ما الذي كان يقرؤُه العرب والمسلمون في القرون الوسطى ؟
يُمكننا استخلاص الكثير عن ثقافة الناس من معرفة ما يقرأون، كما يُمكن للمؤرّخين استخدام طريقة مُماثلة للتحقيق في طبيعة مُجتمعات القرون الوسطى المتعلّمة. ومن الأمثلة البارزة العالَم العربيّ- الإسلاميّ في العصور الوسطى.
كان المجتمع الحَضريّ الإسلاميّ بين القرنَين الثاني عشر والخامس عشر الأكثر تعلّماً في عصره: كانت معدّلات معرفة القراءة والكتابة لديهم أعلى بكثير ممّا كانت عليه في أوروبا في العصور الوسطى.
لقد عبَّر المسلمون عن تقديرهم للكُتب في مَواقع عديدة، مثل بيت الشعر للمتنبّي الذي يقول: ” خُير جليسٍ في الزّمان كِتاب”. ومن أجل فَهْمٍ حقيقيّ للمسلمين في العصور الوسطى، نريد أن نعرف عن الكُتب التي كانوا يقرؤونها.
كِتاب “دمشق في القرون الوسطى: التعدّد والتنّوع في مَكتبة عربيّة: فهرس مَكتبة الأشرفيّة” الصادر بالإنكليزيّة عن دار نشر “أدنبرة” عبارة عن دراسة مُمتعة، وإن كانت تعتمد على مَصدر واحد، أو ما يسمّى دراسة ” تاريخيّة جزئيّة” واضحة: بطلتها مكتبة دمشقيّة من القرون الوسطى تسمّى “مكتبة الأشرفيّة”، يستكشفها كونراد هيرشلر، أستاذ التاريخ العربي والإسلامي في جامعة برلين، من خلال فهرس مقتنياتها، كما كُتبت، ربّما في أواخر القرن الثالث عشر، من قِبل القائِم على المَكتبة، وهو مجهول الهويّة.
كان ذلك العصر عصر صلاح الدّين الأيوبي وحروب الصليبيّين والمغول، لذلك قد تبدو كتابة دراسة من 500 صفحة عن مَكتبة واحدة ( لم تعُد موجودة الآن، فضلاً عن كَونها مَكتبة مُتواضعة) غريبة بعض الشيء. ولكنّ الأهمّية الفائقة للكُتب بالنسبة إلى الدمشقيّين في القرون للوسطى، فضلاً عن الفكر الثاقب لهيرشلير، ساعدا على جلاء الغموض عن الموضوع حين يستنبط مَراجع قيِّمة من التفاصيل حول المجتمع الإسلامي في القرون الوسطى.
يحتوي فهرس مكتبة الأشرفيّة على حوالى 2200 كِتاب مقدَّمة من حاكِم دمشق، المملوكي، الملك الأشرف، الذي ترك المَكتبة كإرث بعد موته في العام 1237م.، من أجل الاستخدام العامّ واقتراض الكُتب في ناحية من نواحي دمشق ما بين القلعة والجامِع الأمويّ.
والفهرس مميَّز جدّاً بسبب بقائه حتّى اليوم، إذ من بين المئات من المَكتبات القديمة في دمشق والقاهرة وبغداد وأماكن أخرى، لم يبقَ سوى فهرسَين اثنَين للكُتب، وفَهرس كُتب ” مَكتبة الأشرفيّة” هو الأقدَم. من خلال الترجمة الدقيقة للفهرس والمؤشّرات الهندسيّة والأدلّة النَّصية من التاريخ المُعاصِر، وبمُساعدة أربعة رسوم توضيحيّة غامضة لمَكتبات من القرون الوسطى في مخطوطاتٍ عربيّة مُزخرَفة أخرى.
يأخذُنا كِتاب هيرشلير خطوة إلى الوراء من حدود ضوضاء المَعارك مع الصليبيّين والمغول إلى الهدوء في باحة مَكتبة الأشرفيّة حيث الكُتب المنظَّمة على رفوفها بطريقة مُبتكَرة. تَكشف الجهود التي بذلها هيرشلير في هذا الكِتاب نطاقَ المجموعة التي تحتويها المَكتبة والتنوّع الكبير في الأنواع الأدبيّة والعِلميّة الموجودة فيها والنّظام الذي استخدمه القائِم على المَكتبة في تنظيم العناوين المتعدّدة لتسهيل إيجادها.
إنّ مجموع النتائج التي توصَّل إليها هيرشلير تفتح الباب على مجموعة واسعة من الأسئلة. ماذا كانت وظيفة العقيدة والتعليم والمدرسة؟ ماذا كان يعني أن تكون حاكِماً وإماماً ومُفكِّراً أو مجرّد قارئ في دمشق في زمن كانت فيه مركزاً ثقافيّاً بارزاً؟ وماذا كانت تعني بالنسبة إلى هؤلاء الدمشقيّين المَعرفة و”الكلاسيكيّات” والأُسس الفكريّة لحضارتهم الإسلاميّة في القرون الوسطى؟ تتجنّب مُقارَبة هيرشلير التاريخيّة الدقيقة الوصول إلى استنتاجات واسعة لمصلحة التركيز على المَكتبة قَيد الدراسة.
كما أنّ هذا الكِتاب ليس مقدّمة عامّة للحضارة الإسلاميّة في عصر الصليبيّين. بل إنّ هدفه اختبار التعميمات التقليديّة والتشكيك بالروايات المنقولة، مُستكشفاً آفاقاً جديدة بإعطاء الأهمّية لفهرس المَكتبة الذي يشكّل وثيقة خالية من القصص السرديّ ومن التحيّز ومن أجندة التاريخ التقليديّ.
يقدِّم العرضُ الشامل للشعر في المَكتبة، في حقبة ما قبل الإسلام، وجهات نظر أخرى لفَهم تقدير الشعر: فهل كانت الأشعار مجمَّعة لأسبابٍ فيلولوجيّة متعلّقة بفقه اللّغة، وهل كانت متعلّقة بالتعليم الدينيّ؟ وهل كان المسلمون الحَضر يقدّرون تقاليد ما قبل الإسلام بشكلٍ أوسع ممّا كان يُعتقد؟ تضيف مقتنيات المَكتبة من الكُتب الدينيّة إلى جانب العناوين المُختلفة الأخرى دفعاً متجدّداً لتعديل النماذج القديمة التي تقول إنّ المفكّرين الدينيّين “التقليديّين” كانوا بعيدين جدّاً عن الأدباء الآخرين. وتُظهر البيانات أيضاً إنتاجاً موضعيّاً جدّاً للمعرفة مُحفِّزةً أسئلة جديدة حول العمل الفعليّ للمجتمع الثقافيّ العربيّ والإسلاميّ العامّ.
يُنصح هؤلاء الذين يسعون للتعرّف إلى الثقافة الأدبيّة العربيّة والإسلاميّة في القرون الوسطى بقراءة كِتاب هيرشلير السابق على هذا الكِتاب وعنوانه: ” الكلمة المكتوبة في الأراضي العربيّة في القرون الوسطى: تاريخ اجتماعيّ وثقافيّ للقراءة “(دار نشر أدنبرة، 2011). إلّا أنَّ عُلماء الأدب العربيّ سيصرفون وقتاً طويلاً في تحليل كِتاب “دمشق في العصور الوسطى”. أمّا من وجهة نظر أوسع، فإنّ هذ الكِتاب سيَسمح لنا أخيراً بمَعرفة أنواع الناس الذين كانوا يَعتبرون دمشق مدينتهم لأنّ مكتباتها كانت موزَّعة توزيعاً جغرافيّاً مُتباعداً.
فئة الكُتب — عدد الكُتب — النسبة
الشعر — 674 — 32 %
العلوم المنقولة — 421 — 20 %
الأدب — 341 — 16.5 %
العلوم اللّغوية — 194 — 9.5 %
الطبّ — 106 — 5 %
التاريخ — 88 — 4 %
الفكر السياسيّ — 72 — 3.5 %
فلسفة وفقه — 50 — 2.5 %
عِلم الفلك — 24 — 1 %
متفرّقات — 72 — 3.5 %
غير معروف — 54 — 2.5 %
- طبعات تَرجمات الكُتب العربيّة
من ناحية أخرى، يتحدّى داغ نيكولاس هاس، أستاذ الفلسفة في جامعة فريبورغ الألمانيّة، بقوّة الأسطورةَ التي تقول إنّ المفكّرين الغربيّين، والمتخصّصين بالعلوم الإنسانيّة بالذّات، تجنّبوا تماماً العلوم العربيّة التي ظهرت في القرون الوسطى لمصلحة التقليدَيْن الإغريقيّ والمسيحيّ.
وكما يدلّ عنوان الكِتاب: ” النجاح والإخفاء [ أي اخفاء مَصادره العربيّة] : العلوم والفلسفة العربيّة في عصر التنوير” (نشرته مطبعة جامعة هارفرد الأميركيّة) كانت العلاقة أكثر تعقيداً.المُثير أوّلاً في عنوان الكِتاب هو ما يذكره المؤلّف من أنّه يعتقد، وبحسب قراءته.
بأنّ العُلماء الأوربيّين أخذوا بين العام 1400 و1650 (أي بين القرنَين الخامس عشر والسابع عشر) من العُلماء العرب والمسلمين، لكنّهم لم يحترموا النزاهة الفكريّة بإرجاع اكتشافاتهم إلى مؤلّفيها أو المُساهمين الأصليّين فيها.
هذه الفكرة، التي كانت نِتاج التفاعل، وكذلك التنافر، بين العالمَين العربيّ- الإسلاميّ والأوروبيّ، بدأت تتراجَع عندما نَشر أكثر من باحثٍ وعالِمٍ أبحاثاً تَدحض الفكرة المذكورة. كان من أهمّ الكُتب التي أثارت الاهتمام كِتاب د. جورج صليبا ، الأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك، ” العلوم الإسلاميّة وقيام النهضة الأوروبيّة” الذي نُشر قبل نحو عشر سنوات.
وقد أثبت صليبا أنَّ العُلماء العرب والمسلمين نقدوا نظريّة بطليموس في الفلك منذ القرن الحادي عشر للميلاد، الأمر الذي مهَّد للثورة الكوبرنيكيّة التي قلبت النظريّة التي تقول إنّ الشمس تدور حول الأرض إلى عكس ذلك تماماً؛ ما فتح الباب أمام الثورة العِلميّة في أوروبا.
وكان لاستخدام كوبرنيكوس آراء ابن الهيثم وابن الشاطر أبلغ الأثر في توصّله إلى ما توصّل إليه من تصحيح عِلم الفلك الذي كان سائداً في العالَم الغربيّ.
أمّا أهمّية الكِتاب فتكمن في أنَّ المؤلِّف يُظهِر بوضوح المَوقع البارز للعلوم العربيّة ( أي المكتوبة باللّغة العربيّة بواسطة مؤلّفين عرب وغير عرب ومُسلمين وغير مُسلمين ) بين فلاسفة وعُلماء وأطبّاء عصر النهضة الأوروبيّة.
وهو يُهاجم الفكرة القائلة بأنّ إنسانويّة النهضة الأوروبيّة قامت على الأخذ من الفلسفة والعلوم اليونانيّة فقط ورفضت الفلسفة والعلوم العربيّة بما في ذلك مساهمات كُتّاب ومفكّرين أمثال الرازي وابن سينا وابن رشد.
ولم يكُن من المُستغرب أنّه كان لكلٍّ من ابن رشد وابن سينا عددٌ كبيرٌ من الطبعات اللّاتينيّة: 114 و78 على التوالي، ناهيك بابن ماسويه 72 طبعة، الرّازي67، الزهراوي33، حنين بن اسحق27 ، الكندي25، قسطا بن لوقا 25، ابن وافد23، جابر بن حيّان16 …إلخ.
وعلى الرّغم من مُحاولات طمْس مُساهمات العلوم والفلسفة التي نُشرت بالعربيّة، فإنَّ العُلماء الأوروبيّين الذين كانوا يعملون في جامعات أوروبا، قاموا بترجمة الأعمال العربيّة وطبْعها وأدخلوها في مَناهج تعلُّم وتعليم عدّة حقول مَعرفيّة مثل الطبيعة والطبّ والفلسفة من دون الإشارة الصريحة إليها في بعض الأحيان.
وقد كان مؤلِّف الكِتاب مهتمّاً، ليس بما ذكره بعض مفكّري النهضة الأوروبيّة بشكلٍ سلبيّ عن العلوم العربيّة، بل بما فعلوه فعلاً بمَصادرهم العربيّة التي تأثروا بها ورجعوا إليها في أعمالهم.
د.محمود حدّاد / كاتب وأكاديمي من لبنان.