تاريخ النبوة توراتيا – 6
- الحالة الدينية:
قبل الشروع فى سرد نماذج من سير أنبياء التوراة، وذلك حسب العصور التي شهدت دعوتهم، أجدني ملزماً بأن أطوف سريعاً حول الوضع و الحالة الدينية فى بلاد كنعان آنئذ ، وذلك بغية أن يكون القارئ ملماً _ ولو بقدر يسير _ بهذه الحالة بالشكل الذي يُمكنه من الوصول لفهم أعمق للصورة التي نحاول رسمها من خلال التوراة لسيرة أنبيائها كما روتها أسفارها.
وكبداية لا يمكننا إلا أن نقرر أن الحالة الدينية لم تكن بمنأً عن كل من الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فقد أثر ثلاثتهم فيها بالغ الأثر.
فعلى الصعيد السياسي تطالعنا التوراة أن كل من ملوك إسرائيل ويهوذا على السواء قد قاموا بدفع الجزية لكل من مملكتي بابل وآشور إتقاءً لويلات الاجتياح العسكري وضياع الملك وتبديد الثروة والوقوع فى ذلة الأسر.
وكان من شروط الأمبراطوريتن الفتيتين ، أن تٌنصب تماثيل لكل من الآلهة الأشورية والبابلية فى معبد يهوه لتعبد وتقدم لها النذور والذبائح إلى جانب إله إسرائيل.
وعلى الصعيد الاقتصادي تشير التوراة إلى أنه في زمن سليمان توطدت العلاقات التجارية مع الممالك المجاورة كمصر وبابل وفينيقيا وآشور ، ولم يكن التصلب الزائد تجاه عبادات تلك الأمم يصب في صالح الأعمال التجارية بل على العكس من ذلك.
كان لابد من إبداء الاحترام الواجب تجاه تلك العبادات بل وإكتساب بعض العادات منها فى سبيل تدفق الأرباح التجارية ، فها هي التوراة تنبؤُ أن آحاز ملك يهوذا ( القرن الثامن ق. م) خرج إلى دمشق كي يلتقي الملك الأشوري فرأى المذبح الذي في دمشق.
وهنا أنسحب وأترك لمؤلف التوراة مهمة سرد الواقعة فكتب ما نصه ” وأرسل الملك آحاز إلى أوريا الكاهن شبه المذبح وشكله حسب كل صناعته ، فبني أوريا الكاهن مذبحاً حسب كل ما أرسل الملك آحاز ” ( ملوك 2 16: 10 _11) هذا ما كان على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي.
وفيما يخص الوضع الاجتماعي ، تقدم لنا التوراة تصوراً _لا أراه يجافي المنطق _ عن شكل الحياة الاجتماعية وتأثيرها على الوضع الديني القائم في أنحاء بلاد كنعان، فقد كانت الزيجات المختلطة أمراً شائعاً بل و مألوفاً إلى حد بعيد.
فمؤلفوا ومحرروا سفر القضاة يكتبون عن هذا الأمر ما نصه ” فسكن بنوا إسرائيل فى وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين ، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساءً وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم ” ( قضاة 3_5 ).
وهذا النص يشكل معضلة تضاف إلى معضلات من قبيل النقاء العرقي اليهودي ، وكذلك إلى السؤال المعضل الملح من هو اليهودي؟! ، فإذا كان الجواب أن اليهودي هو المولود لأم يهودية ، فانطلاقاً من هذا النص لا يوجد من يستطع القول أنه يهودي بشكل يقيني في هذا العالم.
إذن كان هذا هو الوضع الاجتماعي السائد آنذاك على المستوى الشعبي ، فهل يوجد ثمة اختلافا ما فى موقف ملوك وقادة إسرائيل تجاه ذات الوضع ؟
لا يوجد على الإطلاق ثمة اختلاف كان هذا هو الوضع القائم بل والشائع على المستويين القيادي والشعبي قبل قيام المملكة وبعد قيامها وبعد انقسامها.
وها هي أقلام كٌتّاب التوراة تتناول “فِعال سليمان المزعجة” _حسب ما يصوره مدادهم _ يصفها النص التالي ” فذهب سليمان وراء عشتروت إلاهة الصيدونيين ومالكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الرجس في عيني يهوه.. وبني سليمان مرتفعة لرجس الموأبيين… ولملوك رجس بني عمون… وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن ” ( ملوك 1 :11-5 – 8 )
ولا يمكننا تجاهل محاولة الملكة إزابيل زوجة الملك آخاب ملك مملكة الشمال القضاء التام على أنبياء يهوه انتصاراً لمعبودها بعل وانبياءَه.
وما إزابيل سوى أنموذج لكل زوجات الملوك الأجنبيات اللواتي كن يستقدمن معهن معبوداتهن والتماثيل التي كانت تجسدها وشعائرها وكهنتها في آن.
وبعد أن بينا تداخل العلاقة بين الحالة الدينية وغيرها من الحالات بقي أن نطل بشيء من السرعة على الحالة الدينية بشكل يكون أكثر استقلالاً.
ففي زمن الملك آخاب كان يوجد فى المملكة الشمالية المعروفة بإسرائيل فى حينه ، أنبياء البعل الأربعمائة وخمسين وأنبياء السواري _ إشارة إلى أنبياء عشتروت _ الأربعمئة ، ففي مدينة السامرة العاصمة تم تشييد معبد فخم للإله بعل والكثير من المذابح المكرسة له ولعشتروت.
وكان لتلك الزيجات المختلطة عظيم الفضل في عدم شعور الإسرائيليين بأدنى عداء لتلك الآلهة ، بل على العكس تماماً كانوا ينظرون إليها نظرة إجلال لا تقل عن إجلالهم ليهوه ذاته ، وما كانوا يعتقدون بحال أن عبادة يهوه تمثل الحقيقة المطلقة ، أو كونها تمثل العبادة الصحيحة المثلى حصراً.
وغيرها من العبادات منكرة باطلة، وليس أدل على ذلك من هذا النص التوراتي الذي يحاول فيه القاضي “يفتاح” إقناع محدثه بالعدول عن فكرة احتلال جزء من أراضي بني إسرائيل ” والأن يهوه إله إسرائيل قد طرد الأموريين من أمام شعبه إسرائيل أفأنت تمتلكه ، أليس ما يملك أياه كموش إلهك انت تمتلك وجميع الذين طردهم يهوه إلهنا من أمامنا فأياهم نمتلك” ( قضاة 11-23-24 ).
كما أنه من الجدير بالإشارة؛ أن نذكر أن شاؤول أول الملوك أطلق على أحد أبنائه أسم ” أشبعل ” وذلك على شرف الإله بعل!
كما تورد التوراة قصة بكاء وحزن البعض من بني إسرائيل على أبواب أحد معابد البعل وذلك لإقدام أحد الإسرائيليين المتعصبين لعبادة يهوه بتحطيم تماثيل بعض الآلهة التي كانت مسئولة عن رعاية زروعهم وسقايتها الغيث.
واخيراً؛ نقرر أن الموقف المتشدد إزاء معبودات الشعوب الأخرى لم يكن يمثل سوى موقف المنتمين إلى ما كان يعرف “بزمر الأنبياء” وكانت علاقة هؤلاء بعبادة يهوه تتسم بالغيرة الشديدة ، وإذا عرفنا أن هؤلاء هم الذين تولوا كتابة النص التوراتي في وقت لاحق على الأحداث التي توردها التوراة ، بدا جلياً للسادة القراء أن إفراد يهوه بالعبادة راجع إلى البداية التوحيدية الخالصة لليهودية ، و كذلك إلى هذا الشعور بالغيرة المفرطة من قبل أنبياء وكهنة يهوه ، كما يذكر النص التوراتي ” إن يهوه إلهك إله غيور”
َبقي أن نسأل عن العصر الذي يعد مُفتتحاً لبسط سيرة الأنبياء ، ومع سيرة أي نبي ستكون نقطة البداية ، وهل تجيء رحلتنا متوافقة مع الترتيب الزمني فى التوراة ولماذا؟
هذه الأسئلة نجيب عنها في المقال المقبل إن شاء الله.
والله أعلم.
يتبع..