تربية وتعليم

منارة للمعرفة أم قاعة حفلات ؟

تداولت الوسائط الاجتماعية، ومنافسات كأس افريقيا على أشدها، مادة بالصور وتعليقا موجزا، ولكنه عميق جدا. أما الصور فهي من «مدارس» في قرى نائية يجلس فيها تلاميذ بملابس رثة، وراء صناديق لبيع الخضر وكأنها طاولات.

ويقول التعليق ما مضمونه: لا خير في أمة تحزن لهزيمة المنتخب، ولا تهتم بما آل إليه تعليم أبنائها؟ من الطبيعي الحزن لهزيمة مؤقتة، قد تتلوها «انتصارات» وهمية في كرة القدم، لكن عدم الاهتمام بمشكلة أبدية تتعلق بالوضعية المأساوية للتعليم ليس طبيعيا أبدا، بل إنه يدعو إلى إعادة التفكير في كيفيات تسيير الأمور وتدبيرها.


إن كبريات المشاكل التي يتخبط فيها الوضع العام يكمن في الاهتمام بالثانويات المؤقتة على حساب الأولويات الأبدية. لا نفاضل بين القطاعات الحيوية المختلفة. لكن أن تصرف ميزانيات هائلة وضخمة للرياضة على حساب الثقافة والتعليم والصحة، فليس لذلك من معنى سوى العناية بالترفيه على حساب التثقيف.


وحين يكون الترفيه بلا تثقيف فتلك هي الكارثة، ويفرض علينا هذا طرح سؤال: لماذا نجحنا في خلق جمهور رياضي، في الوقت الذي فشلنا فيه في خلق جمهور ثقافي؟ هل الرياضة أهم من الثقافة؟ من يتصور أن الثقافة خطر على الأنظمة، وأن الرياضة إلهاء للجماهير عن الاهتمام بالسياسة، واهم.

كما أن من يتوهم أن الثقافة لا علاقة لها بالتنمية، لا صلة له بمجتمع المعرفة، ولن يكون له أي موقع في العالم المعاصر، وإن كان في كل المسابقات الرياضية يحرز كل الكؤوس، ويتأهل لكل النهائيات.

لنقارن بين المكتبة والملعب. ولنتساءل عن جمهور فضاء كل منهما، وعلى المستويات كافة لنتبين أيهما أهم من الآخر؟ لا نقلل من جدوى أن توجد ملاعب للقرب، ولا أن يكون عندنا جمهور رياضي. لكن المعضلة هي أننا نعمل لفائدة فضاء ضد فضاء آخر، ونسعى لخلق جمهور بدل جمهور آخر، ونبذر الأموال الطائلة لفائدة جامعة كرة القدم، في الوقت الذي نقتل الجامعة الحقيقية ونفرغها من محتواها الذي يتأسس على خلق مجتمع المعرفة واقتصادها. ما جدوى بناء ملعب يلعب فيه الأطفال، وهم لا يجدون قاعة مناسبة للدرس؟ هذا هو السؤال الجوهري المتعلق بالأولويات.

نبذر الأموال الطائلة لفائدة جامعة كرة القدم، في الوقت الذي نقتل الجامعة الحقيقية ونفرغها من محتواها الذي يتأسس على خلق مجتمع المعرفة واقتصادها.

عمل الإخوة في الاتحاد المغربي للثقافات المحلية على إصدار مجلة ثقافية بمجهودات ذاتية في انتظار دعم وزارة الثقافة. حين أرادوا الحصول على إحدى قاعات المكتبة الوطنية لتقديم المجلة والتعريف بالاتحاد ومشروعه الثقافي وضمنه المجلة أمام جمهور ثقافي، كانت الموافقة على الطلب شريطة أداء ثمن كراء القاعة؟ وإكراما لهم طُلب منهم أداء الحد الأدنى، وهو ألف درهم.

كان الخبر صاعقا. فهل المكتبة الوطنية منارة للمعرفة، باعتبارها فضاء عموميا أم قاعة حفلات؟ من حق المكتبة الوطنية تدبير شؤونها المالية، والبحث عن موارد وما أكثر الإمكانات المتاحة لذلك، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك مع الجمعيات الثقافية التي ليس لها أي دخل إلا ما يمكن أن تمده بها وزارة الثقافة من دعم لأنشطتها ومنشوراتها.

كيف يعقل أن تقدم الوزارة دعما لجمعية وتطلب منها أداء مقابل استغلال إحدى قاعاتها؟ تساءلت عن مبررات هذا الإجراء، ولم أصل إلى أي نتيجة مقنعة. فضلت جمعية تقديم نشاطها الثقافي في قاعة للبحث العلمي بديلا عن المكتبة الوطنية استنكارا لهذا الإجراء قبل يومين من طلب الاتحاد.

يتمثل دور المكتبات الوطنية، في العالم أجمع، في جمع وثائق التراث الوطني، وتصنيفها وحفظها والمساهمة في التعريف بها وتقديمها إلى عموم المواطنين. وهي لا تكتفي بأن تكون فضاء للقراءة، ولكنها علاوة على ذلك، تعد منارة للبحث العلمي عن طريق تقديم منح للباحثين، وبرامج يضطلع بها الأكاديميون. كما أنها تقدم فعاليات وأنشطة ثقافية متنوعة مجانية، وصبحيات للأطفال.

يكفي أن نبحث في الأنشطة الثقافية التي تضطلع بها المكتبات الوطنية في فرنسا على سبيل المثال لنعاين من يهتم بخلق الجمهور الثقافي، ومن يسهم في تطوير الثقافة الوطنية.

عدت إلى مواقع العديد من المكتبات الوطنية فوقفت على ما تضطلع به خدمة لثقافتها الوطنية، في الوقت الذي لم يفتح لي أي رابط يتعلق بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية؟ فبرنامج المكتبة الوطنية الفرنسية، مثلا، حافل بفعاليات متعددة ومتنوعة وعلى طول السنة.

كما أن لها مواقع كثيرة، وتقدم خدمات عن بعد، وهي تعمل جاهدة على استرجاع جمهورها بسبب ما صارت تفرضه الوسائط الرقمية. ولقد أدى ترقيمها إلى الإقبال المتزايد على التعامل معها ليس فقط داخل فرنسا، ولكن في العالم أجمع.

ويمكن قول الشيء نفسه عن المكتبات الوطنية العالمية التي تبين أن مهمتها لا تتصل فقط بتجميع الكتب ووضعها رهن إشارة الباحثين، ولكن المساهمة في الإنتاج والتنشيط الثقافيين.

المكتبة الوطنية هي قلب الوطن، هي ذاكرته التاريخية. هي الفضاء العمومي الدال على خصوصيته باعتبارها منارة للمعرفة. فيها يتشكل الجمهور الثقافي المتصل بوطنه وثقافته، وليست قاعة حفلات. قاعات الحفلات تخلق الجمهور الشره الذي يأتي لتناول الطعام والتصوير مع المحتفلين.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى