قبيلة “طسم وجديس”: بين الحقيقة والأسطورة
قراءة تحليلية حول التاريخ المندثر للعرب البائدة
تعد قبيلتا “طسم” و”جديس” من العرب العاربة البائدة، الذين طواهم الزمان قبل أن تخلدهم النصوص الإخبارية والبلدانية في مدونات التاريخ. وقد نسب بعض النسّابة والمؤرخين طسم وجديس إلى لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، ما يربطهم بأقوام مثل عاد وثمود والعماليق الذين عاشوا في العصور السحيقة لشبه الجزيرة العربية.
وفي ضوء ذلك، تُعد دراسة تاريخ هاتين القبيلتين مدخلا مهما لفهم البنية السكانية، والثقافية، والتحولات السياسية التي عرفتها جزيرة العرب قبل الميلاد.
1- النسب والهوية القبلية
بحسب المصادر التراثية، فـ”طسم” و”جديس” ينحدران من سلالة سام بن نوح، لكن مع تباين في سلسلة النسب:
- طسم وعمليق يُقال إنهما من أبناء لاوذ بن سام.
- جديس وثمود يُقال إنهما من أبناء إرم بن سام.
وقد جمع الإخباريون بين هذه القبائل ضمن ما يُعرف بالعرب البائدة، أي تلك الأقوام التي اندثرت قبل ظهور المدنيات العربية الكبرى مثل سبأ وحمير. وكان لهذه القبائل دور محوري في تشييد بعض المعالم والتحصينات، وتركوا وراءهم آثارا دالة على وجود متحضر نسبيا قياسا بزمنهم.
2- الموقع الجغرافي والحضاري
سكنت طسم وجديس منطقة اليمامة وسط شبه الجزيرة العربية، وهي منطقة كانت ذات أهمية استراتيجية واقتصادية، نظرا لكونها عقدة وصل بين الشمال والجنوب. وقد كان لطسم السيادة في البداية، بحسب ما تنقله الروايات، بينما عاشت جديس في نوع من التبعية السياسية والاجتماعية لهم، إلى أن نشب الصراع المشهور الذي غيّر المعادلة.
3- حادثة شموس والثورة على طسم
تجمع الروايات الإخبارية على أن طسم استبدوا بالحكم، لا سيما في عهد ملكهم “عمليق”، الذي سنَّ قانونا ظالما يقضي بأن تُساق كل فتاة بكر من جديس إليه ليفترعها قبل زفافها. وقد أدى هذا القانون إلى إذلال جديس وإلحاق العار بهم، حتى جاءت حادثة أخت زعيمهم “الأسود بن عفار“، واسمها “شموس”، فشكلت الشرارة لانطلاق الثورة.
فقام أبناء جديس بالتخطيط للانتقام، فحفروا سيوفهم في الرمال وأعدوا وليمة دعا إليها عمليق وبعض خواصه، وما إن حضروا حتى استل الجديسيون سيوفهم وقتلوهم جميعا، واستعادوا سيادتهم مؤقتا.
4- انتقام حمير ومأساة زرقاء اليمامة
هرب أحد رجال طسم ويدعى “رياح بن مرة” إلى ملك اليمن الحميري “حسان بن تبع”، مستنجدا به، فسار معه في حملة ضخمة إلى اليمامة. وتقول الرواية إن زرقاء اليمامة، المشهورة بقوة بصرها، رأت الجيش قادما من مسيرة ثلاثة أيام، لكن قومها لم يصدقوها، فكانت النتيجة كارثية: اجتاح الحميريون اليمامة وقتلوا عددا كبيرا من جديس، وقلعوا عيني زرقاء اليمامة لمعرفة سر حدة بصرها.
5- آثارهم ومعالمهم
رغم اندثار القبيلتين، إلا أن بعض المؤرخين والجغرافيين، أمثال ياقوت الحموي، أشاروا إلى بقاياهم العمرانية:
- طسم: بنوا حصن “المشقر” بين البحرين ونجران، وكان على تل مرتفع ويقابله حصن بني سدوس.
- جديس: لهم قصران بارزان:
- معنق في حجر اليمامة، أقام فيه لاحقا عبيد بن ثعلبة الحنفي.
- الشموس، وقد عد من أجمل القصور، وقيل فيه:
أبت شرفات في شموس ومعنقِ
لدى القَصر منّا أن تُضام أو تُضهدا
6- تحليل نقدي للرواية التاريخية
يشوب الروايات المتعلقة بطسم وجديس كثير من الأسطرة والمبالغة، وهو أمر معتاد في تراث العرب البائدين، الذين لا توجد نصوص مكتوبة عنهم من داخل ثقافتهم. ولذلك يجب التعامل مع هذه الأخبار باعتبارها مزيجا من الذاكرة الجمعية، والرمزية السياسية، والخرافة التي تعبّر عن صراعات حقيقية في سياقها، مثل صراع الطبقات، أو الهيمنة القبلية.
- خلاصة:
تُعد قصة طسم وجديس تجليا رمزيا لصراعات النفوذ والكرامة بين القبائل في فجر التاريخ العربي، وقد حفظها لنا الإخباريون في إطار درامي مشبع بالعبر، خصوصا حول ثنائية الظلم والانتقام. إن تحليل هذه الروايات لا يغني فقط في فهم التاريخ العربي القديم، بل يُسهم أيضا في تفكيك الأساطير المؤسسة للهوية الثقافية المبكرة للعرب.
مصادر ومراجع:
- ياقوت الحموي، معجم البلدان.
- الطبري، تاريخ الرسل والملوك.
- الهمداني، صفة جزيرة العرب.
- المسعودي، مروج الذهب.
- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.
- أحمد أمين، فجر الإسلام.
- عبد الله العلايلي، مقدمات لدراسة تاريخ العرب.