كورونا .. انتقام الطبيعة من الإنسان
ظهر فيروس كوفيد-19 في واحدة من أكثر الدول تلوثا و تلويثا للعالم و في مدينة تقطنها 11 مليون نسمة. لم يكن ظهوره صدفة أو حدثا غير متوقع من قبل المختصين في علم الفيروسات الكورونية.
فقد حذر هؤلاء من ظهور نسخة جديدة من مرض السارس قبل سنوات عديدة، بسبب توفر الظروف المناسبة كتلوث البيئة و التعامل مع حيوانات برية حاملة لشتى أنواع الفيروسات التي قد تفتك بالإنسان.
لكن الصين و باقي دول العالم لم يأخذوا الأمر على محمل الجد، مما يطرح تساؤلات عديدة حول السياسات الصحية و الإيكولوجية التي تنهجها بعض الدول و كذلك دور الإقتصاد الرأسمالي في تفشي وباء كورونا و ربما أوبئة غيرها قد تظهر في المستقبل.
نشرت المجلة العلمية الفرنسية Sciences et Avenir سنة 2017 مقالا بعنوان ” خفافيش تحضن وباء سارس قادم”. يتحدث المقال عن اكتشاف باحثين صينيين لمصدر وباء السارس (المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة) الذي انتشر في الصين سنة 2003،
فقد توصل هؤلاء العلماء سنة 2017 بما ليس فيه شك حسب أقوالهم، إلى أن أحد أنواع الخفافيش التي تقطن مغارة في مقاطعة يونان جنوب غرب الصين تحتضن هذا الفيروس الذي يحمل العديد من الخصائص الجينية لفيروس كورونا الذي نحاربه اليوم.
- نبذة عن وباء السارس SARS-CoV
ظهر في مارس سنة 2003 وسجلت أول إصابة به في شمال الصين، و قد تسبب بمقتل 800 شخص من مجموع 8000 إصابة في الصين و بعض دول جنوب آسيا خلال بضعة أشهر. هو من عائلة الفيروسات الإكليلية corona virus ويضم كمية كبيرة من المعلومات الجينية.
وفي كل مرة يستنسخ نفسه داخل خلية تحدث طفرات جينية ضئيلة قد تجعله أكثر قدرة على إصابة البشر واستنساخ نفسه داخلهم. هذه الطفرات تفيد الفيروس حسب نظرية الانتخاب الطبيعي وتقوده إلى خلق سلالات جديدة أكثر قدرة على البقاء و مقاومة مضادات الأجسام لدى الحيوانات، بما فيها الانسان.
سنة 2017 و بعد مرور 15 سنة من ظهور السارس، اكتشف مجموعة من المختصين في علم الفيروسات بمختبر وهان مجموعة فريدة من الخفافيش التي تأوي سلالات فيروسات تحمل جميع الخصائص الجينية لفيروس السارس-كوفيد الذي انتقل إلى البشر.
الخطير في نتائج هذه الدراسة أن هذه السلالة من الفيروسات القاتلة يمكن إعادة تشكلها بسهولة من هذه الحيوانات، وقد أقروا في دراستهم التي نشرتها Plos Pathogens ، بأن جميع الشروط مهيأة لظهور مرض مماثل مرة أخرى، وهذا ما حدث فعلا في ديسمبر من سنة 2019.
نفس النتيجة خلصت إليها أبحاث علماء صينيين من مختبر وهان لدراسة الفيروسات و أكاديمية بيجينغ للعلوم في دراسة نشرتها في يناير 2019، أي قبل سنة تقريبا من ظهور وباء كورونا الحالي. تقول الدراسة ” من المحتمل جدًا أن يظهر السارس المستقبلي أو فيروس تاجي شبيه بفيروس كورونا بسبب الخفافيش، وهناك احتمال متزايد أن يحدث هذا في الصين “.
- الخفاش خزان الكورونا فايروس
من المثير للدهشة أن العديد من الفيروسات البشرية قد انبثقت من الخفافيش كالإيبولا الرهيب وماربورغ و كذلك داء الكلب. الخفافيش هي ما يسميه العلماء “الخزان الفيروسي” و لهذا الوصف عدة أسباب.
الخفافيش هي الثدييات الوحيدة القادرة على الطيران، مما يعني أنها تميل إلى الهجرة وتلتقط وتمرر مسببات الأمراض أثناء انتقالها من مكان لآخر، كما أنها مجموعة متنوعة للغاية، تمثل حوالي خمس جميع أنواع الثدييات و تتواجد تقريبًا في كل مكان في العالم.
تمتلك هذه الكائنات أيضًا أجهزة مناعية غريبة و قوية جدا، فهي تطور آليات دفاعية باستمرار ضد مسببات الأمراض و تدمر الفيروسات بسرعة لا ترحم. لكن من ناحية أخرى فلمضادات أجسامها عمر قصير، مما يجعلها أكثر عرضة للإصابة بالفيروسات مرة أخرى.
لذلك يمكن لهذه الأخيرة أن تقاوم جهاز المناعة لدى الخفافيش مرارًا وتكرارًا وتزداد قوة كلما فعلت ذلك. يكمن الاشكال في أن جسم الإنسان لا يستطيع مسايرة تطور هذه الفيروسات كما تفعل الخفافيش، مما يجعلها أكثر فتكا به.
لا تنتقل الفيروسات الكورونية من الخفاش إلى الإنسان مباشرة بل تحتاج الى حيوان آخر يسمى “العائل الوسيط”. بالنسبة لسارس 2003 كان هذا الحيوان الوسيط هو الزباد الآسيوي و حاليا يعتبر حيوان البنغول Pangolin المهدد بالانقراض هو المشتبه بنقل فيرويس كوفيد-19 من الخفاش إلى الإنسان.
- تلوث و استنزاف لموارد الطبيعة
لا يمكن اعتبار الخفاش كيحوان يعيش في الطبيعة و له دور في توازنها البيئي المسؤولَ الرئيسي عن تفشي وباء كورونا، بل إن تعامل الإنسان معه و اصطياده و بيعه في أسواق عشوائية الى جانب حيوانات أخرى لا تخضع لشروط النظافة و المراقبة البيطرية هو سبب ما نعيشه اليوم.
فرغم غلق الصين لأسواق بيع اللحوم البرية بعد تفشي وباء السارس سنة 2003، و هي أسواق تنعدم فيها شروط النظافة و التعامل الأخلاقي مع الحيوانات، إلا أنها سمحت بإعادة فتحها بعد مرور تلك الأزمة،
غير آبهة لتحذيرات العلماء من ظهور وباء سارس جديد. و ها نحن اليوم ندفع ثمن هذا التهاون، في زمن توفر وسائل النقل السريعة و الأنشطة السياحية التي نقلت الوباء الى جميع دول العالم.
تملك الصين أكبر سوق لتجارة الحيوانات البرية و منها الخفافيش و أنواع من الحيوانات المهددة بالإنقراض كالبنغول الذي سبق و أن أشرنا إليه، و الذي يصطاده الصينيون بكثافة لاعتقادهم بأنه منشط جنسي.
و قد شجع عرض هذه الحيوانات الغابوية للبيع في الأسواق على انتقال الفيروسات من الخفافيش إلى كائنات أخرى. من جهة أخرى لدى الصينيين و بعض دول آسيا ثقافة أكل الحيوانات النيئة و أحيانا الحية، مما يزيد من احتمال دخول الفيروسات و البكتيريا بشكل أسهل إلى جسم الانسان.
يجب التذكير أيضا بأن الطاعون الذي تسبب بقتل ملايين الأشخاص في أوروبا في القرون الوسطى كان سببه انتقال البراغيث الحاملة للبكتيريا من القوارض إلى الانسان، و كان يظهر أيضا في أكثر المدن ازدحاما و قذارة ثم ينتشر عبر العالم كما هو حال كورونا اليوم.
أما الحجر الصحي فكان بدوره متداولا جدا أثناء تفشي الأوبئة، ففي عام 1665 عندما كان نيوتن يدرس في جامعة كامبريدج، كانت لندن تعاني من تفشي الطاعون، فقرر الانعزال في مكان في الريف وبقي هنالك مدة 18 شهرا، اكتشف خلالها أهم نظرياته العلمية.
وكان ابن الوردي في حلب عندما وصل الطاعون عام 1349 إلى هناك من آسيا، وظل يفتك بالمدينة لمدة 15 عاما، مما أسفر عن موت حوالي ألف شخص كل يوم.
لقد بدأت الطبيعة في أخذ الثأر لنفسها و لا يمكن أن يصمد الانسان أمام تبعات التدمير و التلوث الذي يسببه للكائنات الحية التي يتقاسم معها هذا الكوكب، كما لا يمكننا بعد هذه الأزمة التفكير بمنطق الحدود بين الدول.
إنه الدرس الذي علينا استيعابه كأفراد و دول و حكومات، لكن النظام الرأسمالي لا يرحم الطبيعة و لا يفكر بمنطق الإقتصاد المستدام الذي يضمن العيش للجميع. من الممكن أن يظهر وباء جديد في منطقة أخرى من العالم، خاصة في الدول الملوثَة ذات الكثافة السكانية العالية، و التي تستغلها ماركات الدول الغربية لإنتاج كميات كبيرة من السلع نظرا لانخفاض تكلفة الإنتاج و تدني أجور العمال بها.
إن وباء كورونا ما هو إلا إنذار أولي وَضع الإنسان المتبجح بإنجازاته و حضارته و قوته في مكانه الطبيعي و حَوله إلى كائن ضعيف يستطيع فيروس مجهري أن يقتله كما قتلته أوبئة سابقة. حيوان مهدد بالانقراض إذا استمر في جشعه و بحثه عن الرفاهية التي تسببت له اليوم في قلق و توتر بسبب الخوف من المرض و الموت.
- روابط مصادر المعلومات المذكورة في المقال: