كورونا.. مُساءلة لإيديولوجيا التقدم
»وباء كورونا فيروس، خلخلَ الإيديولوجيا التقدّميّة للمجتمعات الحديثة و قُدرتها المزعومة على حلّ كلّ المشاكل«.
ميشيل مافيزولي
في مقال تحت عنوان : “أزمة كورونا فيروس أو العودة العظمى للتراجيديا”، يُنبِّهنا عالِم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيزولي إلى فكرة مفادها: إنّ كورونا فيروس ساهم في الكشف عن إيديولوجية فكرة التقدّم التي جاءت بها الحداثة الغربية. أيْ قدرة الحضارة الغربية الحديثة بعلميّتها و عقلانيّتها على حلّ كلّ المشاكل المطروحة.
مستشهداً في ذلك بعبارة ماركس الشهيرة “لا يطرح البشر مِن المشاكل إلاّ تلك التي يقدرون على حلّها“. هل هذا قول سوسيولوجي؟ لنسلم بحداثية فكرة ماركس. لكن ماركس في هذا المقام كان دقيقاً عندما قال “لا يطرح البشر“، لهذا يحق لنا أنْ نتساءل هل كورونا فيروس صناعة بشرية؟ ثمّ لايزال الأمر مبكّراً شيئاً ما للتسليم بهذا الحُكم المسبق أو الانطباع. فالأبحاث المتعلّقة بالوباء لا زالت جارية، و يُمكن أنْ يتغيّر كلّ شيء في أيّة لحظة.
لذلك ينبغي التمييز هنا بين شيئين أساسيين: الحداثة و إيديولوجيا التقدُّم. إنّ الحداثة هي فاعلية قبل أيّ شيء آخر، أيْ أنها تقوم على فكرة الخلق و الإبداع. بمعنى قدرة الإنسان على خلق ذاته بذاته ككائن تاريخي خلاّق، قادر على حلّ مشاكله مع ذاته و غيره، مع الطبيعة و العالم. أمّا إيديولوجيا التقدّم فهي تقوم على افتراض السيطرة على الطبيعة من ناحية و السيطرة على الإنسان الآخر(الأقل تقدّماً) من ناحية ثانية. و هذا هو الجانب السلبي من الحداثة، هو إيديولوجيّتها: ميثولوجيا التفوّق بما هي تجسيد لإرادة القوّة و التغلّب.
هذا هو التمييز الذي غفله مافيزولي و الحالة هذه. يعود ذلك لسبب بسيط، يرجع ذلك إلى زاوية النظر التي يتبناها عالِمنا، يتعلق الأمر بمنظور ما بعد الحداثة. الحال أنّ سوسيولوجي ما بعد الحداثة، قام بتوظيف واقعة كورونا فيروس، و إنْ لم تختمر بعد كواقعة اجتماعية أو كفعل اجتماعي، لضرب منظومة الحداثة كما تتصورها تيارات ما بعد الحداثة، دفاعاً عن ما بعد الحداثة. و بالتالي دفاعاً عن سوسيولوجيا ما بعد الحقيقة الموضوعية، و إطلاق العنان للأحاسيس و الانفعالات العاطفية و الوجدانية ضداً في كل الأشكال العقلانية التي تقوم عليها الحداثة. ربما لم يخطئ عالما الاجتماع جيرالد برونير و إتيين جيان عندما نعتاه بالميتافيزيقي.
لهذا لا ينبغي أنْ تعمي هذه الإيديولوجيا بصيرتنا، و تغشينا عن فعّالية العِلم، و إلاّ سنسقط بدورنا في العماء الإيديولوجي. صحيح أنّ وباء كورونا يدعونا اليوم أكثر مما مضى إلى مساءلتنا كبشر بعامّة، و مساءلة فكرة التقدّم التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة(المتعالقة بالحداثة) بخاصّة، فضلاً عن مساءلة فكرة التقدّم الفائق التي تقوم عليها المجتمعات ما فوق الحديثة(المتعالقة بالحداثة الفائقة) بوصفها ميثولوجيا الإنسان الحديث و ما فوق الحديث.
لكن ذلك لا يجب أنْ يُسقطنا في الخلط بين الحداثة (و ما فوقها) كسيرورة تاريخية فاعلة و فعّالة، و ما تقوم عليه مِن إيديولوجيا تقدّميّة مزعومة تقول بتغلّب الإنسان على أخيه الإنسان من جهة أولى، و تغلّبه على الطبيعة التي يُعتبر مِنها مِن جهة ثانية. فما يُحسب لمافيزولي في هذا المقام هو تنبيهنا لإيديولوجيا التقدُّم. أمّا اختزاله للحداثة في إيديولوجيتها أو ميثولوجيّتها، فهو لا يغدو أنْ يكون ضرباً من ضروب الإيديولوجيا أو الميثولوجيا الما- بعد حداثية، و لو كان باسم علمٍ خصب كما هو شأن عِلم الاجتماع.
إنّ علاج كورونا مسألة وقت لا أكثر. لكنّ الموت الوبائي هو الآخر أضحى مسألة وقت. كلّ شيء يعتمد على الزمن، لم تعد المسألة هي مسألة اكتشاف الحل العلمي للوباء المعني فحسب، بل غدت المسألة الأساسية هي متى سيحلّ هذا المشكل: كيف السبيل إلى مجاوزة هذه الجائحة بأقل الخسائر البشرية الممكنة و في أقرب وقت ممكن؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه اليوم. هنا بالضبط يكمن دور السياسات الوبائية و تدبير المخاطر الممكنة، في كلّ دولة، على نحو ديموقراطي و عقلاني، مع فتح إمكانية بزوغ و انفجار فاعلين جدد، قادرين على المساهمة في مجاوزة الوضع الوبائي الراهن.
عثمان لكْعَشْمِي – كاتب مغربي