المسرح الجزائري ومؤشر المراحل التاريخية
يستند المسرح الجزائري على فكرة “المرحلية”، إذ يتكيف مع كل مرحلة حسب منطلقها الأيديولوجي والجمالي والنظري، بمعنى أنه يخلق الأدوات الضرورية في كل تحول، من خلال تفكيك النصوص المكتوبة وإعادة تشكيلها من جديد، ضبط العرض وفق السياق العام ومتطلبات المتلقي، ومحاولة المزاوجة بين النص والعرض لبلورة اتجاه نظري يضبط البناء الدرامي وفي نفس الوقت يمد جسر تواصل مع الجمهور لمواكبة هذا التحول والبحث في أسبابه لتقييدها جماليًا حتى لا تخرج على إطار الفنية أو جمالية المسرح وأركانه.
ولقد بدأت أولى هذه المراحل إبان الثورة التحريرية من خلال تأسيس الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني بتونس سنة (1958) التي كان يترأسها مصطفى كاتب، طبعًا هناك مرحلة سبقتها، لكنها غير مؤسسة على قناعة متينة ورؤيا نظرية وهدف معين، فقط محاولات وتراكمات أولية، أما في المرحلة التي بدأت مع مصطفى كاتب فهي بداية التأسيس الحقيقي للمسرح الجزائري بشكل عام، إذ تم وقتها إنتاج العديد من الأعمال المهمة التي ألزمت التوثيق التاريخي بتسميتها بـ”المسرح الثوري”.
حيث أنتجت مسرحية “نحو النور” في نفس سنة تأسيس الفرقة المسرحية، كتب نصها وأخرجها مصطفى كاتب، وفي السنة الموالية تم إنتاج مسرحية “أبناء القصبة” (1959) التي كتبها عبد الحليم رايس وأخرجها مصطفى كاتب، وفي سنة 1961 تم إنتاج مسرحية “دم الأحرار” التي كتبها وأخرجها هي الأخرى بالترتيب عبد الحليم رايس ومصطفى كاتب. وبعد الاستقلال جاءت مرحلة أخرى للمسرح الجزائري، وهي مرحلة “ضبط المؤشر” حيث لم يعرف المسرح الجزائري أي اتجاه يسلك، لهذا بدأ في إنتاج أعمال تمجد الثورة وترسخ مبادئها لدى الأجيال الجديدة.
وفي نفس الوقت توثق للمرحلة الجديدة، مثلها مثل نظيرتها السينما، لتأتي بعدها فترة السبعينيات والثمانينيات التي انتصرت لخيار الجزائر الأيديولوجي، وجعلت المسرح كخادم أساسي لهذا الخيار. وفي هذا السياق يقول الكاتب بوعلام رمضاني في كتابه “المسرح الجزائري بين الماضي والحاضر” متحدثًا عن هذه المرحلة: “مسرحنا اليوم سيكون معبرًا عن الواقعية الثورية التي تحارب الميوعة.
وتبني المستقبل وسيكون خادمًا للحقيقة في أصدق معانيها، سيحارب المسرح كل الظواهر السلبية التي تتنافى ومصالح الشعب، ولن ينقاد للتفاؤل الأعمى ولا لتجريدية لا تتعامل مع الوضع الثوري، ولا يمكن أن نتصور فنًا دراميًا بلا صراع، إذ دونه تتجرد الشخصيات من الحياة والرونق”.[1]
كانت هذه المرحلة من أهم المراحل التي اهتمت فعليًا بالجمهور، وهي تجسيد حي لمنطلق “جمالية التلقي” الذي يقوي العلاقة بين الجمهور والعرض المسرحي، وخير مثال على ذلك هو ما حققه عبد القادر علولة في أعماله “القوَّال” (1980) و”اللثام” (1989) و”الأجواد” (1985)، و”التفاح” (1992) و”أرلوكان خادم السيدين” (1993).
أين تجاوز “القارئ الضمني” عند إيزر وذهب أبعد من ذلك، من خلال تفاعله المباشر مع الجمهور الذي احتك بهم وأخذ منه اللغة التي سيجسدها في مسرحه، حتى يهدم هوة لغة التواصل، بعدها يبدأ في عمله على العرض المسرحي، ليعيد بعدها تلك اللغة لهم حتى تكون عملية التلقي أكثر عمقًا وفهمًا من أي وقت، لتأتي بعدها المرحلة الثالثة وهي المهمة جدًا في تاريخ المسرح الجزائري التي كانت بدايتها من سنة 1990 إلى اليوم.
- مرحلة عدم الانتماء والتحرر من القيود الأيديولوجية
عرفت هذه المرحلة والتي أسميها مرحلة “اللامنتمي” خاصة من نهاية التسعينيات وإلى غاية اليوم ثورة شكلية على المسرح الجزائري، إذ لم يعد ينتمي إلى أي مذهب أو تيار أيديولوجي بعينه، استطاع أن يتحرر من النظام السياسي وحتى النظام الإبداعي إن صح هذا التعبير، لأن أي مخرج أو أي فرقة مسرحية لم تعد تلتزم بالخيار أو التوجه الجماعي للمسرح.
بل أصبح الفرد يجرّب نصه المسرحي على مستواه، أي أصبح التجريب هو سيد المسرح، وهو المصطلح الذي من الممكن أنه استعمل بعد هذا التحرر من خلال تراكمات الماضي وتجربة المؤسسين الأوائل ومن جاء بعدهم، وكأنها محاولة للخروج على السائد لأنه يرتبط “بالأسئلة التي تسعى إلى تدمير سلطة السائد والمألوف ثقافيًا واجتماعيًا.
ومن المسلّم به أن التجريب لا يخضع للصفة بل للضرورة أولًا، فهو دائم البحث عن إجابات جديدة، وينطلق التجريب أساسًا من الواقع المعاش ومن الهموم التي يحملها الفنان المجرب والمبدع والتي يواجهها في حياته اليومية، فالتجريب هو ابتكار وإبداع، وهو شكل جديد من أشكال الدراما باعتباره قاعدة لها في خلق العمل المسرحي.”[2]
هذه المرحلة هي ولادة طبيعية لتجربة ناضجة متحررة من الالتزام الفني، لهذا نجد بأنها باتت أكثر وعيًا وأكثر قربًا لفنية المسرح، بعد أن تمسكت بروح التجديد والتحرر من القوالب القديمة، وباتت أكثر ميلًا للمغامرة ومعانقة ما هو غير متداول أو لديه صلة كبيرة بالماضي، كسرًا للقوالب القديمة التي رأوا بأنها يجب أن تزول، لأن “التجريب يتمثل عند المخرج المسرحي كمحاولة يخرج بها عن نمطية التقليدي عبر إيجاد أشكال جديدة ومتنوعة تختلف عن الأشكال المتعارف عليها يهدف بها للوصول إلى علاقة مؤثرة بين العرض والمتلقي بحيث يجعل المتلقي أحد عناصر العرض.
بل وصانعًا له”[3] لأنه حسب منطلقهم فإن ظروف التلقي تغيرت وأصبحت تملك شروطًا جديدة، لهذا وجب ارتداء ما يليق بها، من منطلق الحداثة والتموقع الفني من جديد، هذا التوجه لم يكن حكرًا على المسرح المحترف وحده، بل إن الفرق الهاوية هي الأخرى لها بصمتها ومنطلقها في التغيير، من هنا تم خلق خصائص فنية جديدة كان فيها “فعل التجريب متسمًا بالابتكار الحقيقي على صعيد البنى الفكرية والتطبيقية لجملة من النتاجات التي قدر لها أن تكون أنموذجًا متفردًا في الصياغة المسرحية”.
وأبرز هذه الخصائص يمكن حصرها في هذه النقاط:
– البناء السردي الذي لم يعد يعتمد على البداية والعرض والخاتمة كمنطلق أساسي، بل بات هذا الأمر معياريًا لدى كل عمل.
– التخلي عن كلاسيكية فتح الستارة وغلقها لتقسيم المسرحية ومعرفة فصولها وتنقلها الزمني والمكاني، بل بات الظل والنور هو الفاصل بينها.
– تكثيف وتجهيز الديكور بموجودات تؤدي أكثر من دور تواصلي، أي يمكن لكرسي مثلًا أن يكون مكان جلوس ومنبر محكمة ونافذة بيت، وكل هذا حسب سياق العرض المسرحي.
– عدم التقيد بممثل واحد ليؤدي شخصية معينة، بل يمكن لهذا الممثل أن يؤدي عدة أدوار وشخصيات في المسرحية الواحدة.
– عدم المبالغة في الأداء الصوتي للممثلين وتكيف هذا الصوت ضمن سياق الدور بعيدًا عن أي تضخيم لإثبات التمسرح.
- الخروج من العلبة الإيطالية
جاء هذا التغيير في المسرح الجزائري بعد أن “سعى المخرجون الجزائريون للخروج من العلبة الإيطالية التي احتوت المسرح التقليدي بجميع أنواعه” سواء من إرهاصات التأسيس بحكم أن “البحث عن صيغ جديدة لازمت المسرح الجزائري منذ بداياته الأولى”[4] أو من خلال ثورة التجديد التي بدأها عبد القادر علولة التي عبّر عنها بدقة في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح التي انعقدت فعالياتها في ألمانيا سنة 1987.
وهذا من خلال المحاضرة التي ألقاها على الحضور حيث قال [5]: “في خضم هذا الحماس، وهذا التوجه العارم نحو الجماهير الكادحة، والفئات الشعبية، أظهر نشاطنا المسرحي ذو النسق الأرسطي محدوديته، فقد كانت للجماهير الجديدة الريفية، أو ذات الجذور الريفية، تصرفات ثقافية خاصة بها تجاه العرض المسرحي.
فكان المتفرجون يجلسون على الأرض، ويكونون حلقة حول الترتيب المسرحي (Ladisposition scénique)، وفي هذه الحالة كان فضاء الأداء يتغير، وحتى الإخراج المسرحي الخاص بالقاعات المغلقة ومتفرجيها الجالسين إزاء الخشبة، كان من الواجب تحويره.
كان يجب إعادة النظر في كل العرض المسرحي جملة وتفصيلًا”.[6] وأضاف: “عن طريق هذه التجربة التي استدرجتنا إلى مراجعة تصورنا للفن المسرحي، اكتشفنا من جديد ـ حتى وإن بدا هذا ضربًا من المفارقة ـ الرموز العريقة للعرض الشعبي، المتمثل في الحلقة، إذ لم يبق أي معنى لدخول الممثلين وخروجهم، كل شيء كان يجري بالضرورة داخل الدائرة المغلقة، ولم تبق هناك كواليس، وكان يجري تغيير الملابس على مرأى من المتفرجين، وغالبًا ما كان الممثل يجلس وسط المتفرجين بين فترتي أداء لتدخين سيجارة، دون أن يتعجب من ذلك أحد”.[7]
خير مثال على منطلق “جمالية التلقي” الذي يقوي العلاقة بين الجمهور والعرض المسرحي هو ما حققه عبد القادر علولة |
واصل علولة تقديم هذه التجربة التي يرى بأنها مرتبطة بالتراث، الغني بالقصص ذات الطبيعة المسرحية، ما يعني أن تجربته مستوحاة من الواقع، الذي عاشه ويعيشه، ولم تكن غريبة عليه ولا على المتفرج “فالنقطة التي ننطلق منها لتحقيق المسرح المحكي ليست ماثلة في أن لنا تراثًا قصصيًا يمكن إعادة تشكيله مسرحيًا، وإنما القضية هي أن لدينا تراثًا قصصيًا ذا طبيعة مسرحية، يصدر عن خيال مسرحي، وفهم متميز لمطالب المشهد، والموقف، والشخصية، وسائر عناصر البناء المسرحي.
غير أنه كتب بأسلوب الحكاية (وليس الحوار)، لأن أسلوب الحكي كان الأسلوب المستقر والممكن، ولأن الأذن العربية هي الطريق المدرب لالتقاط الجمال (وليس العين)، ولأن التمثيل لم يكن نشاطًا فنيًا اجتماعيًا يتعامل مع المستويات الأدبية الكتابية.. وأخيرًا، ليكن منطلقنا في رعاية هذه الظاهرة الفنية في تراثنا الحكائي ما ندعو إليه من تأصيل لفنون الإبداع العربية (المعاصرة والقادمة) بتحريرها من شروط أنتجتها حضارات أخرى”. [8]
من هنا نكتشف أن مرحلة التسعينيات وما بعدها هي نتيجة إرهاصات ما قبلها، لتكون بداية من الألفية الجديدة وإلى اليوم بمثابة رهان لتجديد التجديد.
انعكس هذا الزخم بطريقة أو بأخرى على بعض الدول العربية، نتيجة لمشاركة العروض المسرحية فيها، أو من خلال الاحتكاك المباشر الذي كان يحدث بين المخرجين العرب، خاصة وأن المسرح الجزائري كان رائدا في كسر الجدار الرابع في المسرح الذي تحدث عنه بريخت، وهذا ما أكده علولة في الفقرة أعلاه، حيث نجد الأعمال المسرحية الحديثة لا تملك أي عقدة بينها وبين الجمهور، بل أصبح هذا الجمهور جزءًا من العمل مسرحي، يتجاوب مع المتلقي ويتحاور معهم.
وهناك العديد من الأمثلة التي جسدت هذا الطرح، مثل مسرحية “رصيف النوار ما ايجاوبش” للمخرج حميد قوري وهي من إنتاج المسرح الجهوي لعنابة 2020، حيث نجد بعض الممثلين في تواصل عادي مع الجمهور، وهناك العديد من الأعمال الأخرى سواء القديمة آو الحديثة التي تنحو هذا النحو، وثقافة التجديد هذه شجعت “الآخر” على تلقفها، وبات هو الآخر يستعملها في عروضه بكل أريحية.
- الهوامش:
[1] بوعلام رمضاني، المسرح الجزائري بين الماضي والحاضر، المكتبة الشعبية، المؤسسة الوطنية للكتاب، 198 ص 23
[2] محمد كاظم هاشم الشمري ومحمد حسين محمد حبيب، حداثة التجريب في العرض المسرحي الجزائري المعاصر (عروض المخرج هارون الكيلاني المسرحية أنموذجا)، مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية، العدد 34، الإصدار 1-7-2019 (أبحاث الفنون)، العراق، ص 201
[3] نفس المرجع، ص 203
[4] نفس المرجع، ص 206
[5] أنظر: عبد الكريم قادري، “الشخصية” في المسرح الجزائري/ البطل والمرجع الأيديولوجي/ شخصيات “الأجواد” لعلولة نموذجا، مجلة “مسرح”، الامارات العربية المتحدة، عدد 28 ديسمبر 2019
[6] أنظر: المحاضرة التي ألقاها عبد القادر علولة في برلين سنة 1987 م في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح
[7] نفس المرجع
[8] نفس المرجع