نقد

بين جعيّط وطه حسين: فتنة التاريخ والأسلوب

عندما أتيحت لي الفرصة النادرة لإجراء حوار مع المفكر المغربي عبد الله العروي في الرباط قبل عدة سنوات لاحظت أن حديثه لي في اليوم الأخير، المخصص للتصوير الخارجي في ساحات المدينة ومعالمها، قد تركز على تونسيين اثنين: بورقيبة وهشام جعيّط.

لم أتفاجأ بالأمر. فقد كنت أعرف موقفه (المماثل لموقف محمد أركون) من محاولات التحديث البورقيبي في الستينيات.

أما جعيّط، فقد كنت أعرف تقديره البالغ له لعدة اعتبارات، منها أني كنت قرأت في يوميات العروي، «خواطر الصباح» بتاريخ 27 ديسمبر 1998 ما يلي: «سبق لي أن ذكرت في كتابي أوراق أن هشام جعيّط أثنى يوما على محمد إقبال ومؤلفه إعادة تأسيس الفكر الديني الإسلامي ونصحني بدراسته»؛ وبتاريخ يوليو 1969: «وصلت متأخرا إلى فندق المحمدية حيث عقد المؤتمر الفرنسي المغاربي الثاني. دخلت قاعة الاجتماع وهشام جعيّط يلقي محاضرته.

جلست وبدأت أنصت إلى ما يقول. استولى عليّ أسلوبه الجميل (..) هل تكلم ابن خلدون على أدباء تونس وفقهاء المغرب؟». كما أورد العروي، بتاريخ 30 ديسمبر 1973، مقتطفا من رسالة بعثها له جعيّط: «لا بد لنا من جهة أن نسمع (العالم) صوت الثقافة العربية الإسلامية المتميز ونعطي الدليل على أننا أدركنا سن الرشد.

لكن من جهة ثانية لا يمكن أن نهمل جمهور المستشرقين الذين يتابعون أعمالنا باهتمام، وفي حالات كثيرة يتفهمون أغراضنا أكثر ممّا يفعل مواطنونا».

«نعم يعرفك من لا يحتاج إليك، وينكرك من قد يستفيد منك!» بهذه الجملة الأليمة عقّب العروي على رسالة جعيّط. وأظن أن الرسالة والتعقيب كليهما يختزلان ما تميز به مشروعا هذين المؤرخين المغاربيّين (خصوصا في بواكير إنتاجهما) من أصالة جالبة للغرابة بين الأهل، ومن طموح تجديدي مورث لشعور الغربة داخل الوطن.

ولهذا فلا عجب أن يقول جعيّط: «العروي مفكر مهم جدا، أعتبره أهم من جميع المفكرين الآخرين وأقدّر ما كتبه، ويصعب على العرب فهمه.»..

لكن ليس صحيحا، مع ذلك، ما يشاع عن جعيّط من نكران المؤرخين العرب المعاصرين. فقد أشاد، مثلا، بمحمد عبد الحي شعبان وإبراهيم بيضون وسلوى بلحاج صالح. أما العراقيان عبد العزيز الدوري وأحمد صالح العلي، فقد نعتهما بأنهما مؤرخان كبيران لا يقلاّن شأنا عن أي مؤرخ كبير في أوروبا وأمريكا.

وأضاف: إن ما أخشاه فعلا هو أن هذا النمط من العلماء المدققين من أمثال الدوري والعلي سائر نحو الاندثار لأنه لا يوجد الآن للأسف اهتمام في العالم العربي بكتابة التاريخ ولا بتكوين المؤرخين.

ما الذي في المصير البشري يوجب الخلق الأدبي؟ فيه أن الطفولة مرّت وأن معترك الحياة جملة متسلسلة من التوفيقات والتوترات وأن الأدب (..) شوق إلى المستحيل العذب…

ومعروف أن جعيّط أعرب في مقدمة كتابه الشهير «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر” (1989) عن الدهشة من عدم إنجاز أي دراسة عربية جادة عن هذه الفترة المصيرية في تاريخ الإسلام «ربما باستثناء كتاب الفتنة الكبرى لطه حسين، المميز بطابعه الأدبي أكثر مما هو تاريخي».

وقد ظل هذا الحكم يثير حيرتي لأن كتاب طه حسين، بجزئيه، وإن اتّسم بما يحلو لي أن أسمّيه فتنة الأسلوب الأدبي البهيّ، فإنه في جوهره عمل تحقيقي انتهج أصول البحث التاريخي والغربلة النقدية فأخرج للقارئ المعاصر أوفى تأليف بين مختلف روايات قدامى الإخباريين عن الفتنة.

لكن الذي أطربني، لما أتيح لي أن أحاور جعيّط في بيت الحكمة، أنه اعترف لي قائلا: لقد ظلمت طه حسين! وأضاف: بعد العودة من فرنسا قرأت كتاب «الفتنة الكبرى» فأدهشني، إذ الحقّ أن الذي فتح ذهني على إمكانية كتابة تاريخ الإسلام المبكر بمنهج تحليلي ذكي إنما هو طه حسين.

رحم الله هشام جعيّط، فلا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل! كان مثقفا شامخا ورجلا أشمّ يبدو، لمن لا يعرفه، مانعا رادعا: فتور إنكليزي، أو يكاد، وصرامة تشبه القسوة؛ لكن مع غنى نفس وعدالة رأي.

ناهيك عن موهبة التعبير المكثف، مثل قوله: أكثر ما يجذبني في إنتاج مثقفي أوروبا الشرقية الغزير هو ذكاؤهم المتوهج، هذا الذكاء يخيفني بعض الشيء لأني أرى فيه تعبيرا عن شقاء تاريخي.

أو قوله: الديمقراطية مثل الدين، لا تحيا إلا في وسط اجتماعي مقتنع بحقيقتها سلفا (..) إنها إذن ثورة فكرية وثقافية لا تزال بلا سند في واقع العالم الإسلامي.

وإنه لمن عميق الدلالة أن الكتاب الذي ختم به جعيّط حياته، والذي صدر قبل ثلاثة أشهر بالفرنسية بعنوان «تدبّر التاريخ، تدبّر الدين» هو من نفس جنس كتابيه الأولين (الشخصية العربية الإسلامية 1974؛ ونحن وأوروبا 1978) حيث أن في ثلاثتها مراوحة بين الفكر التأملي ذي العمق الفلسفي والتلمّس الاحتمالي لدلالات التاريخ الفوري، مع استدامة تلك الفتنة الأدبية التي ظلت تميز أسلوبه الرفيع منذ أن نشر، عام 1967،

ذلك النص البديع عن الأدب العالمي المعاصر، متسائلا: ما الذي في المصير البشري يوجب الخلق الأدبي؟ «فيه أن الطفولة مرّت وأن معترك الحياة جملة متسلسلة من التوفيقات والتوترات وأن الأدب (..) شوق إلى المستحيل العذب».

مالك التريكي:  كاتب تونسي

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى