تربية وتعليم

الحاسوب أولا

تضاعفت الاعتمادات المالية الموجهة لإدماج تكنولوجيات الاعلام و الاتصال، في المدرسة المغربية ، بشكل غير مسبوق منذ اعتماد البرنامج الاستعجالي.

في الوقت الذي انكسفت فيه الميزانية التي تخصصها وزارة التربية الوطنية للمعينات الديداكتيكية و الوسائل التعليمية الاخرى ( الصويرات ، الخرائط و المبيانات، وسائل القياس المستعملة في تدريس العلوم و الرياضيات.. الخ)،

مما يدفعنا الى التساؤل باستغراب: ألا تعتبر هذه الوسائط التكنولوجية – التي تمتاز بخاصية التقادم السريع – جد مكلفة و غير ذات جدوى في مدارسنا؟

مسلاط ضوئي لتلاميذ السنة الاولى ابتدائية ، مناولات و رسوم معلوماتية في الصف الثاني ،اقراص مدمجة و برمجيات لكل مستويات “مدرسة النجاح”، تلفاز مسطح رقمي ،في كل حجرة دراسية ،بغض النظر لحالة القسم المتلاشية، جنبا الى جنب مع سبورة متهالكة يفوق عمرها عمر الوزير نفسه .

هي اذن اشارات تم التقاطها من لدن هذه الجهات لرغبة” الدوائر العليا” في تجهيز جميع مدارس المملكة بتقنيات الاعلام و الاتصال (…) و ربطها بشبكة الانترنيت ! وتمت ترجمتها بهذه الكيفية الميكانيكية ،تحت مبررات الرفع من مردودية المدرسة، و الرهان على مجتمع معلوماتي ،اضافة الى تحليلات “خبراء” يرون ضرورة ان تأخذ هذه التقنيات مكانة مرموقة في اعداد جيل من “المستخدمين” و “الموظفين” حتى يتسنى ادماجهم بسهولة في صناعة تعتمد اكثر فاكثر ، على البرمجيات.

مستعينة في ذلك، على مجموعة من وصلات اشهارية و اعلانية، وومضات اخبارية تصدرها الوزارة ،تبرز فيها بعض التجارب في هذا الشأن ، لأساتذة “ناجحين”، “مجددين” تعزز بها اختيارها.
دور التكنولوجيا في التعلم:

تحاول الوزارة جاهدة ابراز حالات خاصة، يستعمل فيها اساتذة الاعلاميات بشكل شبه يومي في اقسامهم. يهيئون موارد رقمية تساعدهم في تقديم دروسهم ،و مواد تفاعلية تبرز التلميذ في وضعية تعلم مشوقة… تنضاف الى هذه النماذج، مطالب فئات من المجتمع، ترغب في تعويد ابنائها على الاعلاميات ،مدفوعة في ذلك بخوف من رؤية اطفالهم مستقبلا خارج هذه “الموضة الجديدة”. هذا الكم من الخطابات يدفعنا الى التشكيك في مراميه .قد نتفهم بعض السبب في كون البراغماتية و الاستعجال ،يوهمان الجميع ان الاولوية هي لإيجاد حاسوب داخل كل فصل دراسي،

و ان المعركة القادمة “معركة الاذكياء ” تشكل فيها المدرسة جبهتها الامامية.
من المؤكد ان قطاع تكنولوجيا الاعلام و الاتصال في تطور مستمر و مضطرد ،وان حاجياته لليد العاملة المؤهلة في ازدياد ,لكن تبقى هذه الصناعة تستقطب حاليا “مبتكرين” و ليس كل من تلقى تكوينا عاما في هذا المجال …حتى لا نبرر هذا بذاك.

ان خاصية “تقادم” البرانم (البرامج الموجهة للاستعمال التربوي ,تطبيقات مهنية ،نظم استغلال الحواسب “على الخصوص” (Windows” يشكل عبئا اخر على ميزانية النهوض بالتربية و التكوين. هل يجب على المدرسة المغربية – في هذه الشروط التي تعيشها – ان تنخرط في هذا السياق المرهق و المكلف نحو كل ما هو جديد؟ التلاشي و النسيان يطال التجهيزات الموجودة حاليا بالمؤسسات (برنامج جيني –الحقيبة التربوية …)فهذه الترسانة تعتبر متجاوزة بعد سنتين، و عمليا غير صالحة بعد خمس سنوات. اضف الى ذلك ،الحاجة المستمرة الى الصيانة ،و الى تكوين الاساتذة المشرفين عليها …

اذا سرنا على نفس النهج ، فإننا سنرى في المستقبل القريب من ينادي بتلقين “الانترنيت” و “المعلوميات” في المدارس الابتدائية (و رياض الاطفال؟) كمواد قائمة بذاتها، الى جانب المواد الدراسية الاخرى .مع ما ينجم عن ذلك من ثقافة عامة مرتبطة بالتقنية، والامكانات الهائلة للتواصل، وتبادل المعلومات التي تتيحها…

هذه المقاربة في التعاطي مع تكنولوجيا الاعلام و الاتصال في المدرسة، تتقاطع مع مصالح الشركات الكبرى ,بل و تسيل لعابها .و ترى في “فتح المدرسة امام تقنياتها ” فرصة لا تقدر بثمن، حتى يتسنى لها استمالة زبائن المستقبل ،و تكييف سلوكياتهم مع هذه الوسائط المعلوماتية، وتوجيه اختياراتهم المستقبلية .

بتواطؤ مكشوف و معلن، يتم الترويج لهذا المنحى. سواء من خلال الوثائق الرسمية الصادرة عن الوزارة (مذكرات، مشاريع خاصة في البرنامج الاستعجالي ،برنامج جيني، اتفاقيات مع شركات منتجة للبرمجيات (ميكروسوفت، انتيل…) اكثر من ذلك ، اقحم هذا الشرط في مواصفات المترشحين لتولي مناصب المسؤولية في قطاع التربية .

يتعلق الامر الى حد الان بمعركة مفتوحة، تستعمل فيها جميع الاساليب و الوسائل للسيطرة على هذا الساحة(المدرسة). و لو ان من اشعلوها واعون جيدا بعدم جني ارباح على المدى القصير (….)و لكنهم بذلك يضمنون لأنفسهم اسواقا متجددة، و يعملون على توسيعها عبر العالم، واقصال كل المتدخلين “الصغار” من منافستهم .

و يبقى خطاب النهوض بقطاع التربية و التكوين عبر ادماج تكنولوجيا الاعلام و الاتصال ،مطية لتمرير كل هذه الصفقات.

الانجازات التي تقدم لنا كأمثلة، يتم انتقاؤها بعناية .و هي مرتبطة في اغلبها بمناطق معزولة و صعبة :(مدارس قروية معزولة تابعة لمدارس .كم، مدارس “تشرف” عليها مؤسسات خاصة، “كمؤسسة القروض الصغرى لرجل النظام” صاحب مشروع الدراجة” …) و كيف تم فك العزلة عنها بمجرد اقتناء أجهزة حاسوب !…

التكنولوجيا الحديثة (tice) كإجراء داعم، له فوائد جمة ،و هذا لا جدال فيه. لكن تبقى هذه التجارب النموذجية -و ان بدت مشجعة- تبقى نقطا معزولة في النظام التعليمي اذ اخذناه برمته ،و هذه التجارب نفسها لم تثبت نجاعتها علميا (معظم التحاليل و التقارير التي تتناول هذا الموضوع, تنقصها مراجعات علمية ضرورية لإثبات خلاصاتها).

و عكس ما هو شائع لدى العامة, فان تبني التكنولوجيا الحديثة (tice) لا يضمن نتائج جيدة لدى التلاميذ .هذا ما خلص اليه-على الاقل- تقرير للحكومة الكندية سنة 2004 في نفس الموضوع: “حيث تتدخل هنا عدة عوامل، اهمها كيفية استعمال و استغلال هذه التكنولوجيا. هذه الكيفية تلعب دورا حاسما في النتائج المحصلة”(…).

كذلك خلصت الباحثة(حين دافيد) Mme Jane David،وهي اخصائية في التربية (و تقود بحثا بهذا الخصوص لصالح شركة Appel)الى ما يلي :”وحدها بيداغوجيا “موجهة نحو مشروع محدد” يقوم فيها المدرس بدور الموجه بدل “العارف”، يمكن لها ان تواكب المعلوميات داخل المدرسة .

ما يحتفظ به التلاميذ له علاقة وطيدة مع نوعية التدريس و مناهجه، اكثر منها بالحاسوب نفسه.” بمعنى اخر :”لو تم الاستغناء على الحاسوب في مثل هذه المؤسسات التي اثبتت نجاعتها , فلن تتغير فيها جودة التعليم و سيستثمر التعليم على احسن حال”(…).

موجة “حوسبة المدارس ” تعطي للدولة فرصة اخرى لإحياء…بيداغوجية فريني “Freinet”:
فقد اثبتت الدراسات المحايدة في الولايات المتحدة (لا يوجد في اوروبا اي تقرير من هذا النوع) محدودية ادخال المعلوميات الى مدارس “فاشلة “. ما يستدعي التريث في هذا الصدد في بلادنا .بل ضرورة التجريب العلمي لمدى نجاعة هذا التوجه الذي تدعو اليه الوزارة بإيعاز من ارباب بعض الشركات العاملة في هذه التجارة.

لان رصد ميزانيات ضخمة ل “حوسبة المدارس” تعد خطوة مكلفة جدا، و باهظة الثمن . و تهدد بتعميق الهوة و تكريس اللامساواة بين المدارس ،المتفاوتة اصلا. كما تستنزف جهد المدرسين، على حساب اولويات اخرى !

“مشاكل التعليم لا يمكن ان تحل بالتكنولوجية” يصرح(Steve jobs) ستيف جوبس ،احد مؤسسي Appel. ”بإمكاننا وضع مقررات دراسية كاملة في قرص مدمج ، بإمكاننا ان ننشئ مواقع تعليمية لكل مدرسة، لا عيب في هذا كله، العيب ان نوهم انفسنا اننا بهذه الطريقة يمكن ان نواجه مشاكلنا التعليمية”.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى