رحل باولو فريري، معلم المقهورين، بعد سجل حافل بالعطاء في مجال التعليم والتربية. فالرجل كرس حياته لتغيير أوضاع الفقراء والمهمشين والمستضعفين، على مستوى العالم تغييرا جوهريا، جاعلا من التعليم والوعي النقدي مدخلا للتحرر من القهر.
استوعب هذا المفكر البرازيلي المغمور الدرس الخلدوني، بخصوص تبعية واقتداء المغلوب للغالب، فعمل على كسره، منطلقا من مقولة الروائي الروسي الكبير تولستوي “إن الحرية شرط كل تعليم حقيقي”، سواء أكان التحرير يخص المتعلم أم المعلم أم المجتمع بأكمله.
بدءا من ستينيات القرن الماضي، أصبح فريري اسما بارزا في الساحة الأكاديمية، بسبب تجربته العملية في حقل تعليم البالغين. وتحول تدريجيا إلى أسطورة، بفضل كتاباته التي تجاوزت تقنيات مجرد تدريب معرفة القراءة والكتابة، وصارت مرجعا لعلم أصول التربية في جميع أنحاء العالم.
أنتج الراحل فكرا أصيلا، سعى بواسطته إلى تغيير الواقع الاجتماعي، رافضا أن تكون نظرياته مجرد استنساخ كربوني لما أنتجه الآخرون، دون مراعاة للتاريخ والثقافة والبيئة، أي للسياق. وبذلك يكسر القاعدة التي تربط إنتاج الأفكار بالغرب، وتجعل الاستهلاك من نصيب بقية شعوب العالم.
بإعمال الفكر النقدي المتفاعل مع ظروف بلده القاسية “الاستغلال، الفقر، والتبعية…” بلور هذا التربوي الفذ، من خلال ممارسته في مجال التربية، أطروحة حول “فلسفة التربية والتعليم”، تقوم على تغيير دور التعليم في جدلية علاقته بالسلطة والمقهورين.
يرى هذا المعلم أن الحرية والكرامة محددان للوعي بالتعليم كشرط أساسي للتحرر، لذلك لا وجود عنده لتعليم محايد، فهو إما أداة للقهر أو محفزا للتحرير، وفي ذلك يقول: “التعليم عملية سياسية كما أن السياسة عملية تربوية”.
نحت فريري مجموعة من المفاهيم التأسيسية لأطروحته، نجد من جملتها: “ثقافة الصمت” التي يطرحها كتعبير عن القهر، الذي تجاوز البنية الاجتماعية والاقتصادية، ليصبح بنية ثقافية يتم فيها قبول الواقع القهري، مع التأرجح بين وهم التفاؤل وقهر التشاؤم، دون أي قدرة على تغيير الواقع أو السعي الجاد نحو المستقبل. بذلك، يكون الحل هو السعي لاستعارة أو استيراد الحلول دون أي فحص أو تحليل نقدي لسياقاتها التاريخية التي ظهرت وتبلورت فيها.
و”التعليم البنكي” الذي يمثل إحدى صور “إيديولوجية الاضطهاد”، إذ ينظر إلى المعرفة المقدمة للطلاب في المدارس كهبة يمنحها من يعدون أنفسهم ضليعين في المعرفة إلى من لا يعرفون شيئا، بحيث يتم إلصاق “الجهل المطبق” بالطلاب ومنح المعلمين “العلم المطلق” في سياسة مناقضة كليا لجوهر العملية التعلمية القائمة أساسا على البحث والاستقصاء غير المتناهين من كل الأطراف.
يبقى الحل، في نظر فريري، هو تحويل هذه الممارسات القهرية في نظام التعليم البنكي إلى تعليم من أجل إيجاد الوعي الناقد بناء على تعليم تحرري، يمر عبر الإيمان بالإنسان، وإيجاد الوعي الثقافي، والسعي نحو الحرية.
حرية فقدها الرجل عقب الانقلاب العسكري في البرازيل سنة 1964، ما أفضى إلى توقيف البرامج التربوية لفريري، وسجنه لمدة شهرين ونصف بتهمة نشر أفكار غريبة في البلد، تهدف إلى التخريب والتشجيع على الخيانة.
حرية فقدها الرجل عقب الانقلاب العسكري في البرازيل سنة 1964، ما أفضى إلى توقيف البرامج التربوية لفريري، وسجنه لمدة شهرين ونصف بتهمة نشر أفكار غريبة في البلد، تهدف إلى التخريب والتشجيع على الخيانة.
لعنة فقدان الحرية التي ناضل من أجلها الرجل، ما انفكت تلاحقه في الحل والترحال، فبعد حصوله على اللجوء السياسي إلى بوليفيا، ثم تعيينه مستشارا لوزير التربية والتعليم هناك، شهدت البلاد انقلابا عسكريا دفعه إلى المغادرة، ليعيش طيلة عقد ونصف من الزمن في المنفى متنقلا بين عدة دول منها الشيلي وتنزانيا وزامبيا وغينيا بيساو ونيكارجوا…
أتاحت حياة المنفى للرجل إمكانية العمل عام 1969 أستاذا زئرا في مركز الدراسات التربوية والتنمية التابع لجامعة هارفارد. وكانت هذه الفترة حدثا مهما في حياته، وفرصة مكنته من طرح أفكاره أمام جمهور عريض في الولايات المتحدة. كما مكنته من الاتصال بعديد من النقاد في مجال التربية من أمثال جونثان كوزول وإيفان إليش… وآخرين.
عاد فريري إلى البرازيل بعد زوال الحكم الدكتاتوري العسكري، قادما إليها من العاصمة السويسرية جنيف، حيث كان يشغل وظيفة مستشار خاص في مكتب التعليم في المجلس العالمي للكنائس. ليتولى عند عودته منصب الأستاذية في كلية التربية في الجامعة الكاثوليكية في ساو باولو، وانتهى به المطاف في عام 1989 مديرا عاما لشؤون التربية والتعليم في ساو باولو.
انتصر الرجل إلى “الحرية” و”النقد” و”الأنسنة”… في كل كتاباته، وقبل ذلك في ممارسته العملية الممتدة عقودا من الزمن، من خلال رفضه التعليم السلطوي المؤدي إلى تطويع التلاميذ وإخضاع الطلاب، وجعلهم جزءا لا يتجزأ من عملية القهر والإذلال والعبودية.
وانتصر في المقابل، للتعليم التحرري أو التعليم الحواري الواعي الذي يوفر لأفراده فرص نقد المجتمع، والوصول به إلى التحرر وقهر السلطويين.
كثيرا ما لخص الرجل نظرته عن الإنسان في مقارنة بسيطة بينه وبين النحل والعنكبوت بقوله: “إن أصغر نحلة في بناء مملكتها تحرج أكبر معماري في العالم، وإن أحقر عنكبوت في غزل شبكته، يحرج أكبر نساجة عرفها التاريخ.
لكن النحل والعنكبوت لا يتخيلان هندسة ما ينويان القيام به، فهما فاقدان لمتعة التخيل وضرورة المسافة الواعية مما يقدمان على عمله، وعلى العكس من ذلك، فالإنسان يمتلك ما لا يمتلكه الحيوان، وبذلك تفوق عليه. وخلاصة الفكرة، الإنسان يتمكن للإنسان “أنسنة العالم”، بينما لا يقدر الحيوان على “حيونة العالم””.
سيظل باولو فريري، الذي تحل ذكرى العشرين لرحيله هذا الشهر، واحدا من الأسماء المغمورة المؤمنة بإمكانيات الفعل/الإبداع خارج سلطوية ومركزية النسق الغربي المغلق. وعن ذلك المسار النوعي وتلك التجربة الفريدة،
قال التربوي الأمريكي باتريك كلارك في جملة دالة: “كان باولو فريري شعلة مضيئة في الظلام، ظلام الحتمية الجبرية الإيديولوجية، واليأس المنظم، إنه الضوء الذي لم يكره أحدا أو ينفي أحدا، ولم يكن نقدا غير عادل بإمكان أحد أن يخرسه”.
المزيد من المقالات عن باولو فريري: