منهجا “بقراط” و”أسكليبياديس” في الطب
- منهج بقراط Hippocrates: الهندسة، والطبيعة، والطب السريري
تتمحور الفلسفة الكامنة وراء طب بقراط حول مفهوم هندسي عُرِفَ بمبرهنة فيتاغورس التي تنص على أن مجموع مربعي طولي ضلعي الزاوية في مثلث قائم الزاوية مساوٍ لمربع طول الوتَر.
وينطبق هذا المفهوم الهندسي في الطبيعة على عناصرَ أربعةٍ تشكل العالم المادي، وهي – كما سنكشف- الماء، والتراب، والهواء، والنار.
جاء بقراط في مملكة الطب بمفهوم يضارع تطبيق طبيعة مبرهنة فيتاغورس التي عدها بقراط الحجر الأساس لمنهجه في العلاج.
وقد افترض هذا الطبيب الرئيس أن جسم الإنسان مكون من أربعة سوائل فريدة أو أربعة أخلاط لا بد أن يتحقق لها التوازن مع بعضها البعض بشكل دقيق حتى يتمتع الجسم بصحة سوية، وهذه الأخلاط – كما سبقت الإشارة- هي الدم، والبلغم، والعصارة الصفراء، والعصارة السوداء.
ويعتقد بقراط نفسُه أنها شروط أربعة ونواميس جوهرية لصحة الإنسان في كافة الأحوال والمنازل: برودة، وحرارة، وجفافا، ورطوبة.
تتوقف صحة الإنسان كلُّها كما يزعم الطبيب الرئيس على توازن هذه العناصر المنفصلة في ظاهرها، والمتضافرة في جوهرها؛ ذلك أنه لا يمكن تصور وظيفة عنصر منها في غياب العناصر الثلاثة الأخرى. ويمكن أن ننعتَ المنهج الطبي البقراطي هذا بفلسفة العلاج الشمولي لعلة المرء بدلا من أعراضه المنفصلة فحسب.
وقد تبدو أساليب بقراط في تحقيق هذه الغاية أساليبَ سخيفةً في العصور القديمة، ولكن ثمة اليومَ أساليب عدة تستعمل في مجال الطب شأنها شأن الأساليب البقراطية.
ارتبطت جذور مصطلحات مثل الأعراض، والتشخيص بالطب البقراطي، الذي كان فعلا بالذات طبا سريريا في صورته البسيطة المبكرة.
وقد نظر بقراط إلى الطب على أنه فن مرتبط بالطبيعة بوصفها فنانا. ودون أن نذهب بعيدا، يعد التطبيب من منظوره تسهيل الطبيعة في صلاح البدن وعلاجه، وذلك بعمل العليل والطبيب جنبا إلى جنب بتزويد الطبيعة بكل ما تحتاجه لبلوغ الشفاء.
هذا التصور أثراه بقراط نفسُه بشكل بسيط وطريف حين قال: “يتألف فنُّ الطب من عناصرَ ثلاثةٍ، هي: العلة، والعليل، والطبيب. يخدم هذا الفنَّ فنانٌ هو الطبيبُ، وعلى العليل أن يكافح العلة بصحبة هذا الطبيب”.
شهد التراث البقراطي بدوره على أخلاقه الحميدة الخالدة التي لا تزال في المجال الطبي بشكل كبير بمثابة ميثاق، أو القَسَم المهني؛ والذي يتمثل في تصريحه بأن التطبيب أن يعالج الآسي مرضاه لبلوغ الأفضل بكل ما لديه من كفاءة وقدرات،
وكذا الحفاظ على أسرار المهنة وخصوصيات المرضى، إلى جانب تعليم النشء المعرفة الطبية. والأهم من ذلك كلِّه حرصه (أي الطبيب) على ألا يلحق أي ضرر بالمستفيدين من العلاج.
بعد وفاة بقراط، تعمقت اكتشافاتُه الطبيةُ المبكرة طويلا، ولقيتْ قَبولَ أعلامٍ كثيرين بعده، أمثال أسكليبياديس البيثيني Asclepiades of Bithynia (124 – 40 ق.م)؛ ذلك الطبيب الإغريقي الأقل شهرة، ولكن إليه يعود الفضل والريادة في ما يطلق عليه اليوم الطب الجزيئي، وقد تأتى له ذلك في الإطار الطبي الذي أسسه سابقُه.
- منهج أسكليبــياديس Asclepiades: الرأفة، واللطف، والجزيئات
بينما رفض أسكليبــياديس تعاليمَ عدة لبقراط مثل العناصر الأربعة، والأخلاط الأربعة، والفكرة القائلة بأن الطبيعة خير مجدٍ في عملية العلاج، … كانت المبادئ الفلسفية لمنهجه مستمدة من كتابات بقراط! وقد اعتمد أسكليبــياديس بدوره مبدأ “اجتناب الضرر” بوصفه جزءًا من الميثاق البقراطي المذكور فوظفه في ما بعد في منهجه المعين والطبيعي في علم الطب.
بالنظر إلى أعلام الطب عبر التاريخ، نجد أن أسكليبياديس من الأطباء الأوائل الذين شجعوا الأعشاب الطبية، والعلاج بالضوء، والتدليك، والتمارين الرياضية، وسنوضح هذه الأساليب في محاورها بالكتاب في حينها.
كما أن الرجلَ أولُ من استطاع أن يميز بين المرض الحاد والمرض المزمن، الذي يعالج من مبدأ “التعاطف، والاهتمام، والرأفة” كما أشار إلى ذلك كتابٌ حول حياته بعنوان “مبادئ“، والذي أدرج بوصفه جزءًا من كتابات بقراط.
كان للمدرسة الفكرية البقراطية تأثير عميق في حياة أسكليبــياديس التي صورت بوضوح تلك الأهمية الخاصة التي يوليها لجعل المرضى ينعمون بالحب والسعادة خلال عملية العلاج، كما جسدت الدافع الذي جعله يفند (يرفض) فرضية بقراط حول الطبيعة المجدية إثراءً لمزيد من المناهج العملية في الطب.
وبالرجوع إلى المشابهة أو الوصف الفني لبقراط حين عدَّ الطبيعة فنانا، نجد أسكليبــياديس يقيم مقام الطبيعة فنانا آخر هو الطبيب.
بعد وفاة أسكليبياديس، تراجع هذا الاسم إلى حد كبير من عالم الشهرة الطبي. ومهما يكن، استمر حضور ذلك الموروث الطبي بشكل مستمر في أعمال مختلفة لطلابه، وخير مثال على هذا الحضور كتاب “في الطب” “De Re Medica” لـــتيتوس أوفيديوس الصقيلي Titus Aufidius of Sicily، الذي لقي اهتماما كبيرا منذ تأليفه إلى القرنِ التاسعَ عشرَ على الرُّغم من توالي موجات من التفنيد والنقد الذي يوجه إليه من لدن معتقدات دينية وأخرى فلسفية إبان عصور ازدهاره.
لا تزال نظريات أسكليبياديس – بما فيها النظرية الذرية للمرض- مرتبطة بالطب الحديث في إدراك الأسقام وفهم العلل. ويرجح أن الرجل لم يكن ليعترف بذلك البتة، إلا أن منهجه في الطب يضارع (يشبه) وبشكل لافت النظر منهجَ بقراط، وكلا الرجلين يقر بالطبيعة الشمولية الفطرية الملازمة لصحةِ الإنسان والعلاجِ.
وقد لخص هذه العلاقةَ الدكتورُ كريستوس يابيجاكيس Christos Yapijakis في ورقة له، نشرت بالمجلة الدولية لفيزيولوجيا الأمراض السريرية والتجريبية، والمخدرات بقوله: “وضع الطبيب العميد أبقراط نواة الممارسة الطبية والأخلاق.
وقدَّم الألمعي أسكليبياديس مزيدا من التحسين الحقيقي الإنساني لفن الطب بطرائق لم يكن الإقرار بها إلا مؤخرا. ولذلك حان الوقت للاعتراف بأن الرجل بإسهاماته تلك يعد أبا الطب الجزيئي ليأخذ محله الصحيح بوصفه رائدا للطب بعد بقراط مؤسس الطب السريري“.