أدب الطفل

رسوم كُتب الأطفال من منظورِ العدالة

هذه مراجعةٌ على سبيل الاحتفاء بكِتاب د. علي عاشور الجعفر: “عدالة الصورة في قصص الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة” الصادر في العام 2021 عن الجمعيّة الكويتيّة لتقدُّم الطفولة.

والاحتفاء هنا مردّه إلى أنّ حقل أدب الطفل في العالَم العربيّ يزداد ترسُّخاً مع الدراسات التي تجري حوله وعنه.

فحتّى اليوم ما زالت الدراسات النقديّة قليلة، اللّهمّ إلّا في الأطروحات الأكاديميّة التي في العادة تأخذ موضوعاتها ناحية الشأن الأكاديميّ الصرف، ونادراً ما تحمل معاني تهمّ الباحثين والمَعنيّين على الصعيد العامّ.

كِتاب الجعفر زاخر بالمعنى، وهو يشقّ سبيلاً ليس هيّناً؛ إذ يتناول أدبَ الأطفال من ناحية الصور. ويَذكر الباحث أنّ “خطاب الصورة في العالَم العربي لم يتطوَّر قياساً للخطاب النقدي اللّغوي، بسبب استمرار إنكار الصورة في الوعي العربي، وتركيز الكتابات على السند اللّغوي لا البصري”.

لذلك مثلاً نقول هذا كِتاب فلان ونقصد به المؤلِّف، ولا نُعرّفه بالرسّام، مع أنّ هذا الأخير يحمل “خطاباً خاصّاً” به، يتجاوز أحياناً خطاب اللّغة ليشكِّل هو القيمة الأصليّة للكِتاب. والباحث هنا، وعياً منه بهذه الإشكاليّة، جَعَلَ الصورة تنطق، وحاولَ أن ينقل ما تقوله. وفي مقصده كان أن يرى ما إذا كان ما تنطق به الصورة “عادلاً”.

  • المفهوم الغائم للعدالة

والعدالة هنا مفهوم غائم، إذ يُمكن للمرء أن يُجادِلَ الباحثَ حول ما إذا كان نقْلُ الرسّام ما تراه عَين القارئ بدقّة عادلاً، وكيف يستوي هذا التساؤل مع إشارة الباحث نفسه إلى أنّ “الصورة ليست استنساخاً حرفيّاً لواقعٍ مَرئي”؟ أو هل للرسّام أن ينقل ما تراه عَينه هو نفسه؟

وهذا مَطلبٌ للرسّامين أنفسهم الذين يرفضون النظرة إليهم، باعتبارهم مُترجِمين أو مُنفِّذين للنصّ؟ وبالتالي كيف لنا أن نُحاكم العدالة في رؤيةٍ خاصّة وشخصيّة؟.

مثل هذه الأسئلة لا تفوت صاحب الكِتاب فيشرح إشكاليّة عدالة الصورة سريعاً بأنّها تتمثّل في الإتقان والنوعيّة. ولئن كان هذا هو القصد، فيتساءل القارئ لماذا لم يجعل إتقان الصورة هو العنوان بدلاً من العدالة؟ ولكنْ لنتذكَّر أنّ الباحث يدرس الصورة في كُتب الأطفال التي تتكلّم على ذوي الاحتياجات الخاصّة تحديداً، وليس على كُتب الأطفال كلّها.

من هنا فإنّ مفهوم “العدالة” يَطرح نفسه بقوّة. والباحث لديه هاجس الاهتمام بهذه الفئة، نعرف ذلك من نِتاجاته السابقة حول موضوع ذوي الاحتياجات الخاصّة. ونعرف ذلك أيضاً من الإهداء الذي يُطالعنا به الكِتاب إلى “روّاد العمل التطوّعي في حقل الإعاقة” في الكويت.

إذ يَذكُرهم بالاسم أمواتاً وأحياء. ما يشير إلى موقفٍ وجدانيٍّ تجاه فئة المعوّقين تحديداً، مفاده أنّها فئةٌ محرومة ويطالب بالعدالة من أجلها.

ونشير هنا إلى تزايُد الاهتمام بأدب الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة مثلما لاحَظَ الباحث نفسه. إنّها ظاهرة لافتة في أدب الأطفال (وفي مجمل النِّتاج التربوي) وتستحقّ التوقُّف عندها.

فالدّارِس لأدب الأطفال يلحظ وجود ثقافة طفل جديدة تتصارع مع ماضيها المُتمثِّل بالريف والأجداد والتقاليد. ويتجسَّد التجديد بخروج الإناث، كما المعوّقين، كما الأطفال من الحيّز المُغلق الذي كانوا مسجونين فيه.

ولكن في المقابل ما لنا نفتقد في كُتب الأطفال العربيّة الحديثة الصراعات التي تتناول موضوعات من قبيل تفاعُل الثقافات والسلطات والأجيال. وفي مثل هذا السياق “الهانئ” أو “المُسالِم” الذي يتحاشى سَيف الرقابة السياسيّة، يبدو لنا أنّ أدبَ الأطفال وَجَدَ في تيمة الاحتياجات الخاصّة مدخلاً صالحاً لاختصار قضايا العدالة الاجتماعيّة.

“من لا صورة له لا قيمة له” يقول الجعفر. ومع أنّها عبارة تفتح على الكثير من الجدل الفلسفي، إلّا أنّها تشكِّل لبّ الكِتاب. ولا يُمكن للمرء إلّا أن يتّفق مع الباحث؛ فهذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصّة ظلَّت مُغيَّبة لسنواتٍ كثيرة، بالتوازي مع ما كان الناس يقومون به من إخفاءِ ذي الإعاقة عن العيون خجلاً منه أو شعوراً بالذنب أو خشية مَواقِف عدائيّة تجاهه.

والإظهار هنا هو فِعْلٌ مُقاوِم يروم العدالة ما بين فئات المُجتمع كلّها من حيث حقّها بالظهور الحقيقي والفعّال. كأنّ الكاتب يطلب منّا أن ننظر مباشرةً إلى الشخص المعوّق، لا أن نقرأ عنه؛ فهو يتساءل لماذا يَغْلِبُ البناءُ للمجهول على صور الأطفال ذوي الإعاقة الذهنيّة أو الحركيّة أو التوحُّد الطفولي؟

  • “عدالة الصورة”

إلى عشرة فصول ينقسم كتاب “عدالة الصورة”. الثلاثة الأولى وظيفتها التأطير النظري للموضوع، فتتضمَّن معلوماتٍ موسّعة تحليليّة حول الخطاب البصري، مفهوماً وبنيةً ولغةً، وحول الصورة، دلالةً ووظيفةً وبنيةً وطُرقَ تحليل، وحول المعوّقين وخصائص الإعاقات العقليّة والسمعيّة والبصريّة والحركيّة. وهذه الفصول يُمكن أن تشكِّل للأكاديميّين مادّةً تعليميّة مُفيدة، بسبب وضوح العرض وتوظيفه التربوي.

أمّا الفصول الأخرى فتتناول، من خلال نماذج قصصيّة، كيفيّة تناوُل الرسّامين لأصحاب الإعاقات المُختلفة مثل المتوحّدين، وذوي صعوبات التعلُّم، واضطّرابات النطق، والمكفوفين، والصمّ، والمُقعدين، وذوي الأمراض المُزمنة، وأخيراً ذوي الاختلاف المعوّق.

ولا شكّ أن القارئ سوف يشعر بثقل المهمّة التي تنسّمها الباحث. فبعض الإعاقات قد تعصى على التصوير، غير أنّه سيلمس كيف استطاع الجعفر بفضل دقّة ملاحظته وانطلاقه من معرفةٍ واسعة ومعمَّقة بمظاهر الإعاقات المُختلفة، أن يكشفَ لنا أين أَخطأ الرسّام وأين أصاب.

لنأخذ مثالاً على ذلك ذوي مُتلازمة داون، فكيف يُمكن للرسّام أن ينقل صورتهم بالإشارة إلى إعاقة ما، في الوقت الذي يميل الرسّامون فيه أحياناً إلى تصوير نماذج مختلفة وغير واقعيّة للأطفال من خارج موضوع الإعاقة؟ فقد يبدو الطفل مُختلفاً ولكنّه طبيعي بالنسبة إلى القارئ الصغير.

هنا يعطينا الباحث إشارات إلى الخصائص الجِسميّة لهؤلاء الأطفال: الانتفاخ البسيط تحت العينَين، شكل الأُذنَين، قِصَر اليدَين، ضخامة حجْم الرأس قياساً بباقي أعضاء الجسم. أي أنّ الرسّام يجب أن ينطلق من مؤشّراتٍ بصريّة محدَّدة لكي يكون أميناً على الشخصيّة أو “عادلاً”.

وبالطبع فإنّ منظور التقييم في الكِتاب ليس فنيّاً بحتاً، فهو لا يُفرّق بين رسْمٍ يدوي أو رسم على الكمبيوتر، أو بين رسومٍ باهتة الألوان وبين رسوم أصيلة، أو بين رسوم أبدعها رسّامون أجانب أو عرب، وإنّما يصبّ اهتمامه على الرسوم التي جَمَعَها.

ولكنّ المُثير في النتائج التي توصَّل إليها الباحث، أنّ الرسوم التي توافقت مع معايير الباحث (التربويّة أساساً) كانت في الأغلب الأعمّ لرسّامين معروفين في أوساط أدب الأطفال، ما يُشير بشكل غير مباشر إلى أنّ الرسْم التوضيحي في كُتب الأطفال لا تكفيه الجماليّة، وإنّما عليه أن يُراعي الوظيفة التربويّة وهو ما يجعله فئة خاصّة ومتميّزة عن فئة الرسْم الفنّي الحرّ.

وفي المُقارَبة التي يعتمدها الباحث، ليس الشكل مُحدِّداً وحيداً للتقييم، بل إنّ الوضعيّة التي تتّخذها الشخصيّات والخلفيّة المكانيّة كلّها تشكِّل زوايا نظرٍ مهمّة. فعن قصّة “أمّي ترى ولا ترى”، يشير الجعفر إلى أنّها تبيِّنُ “الكيفيّة التي تعيش فيها أسرة كفيفة، وكيفيّة قيامِ الأمِّ بالمهامَّ البيتيّة لأبنائها.

اللّوحة توضِّح لنا بامتياز قدرة الأمّ الكفيفة على القيام بأكثر من مهمّة في الوقت نفسه، فهي تقوم بإعداد الطعام بالمطبخ، وتتّخذ زاويةً أخرى من المطبخ للقيام بعمليّة كَيِّ الملابس. مثل هذه اللّوحة قد تكون مُستَغْرَبَةً في البيوت، أو عند المُبصِرين، حيث إنّ كَيَّ الملابس يكون في غرفة غير المطبخ حتّى لا تلتصق رائحة الطعام بالملابس التي تُكْوَى.

ولا نستطيع أن نجدَ عُذراً للرسّام (الذي لم يذكر الباحث اسمه!) في هذه اللّوحة إلّا كون الأُسرة كفيفة، وللقيام بأكثر من مهمّة، ومُراقبة الطعام الذي يعتمد على حاسّة الشمّ، فإنّ من الضروري القيام بالكَيّ في منطقة قريبة من المطبخ، أو داخل المطبخ إنْ سمحت المساحة بذلك”.

ولأنّ العدالةَ هاجسٌ يتحكّم بنظرة الباحث، فإنّه ينحو صَوب إعطاء الحقّ لأصحابه وعدم المُساوَمة على النظرة النقديّة العادلة. فنراه يُشير، ليس إلى الحالات الناجحة فقط، بل يذكر كذلك، وبالإسم، الحالات التي لم تكُن موفَّقة.

وهو موقف نقديّ شجاع في ثقافتنا العربيّة، حيث يمتنع الباحثون عادةً عن النواحي السلبيّة لحساباتٍ شخصيّة أو ابتعاداً عن إثارة الحساسيّات. ولكن ينبغي هنا أن نشير إلى أنّ المَوقف النقدي للباحث ارتدى صبغةً ودودة تُترجِم المعنى المباشر لفكرة النقد الإيجابي.

الكِتاب يُقرأ من قِبَلِ المُختصّين، كما من قِبَلِ المُهتمّين والمَعنيّين والعاملين في المجال. كلّ فئة تجد فيه ما يفيد لتطوير حقل أدب الأطفال. وهو كِتاب يُقرأ بتؤدة وتمعُّن في الفصول الأولى، حيث يتمّ تناوُل المُصطلحات والمفاهيم بشكلٍ علميّ ورصين.

ويُقرأ بشغفٍ في الفصول التطبيقيّة، إذ يشعر القارئ أنّه يلبس نظّارات الباحث ويرى بعينَيْه، وفي أحيانٍ كثيرة تُدهشه تلك الملاحظات التي لم تكُن لتسترعي انتباهه من دونها.

في الِكتاب من شغف المعرفة وتواضُع الباحث، ما يجعل قراءته جامِعة للفائدة والمتعة في آن. ولكنّ القارئ يشعر أنّه كان بودّه لو لم تنتهِ الفصول بتلك السرعة التي انتهت فيها. فالخلاصات كان من المناسب إعطاؤها المزيد من المساحة، والخاتمة، كان بإمكانها أن تتوسّع في عرْضِ الملاحظات التي تجمَّعت ووضْعها في سياقٍ جديد.

كما يُمكن للمختصِّ أن يطلب النظر في المُعطيات انطلاقاً من متغيّرات معيّنة، كأن تكون الإشارة إلى الرسوم بحسب الجندر، أو بحسب البلدان أو بحسب الرصيد الفنّي للرسّام أو بحسب زمن النشر. ولكن، وبسبب جدّة الموضوع، يكفي الباحث فضل أنّه شقَّ طريقاً كان وعراً.

وربّما أنّه يجدر بالباحثين المُقبلين الإسهام في تعبيد الطريق وتوسيعه ووضْع الأرصفة على جوانبه، وبالطبع عليهم ألّا ينسوا الأشجار الخضراء المتمايلة على الجانبَيْن، لأنّ حقل أدب الأطفال في الدُّول العربيّة تتزايد نسائمُه مع كلّ كِتابٍ جديد يصدر.

 د- فادية حطيط: أستاذة أدب الأطفال في كليّة التربيّة – الجامعة اللّبنانيّة

مؤسسة الفكر العربي

فادية حطيط

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى