ولاية الأوصياء الجدد على الأدب
عشنا زمنا يتقصّى فيه الناقد خطى كاتب واحد، أو يقصر جهده على الجيل الذي ينتمي إليه، ولا يبحث عن أعمال إبداعية لآخرين، بل يهمل ما يصادفه من إبداع خارج إطار جيله. ومنذ سنوات، لا ينجو من التصنيف الثنائي للنقاد إلا قليلون يعتصمون بمواهبهم.. في الصنف الأول يتراكم نقد كسول يميل إلى تلخيص قصة العمل الأدبي. ويلجأ نقاد الصنف الثاني إلى التطبيق الآلي لقواعد نقدية مدرسية لا تفرّق بين نص جيد وآخر متوسط. وبحكم تواضع أدواتهم فإنهم يكتفون بالوقوف على الشواطئ الضحلة، ويتفادون الغرق إذا غامروا بالخوض في نصوص مركّبة تهزمهم، وتفضح هذا التواضع. لكن ما سلف لا يمنع أن ثمة قلة من النقاد ممن سلموا من هذا التوصيف.
في كتابه الجديد الصادر مؤخراً في القاهرة تحت عنوان “القارئ العادي والتيه النقدي” يغامر الناقد ممدوح فراج النابي بنا ويدخلنا أرضا جديدة، عبر جهد لا يقنع بقراءة الأدب معزولا عن سياقه، وإنما يقرأ النص في ظل ظاهرة جديدة يجسّدها قراء يمارسون سلطة يستجيب لها البعض، بكتابة أعمال/ عروض تلبّي “الطلب”.
هذا الطلب سيكون الوقت وحده أجدر بالحكم على بقائه، أو شاهدا على انتفاء غرضه. ويسجل تاريخ الأدب ظواهر لا تردع من ينزعون عن الكتابة قداستها، ويهبطون بها إلى مستوى السلعة، وينتشون بخدعة الانتشار المؤقت، ولا يخشون قسوة الزمن في اصطفاء ما يصمد مما ينفع الناس، بعد ذهاب الزبَد.
وللحقيقة فإن هذا الناقد من الناجين العصاميين المعتصمين بموهبتهم وهو يتمتع بقدر كبير من النزاهة، ويؤمن بأن النقد الأدبي يستحق أن يُكرّس له عمر كامل. أراه دائما يطل على المشهد من بعيد، ويكتب بدأب نادر يمتاز به بين نقاد جيله والأجيال السابقة. لنتوسع قليلا في فكرة النقد والناقد والقراءة والقاريء قبل أن نسافر مع كتاب النابي.
قبل التفات السينما إلى أعمال نجيب محفوظ كان يكتب السيناريو لأفلام يخرجها صلاح أبوسيف، وكان لروايات رومانسية لكاتب يكبر محفوظ بعامين رواج جماهيري، كتبا مطبوعة وأفلاما سينمائية.
والآن لا يكاد الجيل الجديد من القراء يعرف اسم هذا الكاتب، ولا تعيد دور النشر إصدار أعماله، ومن حسن حظه أنه مات قبل رؤية هذه النهاية التي أدركت كاتبا آخر انحسرت عنه الأضواء، ومنذ سنوات لا يأبه له القرّاء. فمن يتعامل مع الفنون كبضاعة لن ترحمه قسوة السوق، ودكتاتورية مزاج متغير لأصحاب “الطلب”.
في عام 1969 صدرت رواية “حمام الملاطيلي” لإسماعيل ولي الدين. من فاتته الرواية شاهدها فيلما لصلاح أبوسيف، ولم تحرم الأجيال التالية ملاحقة الفيلم المختبئ في أشرطة الفيديو، في جلسات سرية، ليس لجودته وإنما للتلصص على جسد نجمة الإغراء.
هذا الناقد من الناجين العصاميين وهو يتمتع بقدر كبير من النزاهة، ويؤمن بأن النقد الأدبي يستحق أن يُكرّس له عمر
قبل خمسين عاما، أهمل النقاد إسماعيل ولي الدين، ولم يحزنه ذلك، وربما لم ينتبه؛ إذ استبدل بهم جمهور السينما، وكانت “رواياته” تنتقل من سخونة المطابع إلى أشرطة السينما، عبر أكثر من 20 فيلما لأجيال جديدة من نجمات الإغراء.. “حمام الملاطيلي” بطولة شمس البارودي، “الباطنية” بطولة نادية الجندي، “أبناء وقتلة” بطولة نبيلة عبيد وإخراج عاطف الطيب، “حارة برجوان” لنبيلة عبيد وإخراج حسين كمال، “درب الهوى” بطولة يسرا ومديحة كامل وأحمد زكي ومحمود عبدالعزيز، “الوحوش الصغيرة” بطولة سهير رمزي وهياتم. وفي القاهرة تأسست دار نشر، واستوى عودها اعتمادا على “روايات” ولي الدين.
وقال لي صديق إن ولي الدين كان ينشر المسودات؛ فلا وقت لديه لإعادة النظر في ما يكتب، فالمثل يقول “حسن السوق ولا حسن البضاعة”. الآن، وقد هدأ غبار المطابع وضجيج عجلة السينما، انزوى اسم ولي الدين، حتى أن أحدا لا يعرف أين هو؟ وما إذا كان لا يزال على قيد الحياة.
- الإبداع والقراءة
في كتابه “القارئ العادي والتيه النقدي”، الذي يزيد على 350 صفحة وأصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، يتناول الدكتور ممدوح فرّاج النابي قضايا أولها علاقة الإبداع الروائي بالقراء غير المتخصصين، بجمهور كاسح استهدفته في الآونة الأخيرة مجالات بحثية متعددة.
وفي مقدمة الكتاب يحذّر المؤلف من “مخاطر الانسياق خلف آراء الجمهور، لأنها ستقود إلى إهمال للأعمال العظيمة على حساب الروايات الرائجة”، كما أدّت السلطة الجديدة للجمهور إلى تخلّي الكاتب عن حريته، بمراعاة ما يستهوي أصحاب هذه السلطة في سوق الأدب.
في فصل خاص بالرواية الشعبية المبكرة في العالم العربي نجد قول هنري جيمس “إن المؤلف يصنع قراءه بالطريقة نفسها التي يصنع بها شخوصه”. وربما لا يصحّ نقل هذا القول من بيئته الغربية إلى العالم العربي في أزمنة التجارب الروائية الأولى، نهاية القرن التاسع عشر، إذ يذهب النابي استنادا إلى دراسات سابقة إلى رواج سوق الرواية الشعبية آنذاك، وأن “الرواية الشعبية لعبت الدور الأهم في علاقة هذا الفن مع الجمهور” الذي يقول إنه من الطبقة الشعبية من حرفيين وفنيين وأصحاب الأعمال اليدوية.
وأستبعد أن تكون مصر في ذلك الزمان، بحكم الأمية والفقر وتدنّي القدرة الشرائية، قد انتعشت فيها بين الطبقة الشعبية سوق لمثل تلك الروايات أو للكتب عموما. يحتاج إطلاق حكم على نشاط ثقافي “ترفيهي” إلى دراسات اقتصادية واجتماعية؛ لرصد فائض المعرفة والمال لدى المصريين، خارج الدائرة الضيقة جدا للنخبة، وكم كان هؤلاء الفقراء ينفقون على الغذاء والصحة والتعليم؟
في في فصل آخر، وعنوانه “السلطة الخادعة والوعي الزائف.. جمهور الرواية.. رواية الجمهور”، يعيد الاعتبار إلى النثر الذي ظلمه إهمال التدوين، وأنصفه الجاحظ في “البيان والتبيين” بقوله “ما تكلمت به العرب من جيّد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيّد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره”.
ويرجع شيوع الشعر إلى سهولة الحفظ والاستظهار على الرواة، قبل التدوين. ويسجل المؤلف خضوع البعض من الشعراء لرغبات جمهور نوعي من الشعراء والنقاد، في مجالس الأدب، “وإزاء هذه السلطة اضطر كثير من الشعراء إلى تغيير بعض أبيات أو حذف كلمات من قصائدهم”.
تتصدر واجهات بعض المكتبات بالقاهرة روايات مسلية لا تثير قلق القارئ، ذات عناوين لاذعة، وعْظية أو رومانسية أو بوليسية. وبهذه العناوين قفزت “الروايات” الخفيفة إلى الأرصفة، وأحيانا تشق طريقها إلى السينما.
ولا يجد المهتم بالكتب مقالات أو أخبارا عنها في الصحف، والإلحاح على الأعين بهذه العناوين يُبقي بعضا منها في الذاكرة، ولا يقترن هذا البعض باسم كاتب. وفي هذا الظل، أو ما يظنه المهتم بالكتب الجادة ظلا، تناسلت “روايات” تفسر نفسها ولا تحتمل النقد، وتسلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وصار لها جمهور آخر غير مبال بالدراسات النقدية أو المطبوعات الثقافية، هو نفسه الجمهور الذي يتتبع “الرواية” من الورق إلى السينما.
للمرة الأولى يعنى ناقد برصد كتيبة من مؤلفي الظل الرائجة أعمالهم، وقد صعدوا بعيدا عن النقاد والإعلام التقليدي، ومنهم مصري شاب “اقترن اسمه بعوالم الجن والعفاريت والمخطوطات القديمة والقتلة النفسيين”.
كما انتقل من التدوين الإلكتروني إلى النشر الورقي كاتبات “تربين تحت وصايا شرائط عمرو خالد”. ويضرب النابي مثلا بمدونة “قصص دينا عماد” التي “تقدّم الحب والعلاقة العاطفية في تناول تهذيبي”، ولها جمهور عريض يتبادل في صفحاته الشخصية عبارات وردت على ألسنة أبطال “قصص دينا عماد”. وليس غريبا أن يخضع هؤلاء الهواة لسطوة القرّاء المحافظين. بل إن المؤلف يقول إن الكاتب التركي أورهان باموك، في الطبعة الجديدة من روايته “متحف البراءة” الصادرة للمرة الأولى عام 2008 “خضع لسلطة القراء… لسلطة جمهور الرواية، حيث أجاب لجمهور القراء عن دوافع كتابة هذا العمل”، في الطبعة الجديدة.
ويتوقف ممدوح النابي أمام مواقع إلكترونية للقراءة تتيح التفاعل مع النصوص وتقييمها، والتحاور مع النقد ومع نقد النقد. صارت هذه المواقع “سلطة حقيقية” تسمح للجمهور بالتدخل في النصوص، بالمطالبة بالحذف أو إعادة الصياغة، انطلاقا من وازع أخلاقي أحيانا، وهناك تعليقات قاسية منها “ما يمثّل فاشية جديدة، مارسها القراء العاديون وكأنهم أوصياء الرب في مملكته”.
- تحولات الذائقة
في “الرواية والذائقة”، وهو فصل آخر في الكتاب يستعرض المؤلف تحوّلات الذائقة، وهي تخضع في ما يبدو للأمزجة المتغيرة للقراء، بدليل وجود قائمة لأفضل مئة رواية عربية اختارها قراء موقع جود ريدز. وفي غياب معايير النقد الأدبي فإن هؤلاء القراء يقدّمون نقدا شعبويا بديلا ينساق وراء الرواج لا القيمة الفنية، فينحاز مثلا إلى كتاب “أرز باللبن لشخصين” من مدونة المصرية رحاب بسام، وإلى “رواية” الأردني أيمن المعتوم “يا صاحبي السجن”، وهي نص “لا علاقة له بمفردة رواية وما يوازيها من تخييل. فالمتن يحكي عن تجربة ذاتية للمؤلف، حيث اقتيد للسجن بسبب قصيدة ألقاها في إحدى الندوات عام 1996”. وسوف تتفاقم ظاهرة النقد العشوائي، ويكسب أرضا جديدة، مع انحسار النقد الجادّ، واستجابة نقاد صفق البعض منهم لقصص معمر القذافي، في ندوة بمعرض القاهرة للكتاب وفي حلقة بحثية بليبيا، حتى أن ناقدا اعتبر أدب القذافي عصيّا على التجنيس.
يقول النابي إن محفوظ عهد إلى طه حسين بمراجعة رواية “أولاد حارتنا”، وهي معلومة جديدة تأخذنا إلى قضية المحرر الأدبي، التقليد المستقر في النشر الغربي، وغير المرحّب به في العالم العربي؛ لشعور الكاتب بالحرج من أن يمس نصوصه أحد، بتعديل يصل أحيانا إلى حذف شخصية من مخطوطة رواية، أو إضافة مشهد، أو إشباع موقف درامي والاستغناء عن آخر.