هذا المستوى، بل ينتقدها أيضا في كونها لا تتحدث إلا بشكل جد مقتضب عن التاريخ، حيث إنها لا تشير إلا إلى ذلك الجزء من جهود علماء الماضي الذي يعد إسهاما في بيان و حل مشكلات النموذج الإرشادي الذي تقوم عليه هذه الكتب الدراسية و تعرض لعلماء العصور السابقة بشكل انتقائي حينا و مشوه حينا آخر، يوهم بأنهم درسوا نفس المشكلات انطلاقا من الالتزام بمجموعة واحدة من القوانين التي توصف ب” العلمية ” في نظر آخر ثورة في مجال النظرية و مناهج البحث العلمية. إن الانتقاص من الواقع التاريخي ـ في نظره ـ متأصل في ايديولوجيا المهنة العلمية، و هذا ما يفسر النزوع إلى جعل تاريخ العلم يبدو و كأنه يسير في خط تراكمي مستقيم، و من ثم يحجب عملية تحتل قلب أهم أحداث التطور العلمي.
يؤكد توماس كون على أن هذا الاتجاه لا يعكس الطريقة التي تطور بها العلم. إن الأجيال الأولى حاولت حل مشكلاتها انطلاقا من الأدوات التي كانت تملكها و من القوانين التي تيسرت لها،غير أن هذه المشكلات تغيرت و تغير معها الواقع و النظرية التي يحاول النموذج الإرشادي في الكتاب الدراسي أن يطابق بينها و بين الطبيعة. معنى هذا أن النظريات لا تتطور مجزأة لتلائم الوقائع التي كانت موجودة دائما، بل إنها تنبثق هي و الوقائع التي تطابقها من خلال إعادة صياغة ثورية للتقليد العلمي السابق. نستخلص إذن أن المفاهيم العلمية لا تكتسب دلالة كاملة إلا عند ربطها ضمن نص دراسي أو أي طريقة عرض منهجي أخرى بمفاهيم علمية أخرى و تدابير إجرائية و بتطبيقات عملية لنموذج إرشادي. و هذا يؤدي إلى القول إن المفاهيم يصعب ابتكارها مستقلة عن سياقها.
في الفصل الثاني عشر يتحدث توماس كون عن انحلال الثورات انطلاقا من محاولة الإجابة عن إشكال أساسي يصوغه كالتالي: ما هي العملية اللازمة التي تجعل نموذجا إرشاديا جديدا يحل محل نموذج سابق؟ إن أي تفسير جديد للطبيعة سواء، أكان اكتشافا أم نظرية، ينبثق أولا في ذهن فرد أو مجموعة أفراد يرون العلم و الكون بشكل مختلف، و ذلك بفضل عاملين: التركيز على المشكلات التي أثارت الأزمة و حداثة السن أو حداثة العهد بالمجال الذي أثيرت فيه الأزمة. غير أن السؤال الملح هو ما هي الأسباب التي دعت إلى إحلال نموذج إرشادي جديد محل النموذج الإرشادي القديم، و كيف تحقق هذا التحول؟
للإجابة عن هذا السؤال ينطلق توماس كون من اعتبار أن الباحث العلمي يعنى بحل للألغاز بقدر عنايته بالعلم القياسي، و هو في ذلك يجرب طرقا عديدة ينحي منها الطرق التي لا تساعده في بلوغ النتيجة المرجوة و مع أنه يختبر طرقا متعددة فإنه لا يختبر النموذج الإرشادي و لا القواعد المؤسسة له و يظل بهذا الوضع طالما ظل النموذج الإرشادي مسلم به. لن يتم اختبار النموذج الإرشادي إلا في الوقت الذي يحدث فيه فشل متصل و دائم في حل لغز هام مثير لأزمة، و إلا بعد أن يؤدي الشعور بالأزمة إلى تصور نموذج إرشادي بديل. يؤكد توماس كون بهذا الخصوص على أن إجراء الاختبار في العلوم لا يقف عند حدود المقارنة بين النموذج الإرشادي و بين الطبيعة، و إنما يتعدى ذلك إلى المقارنة بين نموذجين إرشاديين، و ذلك للفوز بولاء المجتمع العلمي. هذا الإصرار على المقارنة سمة تميز الموقف التاريخي الذي يتم في إطاره قبول نظرية جديدة. ما يؤطر هذه العملية ليس هو التحقق من النظريات العلمية انطلاقا من معايير مطلقة، فلا سبيل لإخضاع أي نظرية لجميع الاختبارات الممكنة، و بالتالي لا سبيل للتحقق من صدق النظرية. إذن المحدد هو درجة احتمال صدقها في ضوء المعطيات. إن نظريات التحقق على أساس الاحتمالات تستعين بلغة المشاهدة المحايدة . تقول إحدى نظريات مذهب الاحتمالات بضرورة المقارنة بين النظرية العلمية المعطاة و بين جميع النظريات الأخرى التي يمكن تخيلها، بينما تقول نظرية أخرى ببناء جميع الاختبارات التي نتصور أنه يمكن تطبيقها على النظرية العلمية، لأن هذا البناء الذهني ضروري لحساب الاحتمالات النوعية، غير أنها في الوقت ذاته تسلم بصعوبة إنجاز مثل هذا البناء. فإذا كان يعذر ايجاد نسق لغة أو نسق مفاهيم محايد من الناحية العلمية أو التجريبية، فهذا يعني أن البناء الذهني الذي يمكن اقتراحه للاختبارات و النظريات البديلة لابد أن ينطلق من تقليد مرتكز على نموذج إرشادي. إذا كان الأمر بهذا النحو فلن يمكن الوصول إلى جميع الخبرات الممكنة أو إلى جميع النظريات الممكنة. انطلاقا من هنا يستخلص توماس كون أن نظريات المذهب الاحتمالي تظهر حالات و تخفي أخرى، و هي بذلك تشبه الانتخاب الطبيعي في كونها تنتقي الأقدر على البقاء، و هو يشير إلى أن لكارل بوبر تصورا مختلفا في تناول المشكلات يتلخص في القول باستحالة التحقق من النظريات، لذلك ليس أمامنا إلا ضرورة إثبات زيف الاختبار. يشبه إثبات الزيف الدور الذي يسنده توماس كون إلى التجارب الشاذة التي بفضلها يتم الانتقال إلى نظرية جديدة، غير أن توماس كون يؤكد بهذا الخصوص على استحالة وجود نظريات تقدم حلولا كاملة، لكونها قاصرة عن المطابقة بين المعطيات و النظريات. إن جميع النظريات الهامة قد تطابقت مع الوقائع و لكن بشكل تقريبي.، لذلك لا يعتبر هذا القصورهو المعيار الوحيد الذي يبرر رفض النظريات، و إلا لانتهى بنا الأمر إلى نبذ جميع النظريات، و لاحتاج أنصار بوبر إلى معيار لتحديد “اللاحتمالية ” أو “درجة إثبات الزيف”، و حتى هذا المعيار بدوره ستعترضه الصعاب نفسها التي اعترضت دعاة مختلف نظريات التحقق في المذهب الاحتمالي.
من هذا المنطلق يستخلص توماس كون أن الخبرة الشاذة التي أشار إليها كارل بوبر تشجع على وجود نماذج متنافسة للنموذج الإرشادي القائم. لكن إثبات الزيف هو عملية تالية و منفصلة تمثل انتصارا لنموذج إرشادي جديد، و بالتالي يمكن أن نسميها أيضا عملية التحقق. علاوة على ذلك، فإن تلك العملية التي تجمع بين التحقق و إثبات الزيف هي التي تقوم فيها المقارنة بين النظريات بدور أساسي انطلاقا من محاولة التعرف على النظرية التي تتطابق أفضل من غيرها مع الوقائع. قد يبدو الاختيار بين نموذجين إرشاديين على هذا النجو يسيرا ،لكن في الواقع الأمر ليس كذلك لأن دعاة النماذج الإرشادية المتنافسة هم أصحاب أغراض متعارضة، تجعل تسليم طرف بجميع الافتراضات غير التجريبية التي يحتاج إليها الطرف الآخر لإثبات قضيته أمرا عسيرا. أضف إلى ذلك اختلاف المنظور و اختلاف بشأن قائمة المشكلات التي يتعين على أي بديل جديد للنموذج الإرشادي أن يحلها. مرد هذا الاختلاف عدم انطلاقهم من المعايير ذاتها و من التعريفات ذاتها للعلم ، علاوة على أن النماذج الإرشادية الجديدة بفعل تولدها عن النماذج الإرشادية القديمة، تبقى محافظة على بعض المفردات اللغوية و بعض الأدوات المفاهيمية أو الإجرائية التي سبق للنموذج الإرشادي القديم استخدامها، لكن هذه المفاهيم و تلك الأدوات غالبا ما تدخل في علاقات جديدة مع بعضها البعض. ينتج عن هذا الوضع سوء الفهم بين أنصارالمدرستين المتنافستين. إنهم يمارسون نشاطهم في عوالم مختلفة، لذلك يرون أشياء مختلفة عندما ينظرون إلى النقطة نفسها و في الاتجاه نفسه و يرونها في علاقات ىمختلفة. هذا هو السبب في أن فريقا منهما يلزمه التعايش مع تحول النموذج الإرشادي. إن هذا التحول هو انقلاب في الخبرة، لذلك يلاقي مقاومة من جانب العلماء الذين تبنوا في حياتهم العلمية المثمرة تقاليد العلم القياسي القديم. مرد هذه المقاومة هو الثقة بأن النموذج القديم سيتمكن من حل جميع المشكلات. إن هذه الثقة هي التي تجعل العلم القياسي ممكنا و يقود المجتمع المهني للعلماء إلى النجاح في استثمار كل ما يمكن استثماره في إطار النموذج الإرشادي القديم من جهة، و إلى فرز المشكلة التي يمكن أن ينبثق من خلال دراستها النموذج الإرشادي الجديد من جهة أخرى. هذا يدل على مشروعية المقاومة التي لا تمنع التحول، و إن كانت تجعل منه عملية تستغرق جيلا كاملا.،فالتحول حتمي. من هنا يطرح السؤال: كيف تتم مقاومة التحول و كيف يتم الاقتناع به في نهاية المطاف. يربطنا الجواب بتقنيات الإقناع، فإذا كان أصحاب النموذج الإرشادي القديم يزعمون أن النموذج الجديد أدنى مرتبة من منافسه حتى فيما يتعلق بمجال الأزمة ذاتها و أن النموذج القديم يمكن تعديل صياغته على نحو يفي بالتحديات، فإن الحجة الأكثر شيوعا لدى أصحاب النموذج الجديد هي اعتبار أن هذا النموذج قادر على حل المشكلات التي سببت الأزمة للنموذج القديم. تجد هذه الحجة قبولا، خاصة إذا فاقه في الدقة و الإحكام الكمي. غير أن ذلك ليس بكاف لذلك يغلب الاستشهاد ببراهين مستمدة من مجالات أخرى. تؤدي هذه الحجج إلى الاقناع إذا ما كان النموذج الإرشادي الجديد يسمح بالتنبؤ بالظواهر التي ظلت غير ملحوظة حينما كان النموذج القديم سائدا.
بالإضافة إلى تقنيات الإقناع، هناك معيار الملاءمة الذي بموجبه تعد النظرية الجديدة أكثر ملاءمة أو أبسط من النظرية القديمة. يكون لهذا المعيار دورا حاسما، خاصة أن البديل الجديد، في أول ظهوره لا يقدم حلولا إلا لبضع مشكلات، و جل هذه الحلول تكون بعيدة عن الكمال، و بالتالي لا تبرز حججه المفحمة إلا في فترة متأخرة بعد أن يكون قد نضج و أصبح مقبولا. إن هذه الحجج التي يقدمها تشكل جانبا من العلم القياسي و يتبين دورها في الكتب الدراسية الصادرة بعد الثورة العلمية.
بيد أن التنافس بين النماذج الإرشادية لا يتمحور فقط على مدى القدرة على حل المشكلات، بل يتعدى الأمر ذلك إلى النزاع حول النموذج الإرشادي الذي سيوجه البحث العلمي بشأن مشكلات يعجز كل نموذج منافس على الزعم بقدرته على حلها تماما. إن الحسم في هذا النزاع لا تتحكم فيه إنجازات الماضي، و إنما ما يتحكم فيه هو ما يبشر به مستقبلا. بعبارة أخرى لابد أن تتوفر الثقة في أن النموذج الجديد سيحل المشكلات الكبيرة و الكثيرة التي أخفق النموذج القديم في حلها، و لابد من وجود أساس للثقة في اختيار البديل. قد يبنى هذا الأساس على اعتبارات شخصية أو جمالية، لكن هذه الاعتبارات كانت سببا في تحول بعض الباحثين إلى ذلك الاتجاه. لا يقصد توماس كون بهذا القول أن النماذج الإرشادية الجديدة تنتصر بفضل الحس الجمالي، بل يقصد أنها تتطور و أن هذا التطور يفضي إلى تكاثر الحجج المدعمة له و بالتالي إلى تزايد عدد المقتنعين به من أهل الاختصاص.
بعد أن عرض توماس كون تخطيطا عاما للتطور العلمي انتقل إلى الفصل الثالث عشر، الذي عنونه ب”الثورة سبيل التقدم” إلى مناقشة الأسباب التي تجعل من العلم يأخذ مسارا مطردا و تابثا مخالفا لمسارات مجالات أخرى كالفن و النظرية السياسية و الفلسفة. و هو يوضح بهذا الخصوص أن المقصود بمصطلح العلم هو المجال الذي يتقدم وفق سبل واضحة، مؤكدا على أن صعوبة التمييز بين العلم و التكنولوجيا ترجع إلى أنهما معا يشتركان في خاصية التقدم.
إن التسليم بأن التقدم سمة أساسية للعلم تقود إلى طرح جملة من الإشكالات منها: لماذا يتم التركيز على هذه السمة في تعريف العلم؟ و هل يحقق أي مجال تقدما لأنه علم أم أنه علم لأنه يحقق تقدما؟ و لماذا ينبغي على العلم القياسي أن ينحو نحو التقدم.؟ للإجابة على هذه الإشكالات ينطلق توماس كون من اعتبار أن كل ما يتمخض عن مجتمع مهني علميا كان أو غير علمي، يعد تقدما و بالتالي إضافة للإنجاز الكلي. لا يختلف التقدم في المجال العلمي عن التقدم في المجالات الأخرى، لكنه لا يبدو بوضوح إلا في العلم القياسي. إن السبب في ذلك ـ حسب تصوره ـ يعود إلى أن المجتمع العلمي يتبنى نموذجا إرشاديا واحدا أو نماذج إرشادية مترابطة، فغياب المدارس المتنافسة التي تثير تساؤلات حول أهداف و معايير بعضها البعض هو ما يجعل تقدم المجتمع العلمي القياسي واضحا. ثم إن إقرار نموذج إرشادي مشترك يحرر المجتمع العلمي من اللجوء باستمرار إلى إعادة فحص مبادئه الأولية، فيوجه بذلك الانتباه إلى أكثر الظواهر تخصصا و دقة، و هذا يؤدي إلى المزيد من الفعالية و الكفاءة. تضاف إلى كل هذا، استقلالية المجتمع العلمي عن متطلبات العامة، فإنجازاته موجهة بالكامل إلى أعضائه، و هذا التفرغ يجعل من هذه الإنجازات متواترة و متسارعة من جهة و من جهة أخرى، يتيح للباحث العلمي إمكان التركيز على المشكلات التي يعتقد أنه قادر على حلها لا المشكلات التي تتخذ صبغة استعجالية، بدون أن يضطره ذلك إلى تقديم تبريرات عن اختياره هذا.
إن طبيعة التنشئة التعليمية تسهم في عزلة المجتمع العلمي، فالطالب في العلوم الطبيعية المعاصرة يعتمد في حياته الدراسية كلهاعلى الكتب الدراسية، إذ لا يطلب منه عموما، الاطلاع على أعمال لم توجه خصيصا للطلاب، فالكتب الدراسية تظل، حتى المراحل النهائية، هي البديل عن الدراسات العلمية الإبداعية التي كانت وراء تأليف تلك الكتب. رغم أن هذه التنشئة التعليمية ضيقة و جامدة إلا أنها تهيء الباحث العلمي للعمل العلمي القياسي و لإثارة أزمات هامة ذات دلالة من خلال العلم القياسي، بيد أنها لا تيسر له اكتشاف نهج جديد في تناول المشكلات. إن هذا الجمود تكون له أضرار على الفرد وحده إذا ظهر نموذج إرشادي جديد، لأنه لا يساير المجتمع الذي أصبح في وسعه التحول إلى نموذج إرشادي جديد. خلاصة الأمر تحدد النماذج الإرشادية في كل مجتمع علمي المشكلات التي يعد حلها تقدما، أي ثورة علمية. هنا يطرح توماس كون السؤال التالي: لماذا يكون التقدم في صورته العامة ظاهرة ملازمة للثورات العلمية ؟ معتبرا أن الجواب على هذا السؤال يكمن في معرفة النتائج الأخرى المحتملة لحدوث الثورة العلمية. فالمجتمع العلمي حين ينبذ نموذجا إرشاديا كان سائدا في الماضي يتخلى في الآن ذاته عن الكتب و المقالات التي تجسد هذا النموذج الإرشادي باعتبار أنها لم لم تعد مادة مناسبة للدراسة المهنية المدققة.
إن وجود العلم ذاته رهن بأن تكون سلطة الاختيار بين النماذج الإرشادية مخولة لأعضاء التخصص، و لكن توجد بعض الشروط الأساسية لعضوية الجماعة العلمية، منها أن رجل العلم ينبغي أن يكون مهتما بحل مشكلات الطبيعة و أن يهتم بتفاصيلها و أن تلاقي الحلول التي يقترحها قبولا لدى العلماء الأكفاء من التخصص ذاته الذين لديهم معايير مشتركة يحتكمون إليها في عملية التقييم.
إن هذه الشروط التي استخلصها توماس كون من ممارسته للعلم القياسي يعتبرها كافية لإقامة تمييز بين الجماعات العلمية و بين الجماعات المهنية الأخرى. إن إدراك الأمور بهذه الكيفية يجعل من الجماعة العلمية الأداة الفعالة للوصول إلى أكبر قدر من المشكلات التي يتم حلها بكيفية أدق بفضل تغير النموذج الإرشادي الذي لا يتم قبوله إلا في ظل توفر شرطين أساسيين، أولهما تمكنه من حل مشكلة هامة لا سبيل إلى حلها بوسيلة أخرى غيره، و ثانيها حفاظه على قدر كبير من القدرة الموضوعية على حل المشكلات التي راكمتها النماذج الإرشادية السابقة. يقود هذان الشرطان النماذج الإرشادية الجديدة إلى الاحتفاظ بالجوانب الموضوعية التي توفرت في إنجازات الماضي، مع إضافة المزيد من الحلول الموضوعية المحددة للمشكلات. إن ما يجعل العلماء المتخصصين يضمنون اطراد زيادة المعطيات التي يجمعونها و معالجتها بدقة و تفصيل هو تضييق نطاق المهام المهنية و تدقيق التخصص. غير أن هذا لا يعني أن تغيرات النموذج الإرشادي تقود العلماء إلى الاقتراب أكثر فأكثر من الحقيقة.
هنا يقف توماس كون ليحدد مقصوده من مصطلح “الحقيقة” الذي اقتبسه من فرنسيس بيكون ليدل به على ما يجعل رجل العلم مقتنعا بأن القواعد المتضاربة في ممارسة العلم لا توجد مجتمعة إلا أثناء الثورات، و من ثمة يكون الحفاظ على واحدة منها و إلغاء الباقي مهمة أساسية لدى جماعة البحث المتخصصة. هذا يعني أن العملية التطورية التي يعرضها توماس كون تتميز بأن مراحلها المتعاقبة في فهم الطبيعة تزيد دقة و تفصيلا و شمولا بشكل مطرد، و لكنها ليست عملية تطور نحو هدف ما حددته الطبيعة سلفا أو نحو مفهوم واحد كامل و موضوعي و صادق عن الطبيعة .
تقوم هذه النظرة البديلة التي يعرضها توماس كون مقام النظرة التقليدية التي تعتبر أن التطور عملية هادفة تتجه نحو هدف محدد، و بالتالي تكون كل مرحلة من مراحل النمو التطوري خطوة تحقق المزيد من الكمال لخطة موجودة منذ البدء. هنا يربط بين هذه الفكرة و بين نظرية داروين التي لم تعترف بأي هدف، بل اعتبرت أن الانتخاب الطبيعي هو المسئول عن الظهور التدريجي للكائنات الأكثر تطورا و بروز الأعضاء الأكثر دقة في تصميمها و أدائها . إن هذا التطور ناتج عن عملية مطردة لكن غير ذات هدف مرسوم سلفا. في هذا الإطار يشير توماس كون إلى أن القياس التمثيلي الذي يجعل تطور الكائنات الحية مماثلا لتطور الأفكار العلمية يمكن دفعه إلى مدى بعيد و اعتبار عملية انحلال الثورات هي تعبير عن الانتخاب عن طريق الصراع داخل المجتمع العلمي للكيفية الأصلح من غيرها لممارسة علوم المستقبل. إن نتيجة عمليات الانتخاب الثورية هذه هي ما تحقق من المعارف العلمية الحديثة، وإن نتيجة المراحل المتعاقبة هي ما تحقق من زيادة في التخصص و الإحكام و الدقة و وضوح التفاصيل. يعتبر توماس كون أن كل هذا لم تكن غايته السعي وراء حقيقة علمية ثابتة و لا أي غاية أخرى محددة.
يختم توماس كون دراسته بالتأكيد على أن النظرة التطورية التي شكلت مرتكز الكتاب تتأسس على الفكرة القائلة إن العلم يتطور لأنه مؤسس على البراهين، و بما أن هذه النظرة تتسق مع المشاهدة الدقيقة فإنها ستصادف الكثير من البراهين التي ستمكنها من حل المشكلات التي تنتظرها.
نستخلص من قراءتنا لنص الكتاب أن توماس كون قد حاول تحديد مفهوم النموذج الإرشادي و ضبط ما يمايزه عن فكرة المجتمع العلمي و قد استخدم مصطلح النموذج الإرشادي بمعنيين مختلفين: المعنى الأول ذو حمولة سوسيولوجية و هو يشير إلى مجموع المعتقدات و القيم و التقنيات المشتركة بين أعضاء مجتمع بذاته و المعنى الثاني يشير إلى الحلول الواقعية للألغاز التي يمكن أن اعتبارها قواعد يتم الانطلاق منها، في إطار العلم القياسي لحل الألغاز المتبقية. و قد اتسم استخدامه لمصطلح النماذج الإرشادية بطابع مزدوج، فالنموذج الإرشادي قاسم مشترك بين المجتمع العلمي و المجتمع العلمي تتميز بامتلاكه لنموذج إرشادي متفق عليه.

ربيعة العربي

ربيـعة العربي: باحثة وأكاديمية مغربية، أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن زهر كلية الآداب و العلوم الإنسانية بمدينة أكاديـر. خبيرة في اللسانيات و العلوم الاجتماعية لدى منظمة الإيسيسكو، نائبة رئيس جمعية لسانيات النص و تحليل الخطاب، منسقة لفريق المعجم و الترجمة، كاتبة عامة لجمعية الباحثات بجنوب بالمغرب، عضو في مركز الأبحاث حول قضايا المرأة و الأسرة، عضو في مختبر المجتمع و اللغة و الخطاب، عضو هيئة تدريس ماستر لسانيات النص و تحليل الخطاب، مشرفة على منتدى فريق البحث الطلابي في اللسانيات، عضو في العديد من مجموعات البحث والجمعيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى