منبرُنا

درس الخبيصة

يصدح صوت صديقي “محمد” بعد انصرافنا من المدرسة:
(خبيصة.. طيبة ورخيصة)
يعلو صوت “أبو صالح” الطيب -رحمه الله- على صوته، منادياً:
(مدلل يا ولد.. برازق والله الرازق)
يقاطعه صوت بياع الفلافل المتجول:
(جرب و دوق من عمك الحربوق)
قد نسمع صوت بياع أكواز الذرة المسلوقة إذا حلّ موسمها ينادي:
(بليلة بلبلوكي..)
كذلك يصيح بائع التوت في موسمه:
(كربج يا حلاتو)
كذلك لا أنسى صوت بائع المثلجات في أواخر الربيع:
(نبيل بوووظة.. گلاسه..)

…كان انصرافنا من “مدرسة الثورة الابتدائية للبنين” في حي “السكري” بحلب خلال عقد السبعينات من القرن المنصرم أكبر فرحة للتلاميذ، لا تعدلها إلا فرحة السجين بخروجه إلى عالم الحرية، فرغم قرب بيوتنا من المدرسة، يقضي معظمنا أكثر من نصف ساعة في اللعب واللهو والشراء من الباعة المتجولين، إلا صديقي محمد فلا وقت لديه ليهدره في اللهو واللعب.

كان يهرع إلى بيته المقابل للمدرسة ويجلب صينية خبيصة ملونة ليبيعها للتلاميذ، كان صديقي محمد ينافس بياع الخبيصة الآخر القادم من قرية “الأنصاري الغربي”، ذلك المراهق الضخم الذي احتكر طاقة باب المدرسة الشرقي أثناء الدوام، فيعمد محمد إلى تلوين الطبقة العليا من الخبيصة باللون الوردي الزاهي بإضافة محلول “القرمز” إلى نصف الطبخة. قبل أن يسكبه فوق النصف الأول غير الملون.

يضع بضع فرنكات في أماكن متفرقة فوق الطبقة الأولى الجامدة، ثم يسكب فوقها النصف الوردي ويضعها في الثلاجة حتى تجمد، يخرجها من المنزل ويجلس أمام مكتبة أبيه – رحمه الله – ويبدأ البيع، كان يعرف أماكن النقود فيأكل القطعة التي تحتوي عليها، يخرج قطعة النقد من فمه ويلوح بها ليراها المترددون في الشراء ويصيح:

(طلع له.. طلعلو يا حباب)

عندئذ يتهافت عليه التلاميذ طمعاً في الحصول على النقود، لكنهم وللأسف المر لا يحصلون على قرش واحد!..

أخبرني محمد فيما بعد، عندما أصبحنا كهولاً نسترجع ذكرياتنا المشتركة، أنه كان يضطر لأكل بقية الخبيصة إذا كسدت كيلا تفسد، إضافة لأكله القطع المحتوية على النقود كيلا تذهب لجيب غيره من التلاميذ، كذلك حكى لي عن سر تلوين الخبيصة وتزيينها بالقرفة وجوز الهند وتقطيعها قطعاً هندسية متساوية وما إلى ذلك…

لم يكن صديقي محمد الولد الوحيد الذي يتكسب من بيع الأكلات الشهية للتلاميذ، غالباً ما يكون الباعة الجوالون من الفتيان الأشداء والمراهقين ونادراً من الرجال البالغين، إلا منافس صديقي محمد القادم من قرية الأنصاري الغربي فهو بينَ بين: فقد كان فتىً شاباً ضخم الجثة، مفتول العضلات، مربوع القامة، أسمر البشرة، ذا وجه مدور قاسي الملامح ظالم عبوس..

وبهذه الصفات والمظهر المهيب لم يجرؤ أحد من الباعة الفتيان أن يقترب من فتحتي باب المدرسة الشرقي إلا في غيابه، فعندما نخرج من الصفوف إلى باحة المدرسة للاستراحة بين الدروس، كنا نجده قاعداً على كرسي صغير أمام فتحتي الجنزير في الباب الحديدي وبيده صينية الخبيصة، وبيده الثانية يجمع النقود من التلاميذ خلف الباب المقفل بقفل “جوزة” كبير وسلسلة غليظة من الحديد.

كم كنا نفرح عندما نجد بائعاً آخر بدَله – وهو أمر نادر الحدوث – يبيع غير حلواه، رغم ذلك كان الزحام على بضاعته على أشده خلف الباب لكثرة التلاميذ الجائعين، يصارعون بعضهم البعض و يتدافعون ويتجاذبون الأجساد والثياب للوصول إلى طاقة الفرج، يمد الواصل إليها يده من أول فتحة ليناول بائع الخبيصة النقود، بينما يتمسك بسلسلة الجنزير بيده الثانية، ثم يقرب وجهه من الفتحة الثانية ليرى البائع ويطلب منه الكمية التي يريد أن يشتريها ويستلمها منه بيده الممدودة.

وبطبعي ونظراً لبنية جسمي الهزيل وضعف مقدرتي على التدفيش والتناحر والشد والجذب والمناورة، فقد كنت لا أدخل في معركة شراء الخبيصة، أنتظر أحد زملائي الأقوياء وأطلب منه أن يشتري لي ما أريد، زميلي وصديقي “عارف” غالباً ما كان يشتري لي قطعة أو قطعتين بطريقهِ حتى لو لم أطلب منه، كنت أنتظر في بعض الأوقات كثيراً من الوقت عندما لا أجده، أنظر في الوجوه حتى أصادف غيره من الزملاء أو الأصدقاء يقوم بمهمة الشراء لي.

ذات مرة – لا زلتُ أذكرها جيداً – وقفتُ بعيداً عن الزحام أتصفح الوجوه لعل أحدها من معارفي، فلم ألقَ وجهاً أعرفه. كاد وقت الاستراحة أن ينتهي والجوع يحرّض عصافير بطني على الزقزقة، أشفقتُ على عصافير بطني الجائعة، فشجعتُ نفسي وتحاملتُ عليها وانخرطتُ في معمعة القتال.

أمسكتُ الفرنكين بيدي بقوة كي لا يسقطا شهيدان في أرض المعركة، وباليد الأخرى أصدُّ هجمات الزملاء الأعداء حتى وصلتُ إلى طاقة البيع، فزت بالمعركة لكن بعد نفاد طاقتي وتمزق صدريتي وتوسخ سروالي وحذائي، طبعاً حصلتُ على بعض الكدمات والخدوش كتذكار من المعركة النبيلة، وتذكار آخر من أمي عبارة عن عقاب رادع لا يُنسى.

لكنني انتصرت على زملائي الأعداء ومددتُ يدي بالنقود من أول فتحة، أمسكت الجنزير بيدي الثانية وقربتُ وجهي من ثاني فتحة، أعطيتُ البائع النقد والطلب الشفوي (الأوردر) و وقفت بكل ثبات واحترام أنتظر فخامته ليعطيني ما قبض ثمنه، لكن البائع الفخم الفظ استصغر شأني و تجاهلني، كان مشغولاً بتلبية أيادي من جاء بعدي وأزاحني عن الطاقة، يناولهم قطع الخبيصة دوني بعد أن يحصد النقود منهم كيفما شاء، ويتجنب تلبية طلبي كأنه لم يراني وما قبض مني قرش!.

مرَّ الوقت وأنا صابر على البياع حتى رنَّ جرس المدرسة معلناً انتهاء فترة الاستراحة، خفَّ الزحام خلفي وحولي تدريجياً إلى أن بقيت لوحدي على الباب أتوسل البائع الجاحد أن يعطيني حقي، نظرتُ إلى صينية الخبيصة التي نفدت قطعة إثرَ قطعة بأفواه غيري، فنفد صبري وطلبتُ منه أن يرد لي مالي المسلوب، غير أن البائع الغليظ اللئيم لم يستجب لطلبي، بل زجرني وأنكر أنه قبض مني فرنكين، صرخت في وجهه مؤكداً أنني ناولته عشرة قروش كاملة.

لكنه زعق في وجهي بكل وقاحة وكذبني واتهمني بالاحتيال، دخل التلاميذ إلى صفوف الدرس وتأخرت عن اللحاق بهم، بقيت واقفاً خلف الباب مصرّاً على موقفي، كذلك بقي البائع المغتصب على موقفه العنيد كعناد البغل، وزاد على ذلك أنه سبّني وقرّعني بكلمات بذيئة أخجل من لفظها، ثم هددني بأنه سيتسلق باب المدرسة ويقفز إلى الداخل ليعطيني درساً في أخلاق الشارع إضافة لدروسي المدرسية!

في الواقع ساورني الخوف من لهجته الحادة الغاضبة، لكني لم أتزحزح عن الباب وعن موقفي السامي إلا بعد أن رأيته يشرع بتسلق الباب، حينها تخاذلتُ ولذتُ بالفرار ركضاً إلى غرفة الدرس، هناك وبخني المعلم على تأخري وعاقبني، قبلتُ توبيخ المعلم وعقوبتي لأنني أستحق ذلك، لكنني لم أقبل الضيم ولم أستكن للظلم.

ظلت نار غضبي من حيف البائع تضطرم في صدري إلى نهاية حصة الدرس، حالما رنَّ جرس المدرسة معلناً الخروج للاستراحة التالية في الباحة، ركضتُ سريعاً إلى الباب الخارجي الشرقي أسابق غيري من التلاميذ، كافحت للوصول إلى فتحة البيع حتى وصلت وتمسكتُ بالجنزير بكل قوتي، مددتُ يدي بآخر فرنك أملكه وطلبتُ من بائع الخبيصة نفسه قطعة خبيصة حصلتُ عليها بعد جهد جهيد، حينذاك سحبتُ يدي قليلاً إلى الخلف، لم أخرجها من فتحة الباب لأتناولها، بل قذفتها بكل عزمي في وجه البائع الجائر وأنا أصرخ بفرح و زهو:

(خبيصة مخبصة.. بالأيادي ملغوَصة)

انفجرتْ قطعة الخبيصة اللزجة في وجه البائع اللص وتناثرت في أنحاء وجهه وشعر رأسه، فانفجر غيظاً وشتمني وتوعدني بعقاب غليظ عندما ننصرف من المدرسة، لكن هيهات أن يتذكر وجهي ويميزني من بين مئات الوجوه، فعدتُ إلى الباحة جذلاً مسروراً لا أبالي لتهديده ولا لخسارتي ثلاث فرنكات، في ذلك الوقت لو أن انتصاري في هذه المعركة كلفني خسارة كل مصروفي للعام الدراسي لما اكترثت.

فقد ثأرتُ أخيراً لكرامتي المهدورة على يدي البائع المغتصِب، وانتقمت لماء وجهي الذي أهرقه ظلماً وفجوراً..
وإلى اليوم ما زلت أشعر بالفخر والزهو والحبور، ولن تكتمل فرحتي إلا باسترداد كرامتنا المهدورة على يدي بائع الخبيصة الكبير.


في فيينا ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٢

الخبيصة: حلوى رخيصة مصنوعة من السميد المغلي بالماء المحلى بالسكر حتى النضج، يضاف لها منكهات قبل وبعد الطبخ.

ملغوَصة أو مبلغصة: كلمة عامية شعبية تعني ملعوب بها بالأيادي القذرة.

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى