سلسلة: تاريخ النُّـبُـوَّة تَـوْراتِيـًّا

تـاريـخ النـُّبـوة تـوْراتـيـاً – 4 –

 

  • الإله _الأرض _الشعب

إنتهينا معاً من خرافة ما يُعرف بـ “التاريخ اليهودي” ، وبوأناها محلها المناسب من العلم والإنسانية ، أي _تلك الخرافة _، وبدا لنا جليًا مجافاتها ، لأبسط قواعد العلم والمنطق فضلاً عن الإنسانية.

كنت قد نويت أن أنفذ إلى لُب موضوعنا ” تاريخ النبوة توراتيًا” ، مفتتحاً أولى المراحل التاريخية للنبوة مصحوباً بنموذج تطبيقي من سيرة أحد الأنبياء، ومن خلال هذه السيرة وغيرها، تبدأ الأمور بالتكشف لحضراتكم شيئاً فشيئاً، إلا أنني تراجعت، مؤثراً أن أوفر على حضراتكم هذا الجهد، وأن أقدم تصوراً مجمعاً عن كل من “الإله” و”الأرض” و”الشعب” ومراحل وأسماء وأنواع الأنبياء؛ وسيكون عليكم فقط مراقبة مدى تطابق ما ذكرت مع الوقائع التي سنسردها لاحقاً، حتي إذا ما بسطنا تاريخهم بين يدي حضراتكم، يكون قد تكون لدى القارئ تصورٌ عامٌ عن كل ما ذكرت آنفاً.

  • أولاً الإله :

من السمات الجلية التي تتسم بها اليهودية، سمتيْ الغموض والتناقض الحاد الذي يعتري الكثير من مفاهيمها المحورية ، ومن أهم هذه المفاهيم المحورية “مفهوم الإله”، حيث يذهب عدد من نقاد التوراة إلى أنه على الرغم من أن اليهودية ديانة توصف بأنها توحيدية؛ إلا أنها بدأت كديانة تعددية شأنها فى ذلك شأن سائر الديانات فى محيطها الجغرافي فى كل من مصر وبابل وكنعان، ومن الحجج التي ساقوها لإثبات وجهة نظرهم، أن العهد القديم يتناقض مع السمة التوحيدية لليهودية، وذلك راجع إلى أن العهد القديم يتضمن ما يشير إلى وجود آلهة أخرى بخلاف يهوه لأنه أي_العهد القديم _ يستخدم صيغة الجمع فى الإشارة إلى الإله “إلوهيم” ومفردها ” إلوه”، كما أنهم يدللون على صحة وجهة نظرهم أيضاً بما يصفونه بالطبيعة “الجيولوجية التراكمية” التي تطبع اليهودية، إلا أنني أرى أنهم أقاموا نظريتهم على رأسها، لذلك سأبذل جهدي كي أُقيمها على قدميها، حيث أذهب إلى أن التوحيد فى اليهودية هو الأصل، وأن التعدد يمثل أستثناء من تلك القاعدة وذلك لأسباب ، منها ما يختص بالطبيعة البدوية وأثر البيئة والجغرافيا مثلاً فى تشكل هذه الديانة، فمن المعروف أن القبائل العبرانية هي قبائل بدو رحل ، تسكن الهضاب والصحاري وتتنقل بصفة مستمرة بحثاً عن الماء والكلأ لقطعان ماشيتها ، فمثل هذه الحياة لا تسمح إلا بتشكيل تصور بسيط عن الإله. كما أن طبيعة هذه الحياة لا تسمح بصياغة الأساطير عن الإله والكون وغيرهما، وهذا خلافاً للمجتمعات الحضرية المستقرة التي تتمتع بنظام سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، يسمح لها بتكوين تصور مركب للإله ، كثالوث طيبة ، أو أسطورة إيزيس وأوزوريس فى مصر ومثيلاتها فى كل من بابل وكنعان.

كما أننا لو عدنا إلى أنشودة دبورة فى سِفر القضاة، ، سنجد بساطة البداوة فى النص بادية للعيان فى وصف أفعال الإله، فهوي الرب الخارج من ساعير والصاعد من صحراء أدوم ، مزلزل جبال سيناء المنزل القطر من السماء، ومن المؤكد أن التوحيد جاء على ضوء هداية من وحي إلهي ونبوة ، وهناك قرينة لها دلالتها على الأصل التوحيدي لليهودية ، تتمثل فى هذا الإصرار العجيب من كهنة وأنبياء يهوه علي إفراده بالعبودية دون سواه من ألهة الأمم التي كانوا يحيون فى كنفها ، هذا الإصرار لا يفسر سوى على أن توحيد يهوه هو الأصل الذي يريدون أن تعود جموع الجماهير إليه ، هذا من جانب ومن جانب آخر فقد كان للألهة فى ذلك الزمان الزوجة والولد كبعل وآمون وغيرهما ، وهو مالم يكن يوماً ليهوه ، أما عن الطبيعية الجيولوجية التراكمية لليهودية فهو أيضاً مصطلح بات محل نظر _حسب تصوري_ إذ أذهب إلى أن اليهودية “ديانة ذات طبيعة” ارتصافية لا طبقية” ، فمن طبيعة الطبقات الجيولوجية أن تعزل الطبقة اللاحقة الطبقة السابقة وهو مالا يتفق مع طبيعة اليهودية التي يكون فيها اليهودي مُقراً بوحدانية ومفارقة يهوه لخلقه وبحلوله فى الأرض والشعب في الوقت ذاته ، هذا يدل على أن كلا من عقيدتيْ المفارقة والتجاوز والحلول والإتحاد ترتصفان جنباً إلى جنب ، نعم تسبق إحداهما الأخرى ، ولكن لا تعلوا إحدهما صاحبتها فتعزلها.

أما عن صفات يهوه فهي أيضاً صفات متناقضة منها ما هو إلهي متجاوزة للطبيعة والبشر والتاريخ، ومنها ما هو بشرى كما أننا نجده يتصف “بالقدرة الشاملة” على الخلق والتدمير لكنه يفتقر إلى” العلم الشامل” فيندم لأنه خلق الإنسان ، وعن أسمائه، فهي أسماء تختلف باختلاف مراحل التاريخ ففى مرحلة مبكرة كان يعرف باسم ” إيل ” ثم أشار إلى نفسه فى مرحلة تالية باسم “يهوه” ثم فى مرحلة الحروب عرف باسم “برب الجنود”. وفى أثناء مرحلة الأسر البابلي عرف باسم “قدوس إسرائيل”

  • ثانياً الأرض :

وعن الأرض التي كانت مسرحاً لأحداث تاريخ النبوة فى التوراة ، لم تكن سوى أرض كنعان فلسطين الحالية ؛ تلك الأرض التي لم تكن يوماً أرضاً بلا شعب لتصبح لجمع طارءٍ وطناً لشعب بلا أرض ، وهذه الشهادة لأرض كنعان شهدها رب إبرام الذي منح تلك الأرض بلا مبرر يُذكر له ولنسله من بعده إلى الأبد _حسب التوراة_ ومن يؤمنون بصحة ما ورد فيها من قصص ونبؤات ومن يروجون لهذه الدعاوى من أبناء جلدتنا لضآلة نفوسهم أو لجائزة يسعون حثيثاً لنيلها.

وليست هناك كلمة دالة على أن هذه الأرض كانت لشعب آخر بل لشعوب كانت تسكنها قبل أن توجد عائلة إبرام ذاتها من قول الرب لإبرام “وأعطى لك ولنسلك أرض غربتك” ( تك 17 : 8) إذن فإبرام ونسله غرباء طارئون على هذه الأرض الكنعانية_ الفلسطينية_ وكذلك ثمة شهادة توراتية أخرى بنسبة هذه الأرض إلى كل الشعوب القاطنة فيها ، ففي سفر الخروج يوصي الرب موسى قائلاً ” أحفظ ما أنا موصيك اليوم ها أنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين” (خر 34 : 11) ، يكفي أن نعرف أن الأرض التي أقامت بها هذه الجماعات الدينية الطارئة بشهادة توراتهم وكذلك بشهادة يهوه ذاته ، هي أرض” غربتهم” أي أنها غريبة عنهم وهم غرباء عنها وفيها، لا تعرفهم ولا يعرفونها فهي أرض تلك الشعوب التي ذكرها يهوه لموسى وماهم _تلك الشعوب _ سوى أسلاف الشعب الفلسطيني الصامد المرابط اليوم رغم كل الخيانات التاريخية والسياسية والثقافية القائمة منذ ما يزيد على قرنين من الزمان.

  • ثالثاً الشعب :

يذهب الكثير من المتخصصين إلى أن الجماعات التي خرجت مع موسى من مصر ثم تسللت إلى أرض كنعان لاحقاً، على مدى نصف قرن من الزمان ، لم تكن تؤلف شعباً واحداً يعود بجذوره إلى ذات الأصول ، فقد أثبت العلم استحالة عودة شعب بجذوره إلى جد واحد، فقد كانت تلك الجموع تتألف من عناصر مختلفة، تتألف على الأرجح من طبقات كانت تعاني القهر والتهميش منهم المصري والعبراني والإسرائيلي والآسيوي أي أنهم أخلاط ، لا يجمعهم جامع سوى المعاناة والتهميش وقسوة الظروف المعيشية والبحث عن أمل فى حياة أفضل.
وفى لوحة الفرعون مرنبتاح ما يشير إلى أن” العبيرو أو الخبيرو” ما هم إلا مجرد تجمع قبلي لا يؤلف شعباً ، قرينة على صحة هذه الفرضية التي أُشايعها بقوة.

وعقب استقرار هذه القبائل فى أرض كنعان تصور لنا التوراة صوراً من الزيجات والعلاقات المختلطة بين هذا التجمع القبلي والكنعانين أصحاب الأرض ، بل ومشاركة تلك الأخلاط من القبائل الكنعانيبن معبوداتهم وطقوسهم بل وكتاباتهم، فالعبرية لا تزيد عن كونها لهجة كنعانية تكتب بالخط المربع الكنعاني، فنطالع فى سفر الخروج ما نصه “وأقام إسرائيل في شطيم وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب”(خر 25 :1). كما أن راعوث جدة داوود الملك هي مؤآبية وليست إسرائيلية، ما يعني أن داوود ليس يهودياً خالصاً، كما أن داوود وخليفته سليمان تزوجا من بنات ملوك شعوب أخرى ووضعوا تماثيل آلهتهم فى الهيكل ، وهو ما ينسف نظرية النقاء العرقي الساذجة نسفاً.

تعرفنا معاً على الإله وصفاته وأسمائه ذاك الذي يدعوا أنبياء التوراة لعبادته، وكذلك على الأرض التي كانت ساحة للأحداث ولمن هي، وعلى الشعب المخاطب بتلك الدعوة وتكويناته.

بقي أن نتحدث عن الأنبياء وتقسيماتهم، وأنواعهم وتاريخهم ونظرة المجتمع إليهم، وهو ما سوف نتناوله فى المقال القادم إن شاء الله.

والله أعلم.

 

وائل سالم

وائل جمال سالم: شاعر و باحث وكاتب مصري، حاصل على الإجازة في الحقوق من جامعة القاهرة، متخصص في النقد الأدبي. مُهتم بالتاريخ والفلسفة وفلسفة ما بعد الحداثة، خاصة الفلسفات الهامشية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى