تربية وتعليم

البنائية بوصفها مقاربة شمولية تعليمية – تعلمية

 

  • تقديم

على خلاف ما كان سائدا في السابق، نجد النظريات الحديثة تقول إن التعليم الحقيقي لن يتم بناءً على ما سمعه المتعلم حتى لو حفظه وكرره أمام المدرس، بل تؤكد هذه النظريات – ومنها البنائية- أن الشخص يبني معلوماته داخليا، متأثرا بالبيئة المحيطة به، والمجتمع، واللغة. وأن لكل متعلم طريقةً وخصوصيةً في فهم المعلومة وليس بالضرورة أن تكون كما يريد المدرس. ومنه فانهماكُ المدرس في إرسال المعلومات للمتعلم، وتأكيدِها وتكريرِها لن يكون مجديا في بناء المعلومة كما يريدها في عقل المتعلم.

وعلى الرُّغم من قِدَم فكرة النظرية البنائية، إلا أنها اكتسبت اهتماما كبيرا في السنوات الأخيرة؛ إذ يمكن ملاحظة الاتجاهات نحوها من خلال أعمال فلاسفة أمثال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو الذين تحدثوا جميعُهم عن تكوين المعرفة. أما سانت أوغستين فيقول: “يجب الاعتماد على الخبرات الحسية عندما يبحث الناس عن الحقيقة”.

صحيح أن الفلسفة الرئيسة تنسب إلى جون بياجيه Jean PIAGET  (1896- 1980) إلا أن بستالوزي (1746- 1827) قد أتى بنتائجَ مشابهةٍ قبل أكثر من قرن على ذلك؛ حيث أكد الرجل ضرورة اعتماد الطرائق التربوية على التطور الطبيعي للطفل، وعلى مشاعره، وأحاسيسه، وبذلك يؤكد بستالوزي  أهمية الحواس بوصفها أدواتٍ للتعلم، ونادى بربط مناهج التعليم بخبرات الأطفال التي تتوافق وحياتهم في بيوتهم وبيئاتهم العائلية.

هكذا إذًا نستطيع أن نقول إن البنائية نظرية في المعرفة منذ زمن سحيق، وليس غريبا رؤية هذا التكرير من فلاسفة ومنظرين كثيرين عبر التاريخ، ويبقى جون بياجيه المنظرَ الحديثَ الوحيد الذي حاول تركيب هذا الأفكار المتعددة في نظرية متكاملة وشاملة شكلت في ما بعدُ الأسس الحديثة لعلم نفس النمو، حيث قام بتوحيد الفلسفة، وعلم النفس لتوجيه انتباه الناس إلى الاهتمام بالتفكير والذكاء لدى الأطفال، وفتح الطريق إلى نظرة حديثة في التربية وعلم النفس. فما الذي يجعل البنائية مقاربة شمولية تعليمية- تعلمية؟ 

للإجابة عن هذا السؤال، وقفنا بمقال ل جانيت جييسن Janet GIESEN بعنوان:   Constractivism : A holistic Approach to Teaching and learning  من جامعة شمال إلينوي – كلية التنمية ومركز المخطط التعليمي – الولايات المتحدة الأمريكية.

يضم هذا المقال أربعة محاور: طرقنا في الأول دورة التعلم. وفي الثاني البنائية من خلال مفاهيم رئيسة ثلاثة هي النظرية التعلمية، والإجراء، واستراتيجية التعلم. وخصصنا المحور الثالث للتطبيقات الصفية. والرابع لأدوار كل من المدرس والمتعلم. فـخلاصة عامة.

أولا: دورة التعلم[1]

تحيلنا هذه الدورة على المتعلم، لأنها دورة بناء التعلم، وتضم خمسة عناصر أساسية هي: التقييم، والإشراك، والاستكشاف، والشرح\ التفسير، والتعزيز. ويعتبر التقييم بؤرتها. ونوضحها في الترسيمة الآتية:

 

ثانيا: البنائية: تحديد المفهوم

مفهوم البنائية

تقر البنائية بأن الناس يبنون فهمَهم الخاص، ومعرفتَهم من خلال تجربة أشياءَ عدةٍ، وتأملِهم وتفكيرهم في تجاربهم.[2] 

البنائية  بوصفها نظريةً تعلمية[3]

يمكن القول إن البنائية نظرية تعلمية لأن:

  • التعلم إجراء فعال.
  • تبنى المعرفة وتتشكل عن طريق التجربة (المعرفة وليدة التجربة).
  • التعليم إدراك\ تفسير شخصي للعالَم.
  • تؤكد حلَّ المشاكل وإدراكَها.
  • توظف الأدوار، والتجارب، والمواقع، والتقييمات بشكل حقيقي.
  • تقدم المحتوى بشكل كلي وليس في أجزاءَ صغيرةٍ منفصلةٍ.

البنائية  بوصفها إجراءً تعليميا[4]

كما يمكن القول إن البنائية إجراءٌ تعلمي؛ ذلك أن:

  • تكييف المنهج الدراسي لمعالجة فرضيات المتعلمين.
  • دعم ومساندة بلوغ الأهداف والكفايات لدى المتعلمين.
  • طرح مسائل وقضايا ذات أهمية للمتعلمين.
  • الحث على التدريب عمليا على تجارب العالَم الحقيقي.
  • البحث عن وجهات نزر المتعلمين وتقييمها.
  • السياق الاجتماعي للمحتوى (المضمون).
  • تقديم طرائق عدة للتمثلات\ المنظورات حول المحتوى.[5]
  • خلق مفهوم جديد عن طريق التعليم، والتكافؤ، وتقديم اقتراحات.
  • من الضروري أن يكون الاختبار وظيفيا لا نشاطا مستقلا.
  • اعتبار الأخطاء استراتيجيات لتنمية فهوم المتعلمين، وتغيير أفكارهم.

 

البنائية  بوصفها إجراءً تعلميا[6]

ليست  البنائية إجراءً تعليميا فحسب، ولكنها إجراء تعلمي كذلك؛  لأنها تقوم على ما يأتي:

  • المساعدة على تطوير التقييمات والأهداف الخاصة.
  • خلق فهوم جديدة عن طريق التعلمات، والتكافؤ، والمقترحات.
  • توجيه التعلمات ومراقبتها (تأمل مدى تحقيق التعلم).
  • جماعة القسم المكونة من أعضاء متعلمين.
  • تعاون المتعلمين في ما بينهم، ومساندة بعضهم بعضا.
  • التعلم عملية تمثل تجربةً اجتماعيةً\ إدراك منظورات متباينة وتقييمها.
  • تعبير المتعلم وامتلاكه نصيبا في الإجراء التعلمي.

 

لتوضيح المبادئ المشار إليها أعلاه، تقدم البنائية فروقا جوهرية بين الفصل الدراسي التقليدي والفصل الدراسي البنائي. ونوضح هذا الفروق في الجدول الآتي:

الفصل الدراسي التقليدي الفصل الدراسي البنائي
–       الانطلاق من الجزء إلى الكل، وإثبات المهارات الأساسية.

–       صرامة المنهج وثباتُه.

–       الكتب المدرسية والكراسات.

–       تلقين الرأس الفارغة وتزويدها بالمعارف (مدرس مزود ومتعلم مستقبل).

–       افتراض المدرس أدوارا آمرة ومباشرة.

–       التقييم عن طريق الاختبار\ الإجابات الصحيحة.

 

–       المعرفة الجامدة.

–       عمل المتعلمين الفردي.

–       الانطلاق من الكل لتوسيع الأجزاء.

–       الاهتمام بقضايا المتعلمين واهتماماتهم.

–       المصادر الأولية\ المواد الموظَّفة.

–       اعتبار التعلم تفاعلا يُبنى من خلال معرفة المتعلمين مسبقا.

–       تفاعل المدرس في علاقته التعاقدية داخل جماعة الفصل.

–       التقييم عن طريق أعمال المتعلم، وملاحظاته، ووجهات نظره، واعتماد الكيف لا الكم في التعلم.

–        المعرفة الدينامية\ تبادل الخبرات والتجارب.

–       عمل المتعلمين الجماعي.

 

البنائية  بوصفها استراتيجيةً تعليميةً[7]

المتأمل في المبادئ المذكورة أعلاه، وما ورد من سمات الفصل الدراسي البنائي في الجدول، يتضح له أن البنائية استراتيجية تعليمية. ولتوضيح ذلك، فإنها تقوم على ما يأتي:

  • الاشتغال على التعاون بين المدرسين والمتعلمين داخل جماعة القسم.
  • التكييف وَفق أهداف ومتطلبات المتعلمين كل على حدة.
  • معالم وسمات فعالة، وتعلمات حقيقية، وتحدٍّ، وتعدد الجوانب .
  • مساندة المتعلمين في ما يأتي:
    • رصد الاهتمامات والأهداف الخاصة.
    • توظيف المتعلم قدراته وتطويرها.
    • جعل المعرفة والخبرات والتجارب أساسا للبناء.
    • التعلم الدؤوب مدى الحياة.
  • مساعدة المدرس وتحفيزه على تزويد المتعلمين جميعِهم بما يأتي:
    • نمط التعلم المفضل.
    • نسبة التعلم.
    • التفاعلات الشخصية مع باقي المتعلمين.

البنائية  عمليا داخل الفصل الدراسي[8]

يتمثل الجانب العملي للمقاربة البنائية داخل الفصل الدراسي في ما يأتي:

  • الوقوف بالمشاكل المرتبطة بالمتعلمين.
  • بَنيَنةُ التعلم حول المفاهيم الرئيسة.
  • إدراك أن وجهات نظر المتعلمين بمثابة نوافذ تفكيرهم.
  • تكييف التدريس وربطُه بافتراضات المتعلمين، وتنميةُ مستواهم.
  • تقييم بناء التعلم في سياق المقاربة.

تطبيق البنائية إلكترونيا[9]

يمكن تطبيق البنائية إلكترونيا من خلال:

  • الفردية والاختيار في الأدوار العملية، ونعني ما تم التعاقد عليه.
  • الأدوار الوظيفية من خلال وظائف شبكة الإنترنيت في إنشاء المواقع الإلكترونية، والخرائط الرقمية…
  • توظيف مقاطع فيديو إلكترونيا بدل بعض المحارين\ المدرسين.
  • تعويض الاختبارات بتقارير حول قضايا، وبحوث وعروض على الموارد الرقمية.
  • اعتماد السبورة وسيلةً ديدكتيكيةً فعالة في العمل الجماعي والعمل المزدوَج.

البيئة التعليمية المتمحورة حول المتعلم والمهيمَن عليها من لدن المدرس

لإبراز هذه البيئة أو هذا المناخ، ترصد البنائية أدوار كل من المتعلم والمدرس في العملية التعليمية-التعلمية، ونوضحها وفق الجدول الآتي:

المدرس

المتعلم

–       مسير المعرفة.

–       مشارك المتعلم ومساعده.

–       مطور الأداء.

–       متأمل لأدائه.

–       مسير مكتشف.

–       متعاقد معرفيا.

–       عضو من جماعة.

–       مستقبل المعلومات.

–       مسير أو موجه.

–       متعلم متكيف.

–       متعاون\ مشارك.

–       مشارك في تطوير الأهداف والكفايات.

–       باحث عن المعرفة.

–       ناشئ لها.

–       متعلم متأمل.

–       التعليم وليد الاكتشاف.

–       تعاقد معرفي.

–       عضو من جماعة.

–       نشيط ومسؤول.

–       التعلم التوسطي الخاص.

 

خلاصة

تعتمد البنائية مبدأ الانطلاق من العملية التعليمية وصولا إلى العملية التعلمية. ومنه فإنها تقوم بفردنة تجارب المتعلمين التعلمية وتسييقها، وتساعدهم على تطوير الإجراءات، والمهارات، والمواقف. كما أنها تأخذ بعين الاعتبار طرائقَ التعلم وأساليبَه لدى المتعلمين، وتركز على بناء المعرفة لا على إنتاجها، كما تنص على تحقيق الكفايات، والتفكير القائم على حل المشكلات، وتتطلب تفاوض المعنى (التعاقد) كما تتطلب التعبير عن المعرفة السابقة والمعرفة الجديدة، وتعزز المتعلمين وتوجههم بصرف النظر عن المحتوى المقدَّم بهم.[10]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

[1] .  تحيلنا هذه الدورة خماسية العناصر على المتعلم وإشراكه في بناء التعلمات.

[2] . Thirteen Ed Online (2004)

[3] . Christie (2005) ; Kruse (n.d)

[4] . Christie (2005) ; Honebein (1996)

[5] . Ibid

[6] . Grenoon Brooks & Brooks, 1999.

[7] .إحالة على المدرس، راجع: Christie (2005) .

[8] . Thirteen Ed Online, 2004 .

[9] .http://www.keele.ac.uk/depts./aa/landt/lt/talwt/materials/examplesofconstructivism.pdf

[10] . للتوسع، راجع: Christie (2005); Clarkson & Brook (n.d); Murphy Citing Jonassen, 1994

 


  • مراجع

 

 

 

  • Grabowski, B. (2004). Generative learning contributions to the design of instruction and learning. In D. H. Jonassen (Ed.), Handbook of research on educational communications and technology(3rded.), pp. 719-743. Mahwah, NJ: Lawrence Erlbaum Associates, Publishers.

 

  • Grennon Brooks, J., & Brooks, M. G. (1999). In search of understanding: The case for constructivist classrooms. Alexandria, VA: Association for Supervision and Curriculum Development.

 

  • Honebein, Peter. C. (1996). Seven goals for the design of constructivist learning environments. In Wilson, Brent. G. (Ed.). (1996) Constructivist learning environments: case studies in instructional design. Educational Technology Publications Englewood Cliffs, New Jersey

 

 

 

عبد السلام أوبو

كاتب وباحث أكاديمي من المغرب، أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي شعبة اللغة العربية. حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في لسانيات النص وتحليل الخطاب مِن جامعة ابن زهر - أكاديــر. باحث مشارك في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية الوطنية والدولية. مهتم بالخط العربي والتشكيل والزخرفة.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى