الطفل العربي والفضاء الافتراضي
طلبت معلمة الروض من أم طفلة صغيرة حركية، شراء لوحة إلكترونية لتحملها معها إلى الروض لتنشغل بها لأنها تزعجها بحركاتها، أثناء تقديم دروسها لمن هم أكبر منها، مدعية أنها «مشاغبة».
وبما أن الهاتف المحمول المتصل بالفضاء الشبكي صار متوفرا في كل بيت، صار الطفل ذو العامين من عمره قادرا على تحريك أصبعه الصغير بين القطع الموسيقية والرسوم المتحركة الأثيرة لديه، ويلح أن يحتفظ بالهاتف الذي يُسمح له به أحيانا اتقاء لصراخه، والذي صار بالنسبة إليه ما كانت أمهاتنا تسميها «اللهاية»، أو «السكاتة».
أصبح «الإلهاء» و»الإسكات» لأطفالنا متصلا بالهاتف أو اللوحة الإلكترونية، وقد كان بالنسبة إلينا كسرة خبز، أو قطعة حلوى، بل إن الإلهاء تعدى الأطفال إلى التلاميذ والطلبة، الذين صاروا بدورهم مغرقين في الفضاء الافتراضي لمتابعة ما يزخر به من مسليات ومرفهات. وقلما تجدهم يبحثون عما يعمق معارفهم بدروسهم، أو ينمي مهاراتهم، أو يطور مجالات دراستهم.
كنا نخرج للعب الكرة، أو الكرات الزجاجية أو الخذروف، وما شابه. وكنا نتسلى بشراء القصص العاطفية والبوليسية والرسوم المتحركة بالفرنسية. وكنا نعتبر هذه التسلية تقوية للغتنا، وتوسيعا لدائرة خيالنا. وكلما تدرجنا في العمر انتقلنا إلى قراءات متعددة للشعر والقصة والرواية والكتب العلمية. وكانت تتكون لدينا نماذج من الكتاب والشعراء والعلماء والسياسيين من مختلف الثقافات.
ساهم تغير الوسائط المتفاعلة، وخلق الفضاء الافتراضي في خلق جيل جديد، يحرك أصابعه، ويتابع بعينيه، أو يلصق سماعتين بأذنيه، وهو يقوم بذلك في أي وقت لا يُفرض فيه عليه القيام بشيء. إنه وهو يحرك كل هذه الحواس، ثابت في مكانه لا يتحرك، ولا يقوم بأي مجهود عضلي، لذلك لا غرابة في أن نجد البدانة، والنظارات من أهم السمات التي يتميز بها هذا الجيل.
كنا عندما نرى طفلا يضع نظارات نشفق عليه، ونعتبر ضعف البصر لا يقل إعاقة عن العرج، أو حدبة الظهر، أو العور.
هذا الجيل الذي فتح عينيه على الواقع الافتراضي، والذي صار مدمنا عليه، دون أن يتلقى أي تربية تتلاءم مع استعمال الوسائط الجديدة، لا يمكنه إلا أن يتخذ نموذجه الحياتي مما يثير الانتباه، ويستقطب أكبر عدد من المعجبين.
ولما كان هذا النموذج «تافها» في العادة، ولاسيما حين يكون التداول بين فئات عمرية متعددة، يصبح ذلك النموذج المفضل، الذي يعمل الكثيرون على تقليده، والتشبه به.
وصورة حفار الآبار المغربي التي قدمت حتى في الصحافة العالمية خير مثال على ذلك. لقد صار الفضاء الافتراضي، ولاسيما بعد هيمنة التفاعلية والمشاركة، يتيح توزيع «التفاهة»، و»الرداءة» التي تميل إليها النفوس أكثر من غيرها.
لا غرو في أننا نجد نماذج إيجابية مختلفة، ومناقضة لما يروج في وسائط التواصل الاجتماعي: مثل الطفلة التي تتكلم بعربية فصيحة وجميلة، وتعتز بذلك، أو الأطفال الذين يصلون بالمسلمين التراويح، أو الذين يفوزون بجوائز في ترتيل القرآن الكريم أو حفظه، لكن هذه النماذج صعبة التقليد، وغير قابلة لأن تكون أمثلة يقتدى بها.
لسبب بسيط هو أن ما وصلت إليه ما كان ليتحقق لولا المجهودات الكبيرة التي بذلت في تشكيلها من لدن الأبوين خارج المتداول وما تفرضه الوسائط الجديدة.
وبما أن أغلبية الآباء لأسباب متعددة ليست عندهم الإمكانيات المعرفية أو المادية، بل حتى الزمنية لانشغالاتهم الكثيرة التي تسمح لهم بمتابعة أبنائهم، وتبصيرهم بمخاطر الفضاء الافتراضي وتساعدهم على الاستفادة منه ضمن الحدود المطلوبة، كان تقديم الهاتف أو اللوحة الإلكترونية إليهم بهدف الإلهاء أو الإسكات.
ينجم عن هذا الإسكات عمل الطفل على تقليد «الناجحين» في الفضاء الافتراضي دون أي موهبة أو مجهود، فيبدأ في تصوير نفسه مقلدا، أو مقدما حركات لا أساس لها، ومتوهما أنه بذلك يمكن أن «تصادفه» فرصة للنجاح، وتعطيه إمكانية لتحقيق ذاته، ما دام عاجزا عن تحقيقها من خلال إقدامه على التحصيل، وتطوير قدراته ومهاراته المختلفة.
صارت النماذج الحياتية المقبولة، التي فرضها الفضاء الشبكي تتلخص في بعدين اثنين: الشهرة والكسب المادي ولو دون بذل أي جهد ينم عن تميز أو اجتهاد. وبات هذا الهاجس مشتركا بين الكثير من الأطفال، ولاسيما ممن لا تتوفر لدى آبائهم إمكانيات المتابعة والتوجيه السليم.
إننا لا نعارض تمكين الأطفال والأحداث من الهاتف المحمول أو اللوحة الإلكترونية، لكن أي محتوى يجب أن يقدم إليهم؟ وفي أي طريقة؟ وكيف يمكننا جعل الفضاء الافتراضي الذي يبحر فيه أطفالنا مفيدا، ومسليا، ومسكتا؟ هذا هو سؤال التربية الرقمية الذي لم نشرع في التفكير فيه، رغم أن الكل يعي ضرورته، ويقدر أهميته.
كانت المدرسة تتوفر على مكتبة، وكان محافظها يدلنا على ما ينبغي أن نقرأه. وكان المعلمون يدفعوننا لتكوين مكتبة القسم، والتناوب على قراءة القصص وتلخيصها. وكنا نتنافس في الاطلاع على أكبر عدد من تلك الكتب. وكانت النصوص التي نطلع عليها مشتركة، وموحدة. ولذلك تشكل لدينا جميعا وعي مشترك. فما الذي يجمع الأجيال الجديدة؟.