شبكة الأنترنت التي لم تر النور أبدا
تخيَّل أنكَ اكتشفتَ وجودَ مجموعة صغيرة من الناس اخترعوا طائرة نفاثة تعمل على أكمل وجه وقادرة على التحليق مسافاتٍ بعيدة بسرعة تصل إلى مئات الأميال في الساعة، قبل عقود من زمن الأخوان رايت”.
كتب بريان دير هذه الكلمات في كتابه “الوهج البرتقالي المألوف” The Friendly Orange Glow الذي يؤرِّخ فيه لنظام حاسبات لم يسمع أغلب الناس عنه قط، لكن ربما كان ينبغي لهم أن يسمعوا عنه.
لقد جمع هذا النظام -الذي حمل اسم “المنطق المبرمج لعمليات التعليم الأوتوماتيكية” Programmed Logic for Automated Teaching Operations، أو اختصارا “بلاتو” PLATO- الحالمين وعشاق الألعاب والمهندسين في شبكة واحدة في مطلع ستينيات القرن العشرين، قبل فترة طويلة جدًا من ظهور شبكة الإنترنت.
- لكن هل كان هذا المشروع الجماعي سابقًا لعصره بهذا القدر كما يزعم دير؟
إن القصة التي يرويها مثيرة ومألوفة، على حد سواء، في تاريخ التكنولوجيا: قصة مجموعة من الحالمين ذوي العزم، الذين يُحطِّمون الحواجز ليفسحوا المجال أمام تحقيق تقدم باهر.
وما يميِّز كتاب “الوهج البرتقالي المألوف” أن الرؤية التي يعتمد عليها نظام “بلاتو” فشلت في نهاية المطاف. فالنظام الوليد تعرض للتعتيم والنسيان من قِبل الجميع باستثناء مستخدميه المخلصين، وانتهى تمامًا بعد عدة سنوات.
وبحسب رواية دير، تعود أصول نظام “بلاتو” إلى مصدر غير متوقّع هو: بي. إف. سكينر”، رائد علم النفس السلوكي الشهير بما يسمى “غرفة الإشراط الاستثابي” (المعروفة أيضًا باسم “مربع سكينر“)، والتي تتعلّم فيها الحيوانات تلقِّي الطعام بعد أن تضغط على رافعة.
كان سكينر يؤمن أن البشر أيضًا يستجيبون لمثل هذا الإشراط، وسرعان ما تخيَّل “آلة تعليم” من شأنها أن تتيح للطلاب التعلم من خلال التقييم الفوري. وكان تصميمه عام 1954 -وهو أداة عبارة عن صندوق خشبي يحتوي على قرص دوار- يتيح للمستخدمين التنقل بين الأسئلة بالإيقاع المناسب لهم.
ولم يحظ هذا الابتكار قط بالشهرة، لكنه أرسى الأساس الفكري للحاسبات “المُعلمة”.
حصل هذا المفهوم على فرصة ثانية للحياة بعد بضع سنوات قليلة، عندما تسبب الذعر الناتج عن إطلاق الاتحاد السوفيتي للقمر الصناعي “سبوتنيك” في إشعال اهتمام متجدد بالتعليم ومجال أجهزة الحاسب الوليد في ذلك الحين.
وكما يكشف دير، ففي أواخر الخمسينيات، سعى “مختبر أنظمة التحكم” بجامعة إلينوي في (أوربانا-تشامبين) -وهي منشأة ذات تمويل عسكري كانت تسعى للخروج من ظلال العمل السري- إلى دمج التكنولوجيا الرقمية مع التعلّم. والتقط العلماء هناك، خاصة الفيزيائي تشالمرز شروين ورئيس المختبر دانيل ألبرت، فكرة “الكتاب الذي يقدم تقييمًا”.
وفي يونيو عام 1960، أطلق المختبر نظام “بلاتو” تحت إشراف المهندس صاحب التفكير التقدمي دونالد بيتزر، المعروف على نحو ودّي باسم “بيتز”.
وكانت أحد ابتكاراته الرئيسية محطة طرفية رسومية: إذ يشير اسم “الوهج البرتقالي المألوف” إلى لون شاشة عرض البلازما الغازية المسطحة الخاصة بها.
كان نظام “بلاتو” ثوريًا عن غير قصد في بعض الجوانب. واعتمد النظام الأوَّلي على حاسب “إلياك” ILLIAC، وهو “عملاق هائل” بلغ وزنه 5 أطنان، وكان يحتل معظم الغرفة. ولم يكن من الممكن، قبل عقود من ظهور أجهزة الحاسب الشخصية، أن تمتلئ الفصول الدراسية بأجهزة الحاسب، لذا كان الطلاب يعملون عند محطات طرفية متصلة بالحاسب المركزي.
وهكذا كان “بلاتو” نموذجًا مبكّرًا لنظام مشاركة الوقت والربط الشبكي. لكن في العاصمة واشنطن، حسبما يقول دير، كان شيئًا أكثر إثارة للاهتمام يحدث؛ فقد كانت إحدى منظمات الدفاع الأمريكية، وهي “وكالة مشاريع البحوث المتقدمة” ARPA تعمل بدورها على ربط أجهزة الحاسب في شبكة واحدة.
ورفض نظامهم النهائي -الذي حمل اسم “أربانت” ARPANET- نموذج الحاسب المركزي، وربط الحاسبات المضيفة المسماة “معالجات رسائل الواجهة” في شبكة واحدة.
وتوسَّع نظاما “أربانت” و”بلاتو” بالتوازي خلال سبعينيات القرن العشرين، لكن على نحو مستقل عن بعضهما، ويقول دير إن هذه كانت “إحدى المآسي الكبرى في تاريخ بلاتو”.
فعلى نحو لا يصدق، كانت محطة طرفية لنظام “بلاتو” توجد بجانب محطة طرفية لنظام “أربانت” في جامعة إلينوي، حيث كانت الشبكة الأخيرة تتوسع بالجامعات في جميع أنحاء البلاد.
ويقول دير إن النظامين كانا أشبه بـ”جهازي تليفزيون مضبوطين بشكل دائم على قناتين مختلفتين”. غير أن الفارق كان أعمق من ذلك، فلم يكن من أغراض “بلاتو” على الإطلاق التواصل مع أنظمة حاسبات أخرى، بل كانت وظيفته ربط المحطات الطرفية عبر خطوط الهاتف.
وهنا تكمن المشكلة الأساسية حسب أطروحة دير، فعلى عكس “أربانت”، لم يكن “بلاتو” مصممًا ليكون بذرة تنبت منها شجرة من الحاسبات المتصلة شبكيًا، وإنما كان مجرد فرع واحد نما في الاتجاه الخاطئ، ثم ذبل بعد ذلك.
لذا، على الرغم من نجاح نظام “بلاتو” في جذب اهتمام متزايد بسبب قدرته على ربط المستخدمين، فإن شركة “كونترول داتا كوربوريشن” Control Data Corporation صاحبة ترخيص النظام تمسكت بعناد بالأهداف التعليمية الأصلية، وظل مصممو “بلاتو” يركزون على “المحطات الطرفية الحمقاء” المتصلة بحاسب مركزي، وتلك هي النهاية المسدودة لأي تكنولوجيا رقمية.
وعلى النقيض من ذلك، اعتقد المهندسون في مختبر التكنولوجيا والابتكار المؤثر “زيروكس بارك” Xerox PARC في بالو ألتو بولاية كاليفورنيا، أن المستقبل لأجهزة الحاسب المكتبية. وبتأمل الماضي، يشير دير إلى أن رفض أنصار “بلاتو” للحوسبة الشخصية كان أمرًا يثير الجنون.
واقتبس عن ويليام نوريس -رئيس شركة “كونترول داتا كوربوريشن”- قوله: “لقد وجدنا أن انتشار أجهزة أبل وآي بي إم يمثل عائقًا أمام “بلاتو””.
ورغم صعوبة قبول رأي دير القائل بأن “بلاتو” كان طائرة نفاثة في زمن سابق لزمن “الأخوين رايت”، وهو الرأي الذي ذكرناه في البداية، فإن بحثه المذهل يجعل من هذا الكتاب إضافة قيمة لتاريخ علوم الحاسبات، وإن كان يعيبه اعتماده في بعض المواضع على اقتباسات موسَّعة، غير أن القصة تتألق من خلال حكاية رائعة عن الفُرص الضائعة والنقاط العمياء.
لقد سار نظام “بلاتو” بخطى متثاقلة، متجاهلًا “قطار الشحن القادم المعروف باسم ثورة الحواسيب الصغيرة” التي قضت على الحاسبات المركزية، ومحطاتها الطرفية الرسومية.
كذلك يأسف دير عن حق لفشل “آلات التعليم”: فالتعليم عبر الإنترنت اليوم يُركّز على نهج أقل تفاعلية، مثل الدورات المفتوحة المعروفة اختصارًا باسم MOOCs، البعيدة كل البعد عن رؤية سكينر القائمة على التقييم الفوري. وكتب دير يقول: “يبدو أن مجال التكنولوجيا التعليمية، الجاهل إلى حد كبير بتاريخه، محكوم عليه بتكرار نفسه للأبد”.
ولكن عندما استعدَّ مديرو شبكة “نوفانت” NovaNET (الاسم الجديد لنظام بلاتو)، في عام 2015، لوقف الشبكة إلى الأبد، لم يكن المستخدمون -الذين ظلوا ساهرين حتى وقت متأخر لرؤية اللحظات الأخيرة لها- يستخدمونها لأغراض تعليمية.
فقد كان هذا مجتمعًا إلكترونيًا قائمًا على الحنين إلى الماضي، وكان المستقبل الرقمي موجودًا دائمًا أمام أعينهم، يتألق بالوهج البرتقالي، فقط لو أن مبتكري “بلاتو” أقدموا على اقتناصه!
شارون واينبرجر، محرِّرة تنفيذية بمجلة “فورين بوليسي”، ومؤلفة كتاب “مجددو الحروب” Imagineers of War.
شكرا