نقد

الشيوعية والمثقفون: فتنة الطغيان

يفتتح الروائي البريطاني مارتن إيميس مذكراته بجملة من كتاب روبرت كونكويست «محصول الحزن: الجماعية السوفييتية والإرهاب بالجوع» تقول: «نستطيع أن نضع هذا الموضوع في سياق الوقت الحاضر بالقول، إن عشرين حياة بشرية قد ضاعت، في الوقائع التي نوثقها، مقابل كل حرف من هذا الكتاب». ويحتوي الكتاب 411 صفحة وعدد أحرف هذه الجملة الفائتة (كما وردت بالإنكليزية) حسب يعادل 3040 حياة إنسانية.


يبدأ كتاب إيميس «كوبا المرعب: الضحكة والعشرون مليونا» (كوبا هو اسم الدلع ليوسف فيساريونوفيتش قبل أن يختار اسم ستالين) بالمجاعات المتوالية التي ضربت الاتحاد السوفييتي منذ نجاح البلاشفة بالاستيلاء على الحكم عام 1917.


المفاجئ، في الكتاب، هو اكتشاف أن المجاعة التي حصلت في عهد لينين، كانت أمرا مخططا له. كان تجويع الناس (وحتى الحرب الأهلية نفسها) سياسة غرضها زرع إرهاب معمم لتوفير أجواء مناسبة للبلاشفة لـ»ضرب أعداء الثورة» وتطبيق سياساتهم الاقتصادية لخلق «قاعدة صناعية» وتعميم «المزارع الجماعية» وهي السياسات التي أدت للقضاء على القاعدة الصناعية للبلاد، وظهور أسوأ مجاعة في التاريخ الأوروبي ذلك الحين، وانتشار الإرهاب وتعميمه بشكل لا يمكن للعقل أن يصدقه.


يوثق الكتاب سياسات الإرهاب والإجرام والقتل والتجويع المروّعة، التي خطط لها قادة البلاشفة الكبار الرئيسيين، لينين وتروتسكي وستالين، ويؤكد أن المجاعات والمجازر والقمع المعمم، أدت إلى مقتل قرابة 20 مليون شخص.


  • لينين: لا ثورة حقيقية دون إعدام وإرهاب!

كتب لينين في عام 1918: «خطأ عظيم الاعتقاد أن البلاشفة سيوقفون الإرهاب» وعندما قرر المؤتمر الثاني للسوفييت إلغاء عقوبة الإعدام قال: «سخافة.

دون إعدام لن تكون هناك ثورة حقيقية» وفي آذار/مارس 1923 كتب: «بعد أن ضربت المجاعة البلاد وانتشر أكل لحوم البشر، وامتلأت الشوارع بمئات إن لم يكن آلاف الجثث، بتنا قادرين، ويجب علينا، أن نقوم بمصادرة ممتلكات الكنيسة بأكثر الطرق عنفا، ودون رحمة (…) يجب الآن أن نشن المعركة الحاسمة ودون رحمة (…) بقسوة شديدة لن ينسوها لعقود مقبلة…

كلما كان عدد ممثلي الرجعية والبورجوازية والكنيسة الذين ننجح في تصفيتهم أكبر كان أفضل». حصدت المجاعة خلال هذه الحقبة خمسة ملايين حياة، و»فقدت الحياة البشرية في عهد لينين قيمتها».

يقول إيميس: «لقد أهدى لينين لخلفائه دولة بوليسية كاملة الفاعلية. دمرت حرية الصحافة بعد أيام من انقلاب تشرين الأول/أكتوبر. أعيدت كتابة قانون العقوبات ومصادرة الأغذية في تشرين الثاني/نوفمبر. تأسست الشرطة السرية في كانون الأول/ديسمبر.

ظهرت معسكرات التجميع (واستخدام المشافي كمراكز اعتقال) في بداية 1918. بعد ذلك بدأ الإرهاب المعمم: إعدامات على الكوتا، وتعميم المسؤولية على أقارب وجيران «أعداء الشعب» أخذ رهائن، وتصفية الخصوم السياسيين، واستهداف المجموعات العرقية والاجتماعية: الكولاك، والقوزاق.

الفروق بين نظامي لينين وستالين كانت كمية لا نوعية. إبداع ستالين الحقيقي كان في اكتشاف مجموعة جديدة من المجتمع لقمعها: البلاشفة أنفسهم.

زار برنارد شو الاتحاد السوفييتي زمن المجاعة وعاد ليقول إن السوفييت هم أكثر الشعوب تغذية في أوروبا!

يجادل إيميس في أن النازية لم تكن وحدها من عمل على استئصال جماعات بشرية بأكملها، مشيرا إلى خطة لينين المعلنة لـ»القضاء على القوزاق».

لم تقتصر موجة القتل على الأسرة المالكة التي قتلت مع أطفالها، وطبيبها، وسائس الخيل، والخادمة، وكلبها، وعلى النبلاء والبورجوازية الوسطى والصغرى والفلاحين متوسطي الحال، بل طالت المثقفين، والمجتمع المدني، ثم شمل الإرهاب، بشكل عشوائي واعتباطي مهول، أي شخص يمكن أن تعتبره السلطات «معاديا للثورة» أو «خائنا».

لم تكن المجاعة مصادفة البتة، بل كانت نتيجة مباشرة لسياسة مصادرة أغذية الفلاحين وتركهم للجوع والموت. يستشهد إيميس بجريدة أوكرانية رسمية امتدحت عام 1933 نباهة الشرطة السرية، التي استطاعت كشف واعتقال «مخرّب فاشيّ» قام بإخفاء بعض الخبز في حفرة تحت كومة برسيم.


  • لماذا سكت المثقفون الغربيون؟

لكن ما علاقة الشيوعية بمذكرات إيميس؟

كان والد مارتن الروائي والشاعر والناقد كنغسلي إيميس، عضوا ملتزما في الحزب الشيوعي البريطاني بين 1941 و1956. وكان مارتن أحد كتاب مجلة «نيوستيتسمان» الناطقة باسم حزب العمال، التي جمعته بكتاب شيوعيين متحمسين للاتحاد السوفييتي وسياساته.

يتساءل مارتن لماذا لم يتأثر الكثير من الكتاب والصحافيين بما كان يجري في الاتحاد السوفييتي، رغم وجود أدلة على العنف العشوائي لعمليات فرض العمل الجماعي (1929 -1934) والمجاعة عام 1933، وفرض العبودية على الفلاحين، والمحاكمات الاستعراضية 1936-1938 التي اعترف فيها بلاشفة قدماء بتاريخ طويل من الخيانة والعمالة لأعداء النظام (ولمزاعم سخيفة أخرى)؟


كان مثقفو بريطانيا، كما يقول إيميس، يعرفون بالتأكيد بمرسوم 7 نيسان/ إبريل 1935 الذي سمح بتطبيق «كل أشكال العقوبات الجرمية، بما فيها الموت، على الأطفال من عمر 12». كان مطلوب المرسوم التخلص من ظاهرة خلقها النظام: الأطفال المشردين والذين لا مأوى لديهم، وكذلك: قتل أبناء الخصوم السياسيين مع آبائهم.

يرى إيميس أن هناك تبريرا منطقيا لتصديق أولئك للسردية الستالينية وهو أن السردية الأصلية ـ الحقيقة ـ كانت غير ممكنة التصديق بتاتا. ينشر إيميس رسالة إلى مكسيم غوركي من لينين يقول فيها، إن مثقفي البورجوازية «ليسوا عقل الأمة بل خراءها» ووضع في رسالة أخرى عام 1922 قوائم للمثقفين الذين يجب اعتقالهم أو نفيهم.


هناك، مع ذلك، كاتب معيّن كان لينين معجبا به وهو تشيرنيشيفسكي، الذي قرأ روايته «ما العمل؟» خمس مرات، معلنا أن الرواية «أعادت تشكيله بالكامل» لأنها أرته «كيف يكون الثوري». تعليق إيميس على ذلك، أنه من المخجل أن تكون رواية هذا الكاتب ضعيف الموهبة، عبر تقديمها الديناميات العاطفية لصناعة الثورة الروسية، الكتاب الأعظم تأثيرا في التاريخ عبر العصور.


كان ستالين يراقب المثقفين، وقد قام عمليا، بتدمير إيزاك بابل، وأوسيب ماندلستام، وسجن آنا أخماتوفا (وناديجدا ماندلستام) وعذّب باسترناك بإسكاته وأخذ حبيبته وطفله منها، لكنه أبقى على حياته (لا تلمسوا هذا العائش في الغمام) وأخضع المسرحي مايرخولد لتعذيب مرعب قبل إعدامه في شباط/فبراير 1940، وبعد اعتقاله بأيام قتلت زوجته الممثلة بـ17 طعنة وتم قلع عينيها.


مواقف المثقفين في العالم كانت مذهلة في تجاهلها لما حل بالمثقفين والشعوب تحت حكم البلاشفة. أحد الأمثلة البارزة التي يوردها الكتاب كان جورج برنارد شو، الذي زار الاتحاد السوفييتي خلال فترة المجاعة وعاد ليقول إن السوفييت هم أكثر الشعوب تغذية في أوروبا. كريستوفر هتشنسن أنكر حصول مجاعة: «كان هناك نقص في كميات الأغذية».


حسب فلاديمير نابوكوف، «تحت حكم القياصرة كانت لدى الروسي المحب للحرية إمكانية وطرق للتعبير.. كان محميا بالقانون. كان هناك قضاة مستقلون لا يخافون.. كان النظام القانوني بعد إصلاحات ألكساندر مؤسسة عظيمة، ليس على الورق وحسب. ازدهرت منشورات من الاتجاهات كافة، والأحزاب السياسية من كل نوع، وكانت كل الأحزاب ممثلة في البرلمان، والرأي العام كان دائما ليبراليا وتقدميا».


عمل البلاشفة على تدمير الحقيقة، أما مثقفو العالم المؤيدون فكانت لديهم أمور «أهم من الحقيقة» ومع وصول الاتحاد السوفييتي مرحلة انحطاطه، كانت البلاد تعاني من مستويات مشابهة لدول افريقية في الفقر وسوء التغذية والمرض ووفيات الأطفال ولم يعد ممكنا «تأجيل الحقيقة» بالطرق البلشفية التقليدية (العنف). لم يعد ممكنا فرض الكذب وسقط النظام السوفييتي.


حسام الدين محمد: كاتب من أسرة «القدس العربي»

حسام الدين محمد

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى