“الخلايا الجذعية” .. ثورة العلاج النابعة من داخل الجسد الإنساني
استأثرت تقنية العلاج باستخدام الخلايا الجذعية على اهتمام الباحثين والخبراء في السنوات الأخيرة، وكثر الحديث عنها في وسائل الإعلام، وشرعت عدد من المراكز الصحية في اقتراحها على المرضى في بعض الدول، وهناك من ذهب أبعد من ذلك، ووصفها بالحل الثوري لمجموعة من الاضطرابات الصحية التي تعرفها البشرية، وعلاجا لبعض الأمراض المستعصية.
لكن الأطباء والعلماء ما زالوا منقسمين بخصوص كفاءة هذه التقنية، وقدرتها على علاج عدد من الأمراض كما يروج لذلك، كما أن منظمة الصحة العالمية وأغلب الهيئات الصحية في الدول الكبرى، مثل هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)؛ ما زالت تعتبرها في مرحلة التجارب والأبحاث، ولم تعط حتى الآن موافقتها النهائية لاستخدامها كعلاج معتمد.
وأثبتت عدة أبحاث ودراسات أن مجموعة من المرضى الذين خضعوا للعلاج بالخلايا الجذعية تحسنت وضعيتهم، وبعضهم تماثل للشفاء، وظهرت فعالية العلاج خصوصا في حالات الإصابة بسرطانات الدم.
والخلايا الجذعية هي الخلايا الأم لكل أعضاء وأنسجة الجسم، وغالبا ما تكون بدائية وغير مكتملة الانقسام، وتوجد بالأساس في النخاع العظمي والحبل السري للطفل حديث الولادة، والسائل الأمنيوسي الذي يحيط بالجنين، وأيضا في الأنسجة الدهنية، ويمكن استغلال قدراتها على التطور، لتصبح خلايا متخصصة مثل خلايا الدم أو خلايا العضلات أو حتى خلايا الدماغ.
فما هي إذن حقيقة التداوي والعلاج بالخلايا الجذعية؟ وهل يمكن استغلالها في علاج بعض الأمراض المستعصية حاليا؟ وأين وصلت الأبحاث والتجارب في هذا المجال الذي يراهن عليه البعض ليحدث ثورة علاجية في المستقبل؟
- تاريخ المغالطات وبيع الوهم.. تحميل التقنية ما لا تحتمل
تسبب عدد من بائعي الوهم في الإساءة إلى التجارب والأبحاث التي وصل إليها العلاج بالخلايا الجذعية، فالفكرة في حد ذاتها ليست بالجديدة، وقد استعملت التقنية قبل أكثر من 50 عاما، وكانت معروفة باسم عملية زرع النخاع العظمي، واعتمد عليها جراحو الدم في مختلف مناطق العالم.
كما استعملت التقنية منذ ثمانينيات القرن الماضي لتحفيز الجلد على التجدد في بعض حالات الحروق الخطيرة، وساعدت أيضا في علاج العيون وخصوصا القرنية.
لكن تحميل التقنية ما لا تحتمل، والترويج أحيانا لمجموعة من المغالطات، وعدم نشر دراسات مستفيضة في المجال، فتح المجال أمام ظهور مشككين في قدرة هذه الخلايا على العلاج، وحتى ظهور محذرين من انعكاسات خطيرة لهذه الطريقة العلاجية.
- علاج أمراض الدم.. زراعة الخلايا الجذعية تسعف نصف مليون أوروبي
رغم التقدم الكبير الحاصل في الطب، فإنه يصعب تقبل وجود علاج واحد لجميع الأمراض، من السرطان والسكري إلى أمراض الزهايمر والباركنسون وحتى الشيخوخة، وهو ما دفع عالم الطب الياباني الحاصل على جائزة نوبل “شينيا ياماناكا” إلى التحذير من “وهم العلاج بالخلايا الجذعية”.
ولم يُخفِ العلماء تفاؤلهم بخصوص هذه التقنية، بفضل قدرة الخلايا الجذعية على الانقسام والتكاثر، لتصبح خلايا متخصصة قادرة على إعادة ترميم خلايا وأنسجة حيوية في جسم الإنسان، لكن هناك حاجة إلى مزيد من التجارب والأبحاث في هذا الإطار.
وتبقى زراعة الخلايا الجذعية لعلاج أمراض الدم من أكثر الممارسات التي انتشرت منذ سنوات، وأثبتت فعاليتها في علاج حالات مرضية مستعصية، وتُظهر بيانات بلدان الاتحاد الأوروبي أن نصف مليون مريض عولجوا عن طريق زرع الخلايا الجذعية حتى العام 2018.
- النخاع العظمي.. منجم الخلايا الجذعية لعلاج الأورام
تمتلك الخلايا الجذعية قدرة كبيرة على تجديد نفسها لتعطي أنواعا مختلفة من الخلايا المتخصصة التي يمكن استعمالها لتجديد أنسجة الجسم، ويعتبر النخاع العظمي منجما طبيعيا لهذه الخلايا، وهذا ما يفسر زرع النخاع العظمي مثلا لعلاج أمراض السرطان، ولا سيما في حالات سرطان الدم “اللوكيميا”.
وتعتمد هذه التقنية على استبدال نخاع العظم التالف أو المتضرر للشخص المصاب بخلايا جذعية سليمة يحصل عليها من متبرع. ومثل جميع عمليات زرع الأعضاء الأخرى، تزيد القرابة العائلية من نسبة تطابق الأنسجة، وبالتالي التقليل من إعطاء أدوية تثبيط أو كبح المناعة التي تعتبر الخلايا الجديدة جسما غريبا، وهو ما يساعد في نهاية المطاف في نجاح عملية الزرع وسرعة العلاج من الورم.
وهناك طريقة أخرى للعلاج، تعتمد على أخذ الخلايا الجذعية من النخاع العظمي للشخص نفسه المصاب بالسرطان، عن طريق عزل الخلايا السليمة أو تلك المعالجة، وتحفيزها على التكاثر. وتجري هذه الزراعة الذاتية عادة بعد تلقي العلاج الكيميائي لإزالة الخلايا الخبيثة الباقية في الجسم.
وتعتبر العملية ناجحة عندما تشرع الخلايا المزروعة بإنتاج خلايا جديدة في النخاع العظمي، وقد يتطلب الأمر عدة أشهر قبل الاستغناء تماما عن حقن الصفائح الدموية ونقل الدم، أما الجهاز المناعي للمريض فيسترجع عافيته في الغالب خلال 6 إلى 12 شهرا.
- خطر التسبب بالأورام السرطانية.. آثار الزرع الجانبية
لا تخلوا عمليات زرع الخلايا الجذعية من آثار سلبية وجانبية على جسم المريض، وقد تتطور في بعض الحالات إلى الوفاة، وهو ما يحذر منه دائما الأطباء والجراحون، فعمليات زرع الخلايا الجذعية تتطلب العمل في ظروف خاصة، وتوفر مختبرات إعداد الخلايا على أعلى درجات التعقيم والأمان الحيوي، لتفادي أخطار تلوثها بالأحياء الدقيقة والميكروبات المُمرضة.
ويمكن في حال وقوع أي تقصير أن تصاب الخلايا بالبكتيريا، وتنتقل بالتالي إلى جسم المريض، وهو ما قد يستلزم الخضوع لعلاج آخر قد يستمر لشهور للقضاء على هذا التلوث البكتيري، لكن بعض المرضى قد يعانون من التهابات شديدة لعدة سنوات.
ويتحكم أيضا في نجاح هذه العمليات نوع ومصدر الخلايا الجذعية، فمثلا تلك المكونة للدم في النخاع العظمي تنقسم لتعطي خلايا الدم الحمراء وخلايا الدم البيضاء والصفائح الدموية، ولا يمكنها في المقابل أن تكون خلايا الكبد أو الرئة أو المخ، ويجب بالتالي احترام هذا النسق للحصول على نتائج إيجابية في نهاية المطاف. كما أن عملية الزرع قد لا تكون بالطريقة الصحيحة، مما يتسبب في عدم وصول الخلايا الجذعية المحقونة إلى مكانها داخل النخاع العظمي.
ويحذر أيضا علماء الطب من استعمال الخلايا الجذعية الجنينية الذي يتحصل عليها مباشرة بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، فهي تتميز بسرعة انقسامها الكبيرة جدا، مما قد يتسبب في حال زراعتها في أورام سرطانية، بالإضافة إلى أن هذه الخلايا الجنينية ما زالت موضوع جدل كبير بخصوص استعمالها من الناحية الأخلاقية.
- خلايا الأجنة.. إزهاق روح بشرية في طور التشكل
ما زال الجدل محتدما في العالم حول استعمال الخلايا الجنينية التي يتحصل عليها بواسطة الحقن المجهري في المختبر، وذلك عند وصول البويضة إلى مرحلة “الكيسة الأريمية” في اليوم الخامس أو السادس من الإخصاب، وتكون عبارة عن كرة من الخلايا سريعة الانقسام، وتمتاز بالقدرة على إنتاج أي نوع آخر من الخلايا في الجسم.
وعلى عكس الخلايا البالغة التي يتحصل عليها من نخاع العظم لشخص بالغ، أو من الحبل السري للأطفال حديثي الولادة، يطرح استخدام الخلايا الجنينية إشكالا أخلاقيا على اعتبار هذه الخلايا أجنة بشرية، وهو ما يجعل استعمالها بمثابة إزهاق لروح بشرية في طور التشكل.
ويفرض هذا الوضع إخضاع هذا المجال لمراقبة شديدة من جهات أو مؤسسات مستقلة، وتوفر الدول والحكومات على موارد بشرية مؤهلة ومكونة في هذا المجال للإشراف على جميع الأبحاث المتعلقة بالخلايا الجذعية، لمنع أي تلاعب محتمل بالأجنة البشرية.
وتتركز الجهود حاليا على إنشاء بنوك حيوية تكون بمثابة مخزن للخلايا الجذعية خصوصا تلك المكوِّنة للدم، ويمكن العودة إلى استعمالها من قبل الشخص المريض في حالة الحاجة إليها أو الرغبة في التبرع بها، وهناك الآن عائلات وأولياء أمور يحتفظون بدم الحبل السري وتجميده إلى وقت الحاجة، خصوصا أن ذلك لا يشكل أي خطر على صحة الرضيع.
- إنتاج أول أذن بشرية بالعالم.. آمال النجاح
تُعلق آمال كبيرة على تقنيات العلاج الخلوي، فهي أشبه بالقفزة الكبيرة التي أحدثها تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في الصناعة، فتحفيز هذه الخلايا الجذعية يمكن حسب التجارب الأولية من الحصول مثلا على أعضاء بشرية فقدها الإنسان في مرحلة ما من حياته.
وقد تمكن فريق من الباحثين اليابانيين سنة 2016 من إنتاج أول أذن بشرية بالعالم من خلايا جذعية زرعت على ظهر فأر. وأخذت هذه الخلايا من جلد المريض وجرى تحفيزها في المختبر، قبل زرعها على تجويف بلاستيكي، وحقنها على ظهر الفأر لتأخذ في النهائية شكل الأذن.
وقبل ذلك في سنة 2011، استطاع جراحون في السويد زرع قصبة هوائية صناعية بعد تغطيتها بنسيج من الخلايا الجذعية أخذت من المريض، وأجريت بعدها عمليات مماثلة في فرنسا والولايات المتحدة تكللت بالنجاح.
- أبحاث الطب التجديدي.. آفاق رحبة ومستقبل مزهر
تبقى كل هذه الطرق قيد التجارب والأبحاث، ولم تحقق حتى الآن عمليات زرع الخلايا الجذعية في الأعضاء (الصلبة) نتائج جيدة، كتلك التي ظهرت في استعمال الخلايا الجذعية في علاج بعض أمراض الدم والمناعة، لكن الأبحاث تتواصل بخصوص هذا الطب التجديدي أو الترميمي الذي يفتح الباب أمام مصراعيه لمستقبل جديد لزراعة الأعضاء البشرية والأنسجة دون الحاجة إلى متبرع.
ويبقى العلاج بالخلايا الجذعية مجالا بحثيا واعدا، لكنه ما يزال بحاجة إلى مزيد من الأبحاث والتجارب، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال المتاجرة به وتقديمه كحل سحري للمرضى، ويوصي الخبراء بعدم ممارسة أي تقنيات علاجية بهذه الطريقة إلا في المراكز البحثية والمستشفيات الجامعية والحكومية، مع إخبار الخاضعين له بـأن النتائج غير مؤكدة دائما، وقد تختلف من شخص لآخر، كما أن هناك احتمالات لظهور أعراض جانبية، ليس على فقط على المدى القصير، وإنما أيضا على المديين المتوسط أو البعيد.