الانتباه قدرة لا غنى عنها في الحياة اليومية، لكن تفعيلها ليس بالأمر الهين دائما. لماذا و كيف تعمل؟
- ما هو الانتباه؟
يسمح لنا الانتباه بالقيام بعملية الفرز داخل غابة أفكارنا الداخلية من جهة ( أحاسيس، رغبات..) و المحفزات الخارجية من جهة أخرى (نداءات الرسائل الإشهارية و نوافذ ال Pop-Up في الأنترنت، أو زملاء يريدون معلومات…)، كما يساعدنا على التركيز على هدف ما و التعبير عن فكرة أو احساس. إن وظيفة الانتباه الأساسية هي الاختيار.
لكي نقوم بتلخيص نص مثلا، علينا الاختيار بين ما هو أساسي وما هو ثانوي و ذلك لبناء نسيج إنتاجنا ذهنيا. عندما نكون شاردين بسبب تيه أفكارنا (سهرة البارحة جيدة، أشعر بالجوع، نسيت الاتصال بأمي…) أو حين نشعر بالتعب بعد ليلة بلا نوم، فإن قدراتنا على الانتباه تكون ضئيلة و سيكون من الصعب علينا التمييز بين الأساسي و غير المهم.
حينها يكون انتباهنا مشوشا بسبب ظاهرة تسمى التشتت. أشياء كثيرة يمكن أن تصيبنا بالتشتت مثل لافتات الاشهار عند السياقة و التلفزيون المشغل وقت التمارين المنزلية أو ضجة مزعجة في سهرة… تتطلب منا مسببات الإلهاء هذه مجهودا أكبر للتركيز و الحفاظ على انتباهنا. لكن وراء مجهود الانتباه الواعي الذي ترشده نوايانا يوجد قسم لا إرادي للانتباه.
أتواجد في حصة دراسية و أستاذي يوضح رسما بيانيا على السبورة، أوجه اذن انتباهي لهذا التفصيل، لكن في الوقت ذاته و بزاوية العين اليمنى ألمح زميلتي التي تنظر الي، ففي الوقت الذي أركز فيه على هدف معين، يستمر جزء آخر من انتباهي في تفحص ما يدور حولي بذكاء لإيجاد تفاصيل يحتمل أن تكون مهمة.
على مستوى الدماغ فإن الانتباه ينشط شبكة تشترك بنيتها مع المناطق المكلفة بالتحفيز و التذكر. التحفيز و التذكر و الانتباه هم اذن سيرورات مرتبطة ببعضها. إن انتباهنا مسير من طرف مبدأ اللذة الأزلي.
و أنا في حديث مع زميلي تصلني رائحة القهوة الرائعة في الغرفة المجاورة فأفقد سير النقاش. إن الانتباه ممهد للتذكر، فدون انتباه لا وجود للتذكر.
- تجربة الغوريلا الخفية
“كلما كان كبيرا كان مروره أسهل” هكذا يقول الغشاشون الذين ينجحون في خداع مشاركيهم في اللعب و ذلك باستخدام وسائل جد واضحة، لأننا نستطيع عدم ملاحظة أشياء في غاية البديهية عندما يكون انتباهنا مركزا على شيء آخر.
هذا ما وضحه الباحثان الأمريكيان في علم النفس دان سيمونز Dan Simmons وChristopher Chabris كريستوفر شابريس في التجربة الشهيرة “القرد الخفي” سنة 1999. فقد طلبوا من مجموعة أشخاص أن يشاهدوا مقطع فيديو صغير يشاهدون فيه فريقين من ثلاث لاعبين يتبادلون كرات.
يلبس أعضاء الفريق الأول قمصانا بيضاء بينما يلبس الثاني قمصانا سوداء، ثم يطلب الباحثان من المشاركين تعداد عدد تمريرات الفريق الابيض. اثناء المقطع يمر شخص متنكر بزي غوريلا و يتوقف وسط المعلب، ثم يوجه ضربات لصدره و يعود من حيث أتى.
عند انتهاء الفيديو يسأل الباحثان المشاركين ما اذا لاحظوا الغوريلا أم لا. أجاب نصفهم بأنهم لا يتذكرون رؤيتها، و يعزوا الباحثون هذا الى كون موارد انتباه المشاركين معبئة لمهمة واحدة ألا و هي الحساب، و كون انتباههم مركزا على اللاعبين البيض فقط حاجبين اللون الأسود.
و قد يلمحون الغوريلا لكنهم لا يتذكرونها لأنها لا تندرج ضمن المعايير المراد تذكرها. عندما يطلب الباحثون منهم حساب عدد ركلات الفريق الأسود يصبح عدد المشاركين الذين لمحوا الغوريلا أكبر.
يمكنكم ايجاد الفيديو المتعلق بهذه التجربة على موقع دان سيمون :
أقوم بقراءة كتاب لكن أفكاري تنفلت، و عندما ينتهي الفصل أكون غير قادر على تذكر أية فكرة. قرأت دون أن أعلم ماذا قرأت، وهذا يحيلنا الى مفهوم آخر مهم، ألا وهو الوعي.
لاستحضار الوعي بمعلومة علينا أن نكون منتبهين لها، ولكي نعالج رسالة بطريقة كاملة فعلينا التوقف عندها بعضا من الوقت (على الاقل نصف ثانية)، فحين يُعرض علينا مثلث أحمر داخل مربع أصفر لمدة 200 ميلي ثانية، فنحن نستطيع أن نقول بأننا رأينا مثلثا و مربعا، بالإضافة إلى ما يشبه الأحمر و الاصفر. لكننا غير قادرون على الجزم بأن الامر يتعلق بمربع أحمر أو أصفر مثلا.
- ما هي أنواع الانتباه؟
- الانتباه القوي لإنجاز مهمة معقدة
عند نتعلم السياقة في المرحلة الاولى يتوجب علينا القيام بمجهود كبير لتذكر كل العمليات: القابض و السرعة و مرآة الرؤية الخلفية…يتطلب هذا المجهود انتباها مضاعفا لكن و مع التدريب تصبح كل المهام أوتوماتيكية فلا تحتاج اذن انتباها كبيرا.
من مزايا الانتباه الأوتوماتيكي سرعته و دقته في الوقت الذي يحتاج فيه التركيز القوي وقتا أطول لإنجاز يكون أقل دقة. إن جعل أفعالنا أوتوماتيكية يسمح لنا بالتركيز على أشياء أخرى، و هكذا فبإمكاننا الاستماع للأخبار و نحن نقود السيارة، يمكنني أيضا التحاور مع رفيق و الاجابة على أسئلة أطفالي و هكذا.
- الانتباه الانتقائي للتركيز على المعلومات المفيدة
يقر العديد من الكتاب على وجود عوازل و مَصاف تحد من كمية المعلومات التي تعالج في نفس الوقت. تعمل هذه المصافي كسد لا يسمح بمرور سوى جزء من المعطيات التي ستحصل وحدها على معالجة معرفية معمقة، بينما ستُحلل البقية لاحقا أو تُنسى.
- الانتباه المجزئ لمعالجة عدة محفزات
هل يمكن إنجاز عدة مهام تتطلب انتباها كبيرا في نفس الوقت أو أننا قادرون على معالجة مهمة واحدة فقط؟ تختلف آراء الباحثين هنا، فبالنسبة للطبيب النفسي و الخبير الاقتصادي دانييل كانمان Daniel Kahnman: الانتباه مقسم لعدة أجزاء ككعكة نقسمها الى قطع.
وحسب هذه النظرية فنحن قادرون على معالجة تمارين مختلفة مع منح كل واحد منها كمية الانتباه الذي يحتاجه. و يكون عدد المهام التي يجب انجازها في الوقت ذاته مرتبطا بحاجة الاهتمام التي تتطلبها كل مهمة.
من جهلة اخرى يوضح بعض الباحثين عكس ذلك تماما، أي أننا لا نستطيع التركيز سوى على مهمة واحدة في وقت معين. الانتباه المركزي يسلط اذن على شيء واحد أو لا شيء، و هذا ما يفسر اضطراب التوقيت في انجاز عدة مهام في لحظة معينة حتى بعد تدريب مكثف.
- هل الشاشات عدو التركيز؟
بعض التفسيرات التي تفرض نفسها لفهم مشاكل الانتباه (المتعلقة أو لا باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة Attention deficit hyperactivity disorder ADHD – هي أن الشاشات المقدسة تغير و تذيب وتمتص انتباه الأطفال و المراهقين المتعودين على التنقل من محفز الى اخر عبر صفحات الانترنت، دون التوقف عند أي منها.
يعمل انتباههم كشظايا و بطريقة سيئة ” قسم كبير من تلامذتنا لديهم ريموت كونترول مزروع في الدماغ، تائهون في مساحات متشابهة غير قادرين على ضبط انتباههم لمدة معقولة…” يتأسف فيليب ميريو داعيا الى بيداغوجيا الانتباه.
من جهته يقول المؤلف المهووس بقضايا المعلوميات نيكولا كار بانفعال في كتابه ” هل تجعنا الانترنت بلداء؟” -الصادر سنة 2011- كوننا غير قادرين على التركيز كما في السابق، أي بدون انترنت. كما تنبه الطبيبة النفسية كاترين هايلز بضررالمعادلة انتباه+ انترنت.
لتتأكد من صحة و نجاعة هذه الفرضية قامت فيفيان كوفيس ماسفتي بجمع و تحليل معطيات من سبع بلدان أوروبية، فاستنتجت الباحثة أن الاطفال المتمدرسين اللذين لا يحملون اضطراب ADHD والذين يقضون وقتا طويلا أمام الشاشات هم الأقل عرضة لمشاكل التواصل…ولبقية المشاكل عموما. و توضح الباحثة أن هذا طبعا مرتبط بالوسط الاجتماعي و نوعية التربية.
هذا الاستنتاج غير متوقع لكن ليس بالنسبة لأدبيات هذه الظاهرة، فكل ما نرى و نسمع و نكتب حول تأثير الشاشات على الانتباه ليس مبنيا على أسس علمية حقيقية. “دائما ما أبتسم بمتعة كعالمة أوبئة حين أسمع جملا من قبيل: ” نلاحظ أكثر فأكثر…و بشكل أكثر حدة… “.
إن الإكلينيكيين المتخصصين في اضطرابات قلة الانتباه و فرط النشاط هم الزاعمون بأن هذه الحالات تتضاعف، و طبعا كلما زاد تخصصهم زادت شهرتهم و كثر عدد الاشخاص اللذين يستشيرونهم، لكن وعلى المستوى الوبائي فهذا يعتبر شاذ نظرا لعدم اعتمادهم على معطيات موضوعية لتأكيدها”.
كفيفيان كوفيس يثيره اسخرية فرانسوا بانج و هو يتذكر “الاطباء الدمى” للكاتب و المسرحي الفرنسي موليير و يصرح ” من بين الصور الكاريكاتورية المرتبطة بال ADHD هو علاقته المباشرة بامتياز مع الاستهلاك المبالغ فيه للتكنولوجيات الحديثة. التلفاز قبل تلاثين سنة ثم الحواسيب و الآن الهواتف الذكية و الانترنت.
“نجزم أن التنقل السريع بين الصفحات أو ما يسمى zapping هو سبب هذا الاضطراب “التنقل السريع، كما أقول لكم”. و لكي يعزز ماسفتيي الفكرة تقول ” إن الأمر يعزى أساسا الى مشاكل التربية، و برأيي فإن قلة النوم تعتبر مقلقة أكثر من الشاشات «.
مقال مختصر من ملف في المجلة الفرنسية Sciences humaine بعنوان “سيكولوجيا الانتباه، كيف نحارب التشتت؟ صفحة 26عدد 298 ديسمبر 2017.