أثر الأوبئة على الأدب والفن
يُنظر إلى الأوبئة القاتلة، كالطاعون، كأنه رعب من الماضي، لكن هل رعب الأوبئة لا يزال مستمراً رغم التقدم الطبي الهائل؟
مع تفشي فيروس كورونا عبر العالم، عادت المخاوف من أن يعيد التاريخ نفسه، لأن للأوبئة عبر التاريخ تداعيات اقتصادية وسياسية، وأيضاً تؤثر على الفن والأدب، وقد كان العصر الذي ارتقى فيه الفن الأوروبي إلى المجد، أي عصر النهضة، عصراً للمرض والموت، حيث تفشت الأوبئة وخاصة الطاعون الذي أتى على ثلث سكان أوروبا وقتها، فتلبس الفن والأدب سوداوية مفرطة، كما تبنى الفنانون والأدباء الواقعية الصريحة في أعمالهم، وسنحاول في هذا المقال تناول ذلك ولو بإيجاز.
- في الأدب:
استوحى الكثير من الأدباء الأوبئة في أشعارهم ونصوصهم السردية، منذ العصر اليوناني، فنجد العلاقة السببية بين الطاعون والخطيئة تظهر في النصوص الأدبية اليونانية، مثل الإلياذة حيث تبدأ أحداثها بأن يأسر أجاممنون بنت قسيس للإله أبولو، فيتفشى الطاعون في جيش اليونان، وفي أوديب ملكاً، مثلاً، يتبين لأوديب مدى فداحة الدنس الذي ارتكبه بعد انتشار الطاعون في طيبة نتيجة غضب الآلهة عليه، كما أن هناك العديد من الكتاب الذين كتبوا روايات حول الطاعون، لأنه من الأوبئة الأشد فتكاً عبر التاريخ، فمثلاً نجد الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو (1660-1731) مؤلف روبنسون كروزو، قد تناول هذا الموضوع، في روايته التي عنوانها «صحيفة يوم الطاعون» وقد كتبها سنة 1722م، وسبب تأليفها، أن الكاتب شهد موت 70 ألف شخص بالطاعون لما كان عمره خمس سنوات، وبعد ذلك بستين عاماً ألف روايته التاريخية، وهي رواية شاهد عيان يحكي فيها الآثار المدمرة للأوبئة، معتمداً على مواهبه الكبيرة كصحفي وروائي، وتطرق فيها للطاعون الذي تفشى في لندن سنة 1665، فيصف فيها أهوال الطاعون من هستيريا وخوف ورعب وأنانية ووحشية ومعاناة وموت، ويستحضر تفاصيل تقشعر لها الأبدان.
وفي عام 1842، نشر الشاعر والروائي الأميركي إدغار آلان بو (1809-1849) «قناع الموت الأحمر»، وهي قصة فريدة من نوعها في التقاليد الأدبية حول الأوبئة، وملخصها احتماء أمير وحاشيته من الطاعون بقلعة لكي لا يصابوا بالعدوى، لكن يصلهم الموت في النهاية، وركز الكاتب في هذه القصة على العنصر الاستعاري من خلال تجسيد الطاعون في شخصية غامضة متخفية تمثل الموت الأحمر، والذي يمثل حتمية الموت ليس بسبب الطاعون فقط، ولكن بسبب القدر.
وتعد الروايتان الشهيرتان، «الخطيبان» و«تاريخ عمود العار»، للروائي الإيطالي أليساندرو مانزوني (1785-1873)، من أشهر ما كُتب حول وباء الطاعون، وبما أن إيطاليا كانت من أكثر الدول المتضررة بالأوبئة خلال العصور الوسطى وعصر النهضة، فأحداث الرواية فضاؤها إيطاليا ويصف الكاتب بطريقة غير عادية، الطاعون الذي أصابها حوالي عام 1630، وأيضاً يناقش تداعياته، والتصرفات البشرية التي تنحاز للتطرف والخروج عن المألوف نتيجة الخوف من الإصابة بالعدوى، فتنحدر الأخلاق ويتفشى العنف والظلم والخرافات وإساءة استخدام السلطة أثناء انتشار الوباء.
أما رواية «الطاعون القرمزي»، والتي كتبها جاك لندن، فقد نُشرت في عام 1912م، وهي رواية خيالية تروي قصة ما بعد نهاية العالم، وتدور أحداثها حول نوع من الطاعون الذي من علاماته تحول الشخص إلى اللون القرمزي وموته مباشرة بعد الإصابة بالعدوى، وتطرقت الرواية لما سببه هذا الوباء من اضطرابات وأعمال عنف، وقد وصلت لحد قتل الناس لبعضهم البعض، وكيف كاد يندثر الجنس البشري، باستثناء الراوي سميث الذي كان يعمل في الجامعة، بالإضافة إلى حفنة من الناجين، وبعد مرور ستين عاماً، كان الراوي يحكي ذكرياته عن جودة الطعام والطبقات الاجتماعية والتكنولوجيا لأحفاده، ويحاول أن ينقل لهم الحكمة والمعرفة، فقابلوه بالسخرية لأن ما يحكيه يبدو بعيداً عن الفهم وعن حياة غير معقولة ومستحيلة، لأن الحضارة اندثرت وعاد الإنسان ليعيش حياة بدائية،
وعلى الرغم من نشر الرواية قبل أكثر من قرن من الزمان، فإن القارئ يشعر بأنها معاصرة لأنها تسمح للقراء بالتأمل في الخوف العالمي من الأوبئة، وهو الخوف الذي لا يزال يحيا مع ظهور كل وباء جديد.
أما ألبير كامو (1913-1960) الحائز جائزة نوبل في الأدب الفرنسي، فقد اعتبر الأوبئة شعاراً للشر، وفي روايته «الطاعون»، التي نشرت في عام 1947 يصف الطاعون وأعراضه والعجز التام عن محاربته في وهران الجزائرية، كما يصف ردود أفعال الأشخاص والمجتمع في مواجهتهم للطاعون، حيث ينتشر الذعر والهروب من المسؤولية، وأيضاً التضامن.
لقد أجمع كل من تناولوا الأوبئة في كتاباتهم، أن الإنسان بسبب الوباء، وخاصة لما يكون قاتلاً كالطاعون، يصبح غير قادر على التمييز بين الخير والشر، وأيضاً يقل التضامن ويسود التخلي عن المواثيق الاجتماعية، فتتغلب الأنانية والجشع والوحشية، كما أن الوباء يكسر الحواجز الطبقية، ولكنه يؤدي أيضاً إلى تدمير الحضارة، لكن رسالة هؤلاء الكتاب تتلخص في كون الأخوة الإنسانية والتضامن فقط هما اللذان يمكنان المجتمعات من البقاء والنجاة.
- في الفن:
القصة الكاملة لعصر النهضة والباروك في الفن قد تم ختمها داخل مملكة الطاعون، حيث استحوذ الوباء على جميع أنحاء أوروبا في الفترة من عام 1347 إلى أواخر القرن السابع عشر، وكانت تلك المآسي حافزاً للأوروبيين على إنشاء كنوزٍ ومنارات للحضارة، سواء في الفن أو العمارة، الأمر الذي يؤكد أن اليأس يولد القوة وأيضاً يؤكد على مجد الحياة.
ومع تكرار تفشي الطاعون في أوروبا، وهذا يعني بما لا يدع مجالاً للشك، بأن حياة كل أسياد الفن التشكيلي، كمايكل أنجلو ورامبراندت وليوناردو دافنشي، قد مرت في ظل الطاعون، حيث كان هؤلاء الفنانون العظام معرضين لخطر انتقال العدوى لهم في كل لحظة، فواجهوا بشاعته بأعمالهم، وخاصة ما تعلق بالأعمال الفنية الدينية؛ كجداريات الكنائس واللوحات ذات المواضيع الدينية، كما أن موجات الطاعون المتوالية جعلت الفنانين ينحازون إلى تبني الواقعية في الفن، فاتجهوا إلى نقل الواقع كما هو، خاصة ما يتعلق بمشاهد المرض والموت والدمار والرعب والحزن الذي سببه الطاعون الذي جسدوه في أعمالهم، فتم تكريس الكآبة والسوداوية خلال هذه المرحلة.
ومن الأمثلة على ذلك، اللوحة الجدارية التي عنوانها «موكب القديس غريغوري» والتي يتم عرضها حالياً في كنيسة القديس بطرس في روما، وقد تم إنجازها تقريباً سنة 1300م. ومن بين أهداف إنجاز هذه القطعة الفنية، دفع الناس للتوبة والخلاص الروحي والتنوير الروحي، واحترام دور الطقوس الدينية والكنيسة المقدسة في حماية الأرواح، وقصة الجدارية تدور حول دعوة البابا غريغوري للسكان سنة 590م للانتقال لمنطقة سانتا ماريا للقيام بصلاة رسمية، وطلب العفو من الله لإنهاء الأوبئة التي حاصرت المدينة لما يقرب من خمسين عاماً.
وأيضاً هناك لوحتان للفنان الفرنسي ميشال سيري (1658/1733) حول المشاهد المفجعة للطاعون الذي ضرب مرسيليا سنة 1720، وكان الفنان شاهد عيان على الوباء، واللوحتان موجودتان حالياً بمتحف الفنون الجميلة بمرسيليا، وهي من اللوحات الأكثر شهرة التي تمثل وباء تلك الفترة، والذي كان له أثر كارثي على أوروبا، ويظل شهادة رئيسية على هذا الحدث، وقد أدى هذا الوباء إلى ظهور العديد من الأعمال الفنية، التي تؤرخ لطاعون مرسيليا الذي خلف 40000 وفاة من أصل ثمانين ألف من سكان مرسيليا.
وأيضاً لوحة «الطاعون» للرسام السويسري أرنولد بوكلين (1827/1901)، وهي مزيج من الواقعية والرمزية، وقد تأثر بأعمال هذا الفنان، السرياليون ومنهم سلفادور دالي، كما أثر على التعبيريين الألمان، لأن أعماله تطبعها مسحة من الأسطورية والرمزية التي ينبعث منها شعور بالعنف والغرابة والخيال، وتعبر هذه اللوحة عن هواجس الرسام حول الطاعون والموت، فمثل للطاعون أو الموت الأسود، كما كان يسمى وقتها، بشخصية خيالية تدمر كل شيء في طريقها وفي الخلفية، كما تشير سحابة ضخمة من الدخان التي يتجه إليها الموت إلى أن البشرية تنجذب نحو نهاية العالم.
من خلال ما سبق، يتأكد أن الأعمال الفنية والأدبية التي أنجزها أصحابها تأثراً بالأوبئة التي ضربت مناطق كثيرة من العالم خلال القرون السابقة، تعد توثيقاً تاريخياً لفترات مظلمة من التاريخ البشري.