نقد

الأدب الصومالي: عزلة ومآزق أخرى

  • مدى اقتراب الحالة الثقافية الصومالية من الحالة العربية

تبدو الصورة الذّهنية الشائعة عن الصومال لدي الكثيرين في العالم العربي متأثّرة الى حد كبير بأخبار الحرب ومتعلقاتها من كوارث ومجاعات، بل أكثر من ذلك يمكن أن نقول إنه لا توجد معرفة في العالم العربي عن الصومال غير صومال الحرب والتّمزق.
لهذا السبب هناك اليوم حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى فتح النقاش حول المسألة الصومالية، بغية التطرق إلى أمور عدّة تتعلق بهذا البلد العضو في الكيان السياسي العربي دون أن يكون عربيا بما يكفي. كيف دخلت الصومال الى الجامعة العربية، ولأيّ غرض وغاية؟ وماذا تفعل هناك؟ وما معنى العروبة المقصودة بعبارة من قبيل “بلد عربي” تتردّد في الخطابات الإعلامية والسياسية بشكل سلس، إذا كانت فكرة العروبة كما نظّر لها المفكرون العروبيّون قائمة على أساس اعتبار العربيّة لغة أمّ مشتركة، وهي ليست كذلك بالنسبة للصوماليين؟ وإلى أي مدى تقترب الحالة الثقافية الصومالية من الحالة الثقافية العربية؟ وما مدى التأثير والتواصل؟ كل هذه أسئلة مطروحة بإلحاح على الصومالي الموجود في داخل الثقافة العربية، لكن ما يهمنا في هذه المساحة، هو الوقوف على تعريف عام لحالة الأدب الصومالي وعلاقته بالثقافة العربية، والنظر إلى المآزق التي يواجهها.

  • بأي لغة؟

تصنّف اللغة الصومالية ضمن مجموعة اللغات الكوشية التي تبلغ ثلاثين لغة ولهجة يُتحدّث بها في شمال السودان وإريتريا والصومال وإثيوبيا، ومن هذه اللغات الكوشية تعتبر الصومال والجالا أوسع اللغات انتشارًا، وعدد المتحدثين بهاتين اللغتين معًا أكبر من المتحدثين باللغات الأخرى.

كشأن كثير من الثقافات الأفريقية كانت الثقافة الصومالية تعتمد على النطق ونظم الشعر مشافهة، ولم تمتلك اللغة الصومالية نظام تدوين يتفق عليه الجميع إلا في عام 1972، وهو تقريبا الإرث الإيجابي الوحيد من العهد العسكريّ. ورافقت عملية تدوينها جهود مضنية تمثلت في ترجمة الكتب المدرسية وصوملة المناهج التعليمية، وتدوين الشعر الشفهي بسلاسل شعرية، ومن ثمّ كانت بداية المسرح والرواية وأشكال الإبداع الفنّي الأدبي الأخرى.

في سياق اللغة، ثمة جدل قديم وقائم أفريقيًا، وهو متّصل بسؤال هل ندعو الأدب وطنيّا تبعًا لهوية الكاتب أم هو أدب أجنبيّ تبعًا للّغة المكتوب بها والجمهور الموجّه إليه، وهو جدل يتمحور حول الهوية اللغوية لأدب أفريقيا بشكل عام، وتنقسم الآراء فيه إلى طرفين كما هو الشائع، طرف ينادي بضرورة استخدام اللغات المحّلية والاعتزاز بها ومقاومة اللغات الأجنبية، وطرف مقابل ينادي بضرورة جعل الصوت الأدبي المحلي مسموعا لدى العالم عبر الكتابة بلغات عالميّة، والإسهام بأدب عالميّ “ومدّ بقية العالم بشيء”.

  • الأدب الشعبي وثيمة الجمل

يرى الباحث الصومالي أحمد إ. عواله بأن الظروف الإيكولوجية التي سادت في الصومال قبل نحو ألفي عام قبل الميلاد أدّت إلى اعتبار الجمل أنسب حيوان للرعي لقدرته على التكيّف مع التغيرات البيئية، من هنا كانت للجمل أهمية اقتصادية واجتماعية نظر إليها الناس كأثمن ملكية يمتلكونها وأعلاها قيمة، ووجود الجمل في صميم الحياة اليومية، في الزواج وإكرام الضيف والنّهب والاقتتال ودفع الدية والمصالحة. ومع موجات الانتقال الى المدن حظي الصومال بأكبر عدد من الإبل في العالم. ولهذا السبب نجد أن الأدب الشعبي الصومالي متمحور حول الجمل والاحتفاء والتغنّي به، إنه أدب يشكّل الجمل موضوعه الرئيس، بما يشمله من أدب شعبي يحتوي على أنواع التعبير من شعر ونثر وأمثال وعبارات دارجة متداولة على شكل حِكم.

إضافة الى حضور ثيمة الجمل هاته، يلاحظ دارسو الفولكلور الصومالي أنه فولكلور واسع يزخر به المتخيل الشعبي بوفرة المضمرات الرمزية والأبعاد الأسطورية التي تحمل دلائل تعبر عن نظرة ثاقبة الى الحياة والوجود. ولم تفتأ المحاولات الأولية من أجل تكريس الاهتمام بالفولكور الشعبي الصومالي عبر تجميعه وحفظه، بما يحويه من شعر شعبي ونثر، وترانيم، وحكايات، وألغاز، وطقوس، وأمثال وأغان، وشخصيات أسطورية. ومن تلك المحاولات المحتشمة مختارات قام بتجميعها وترجمتها إلى الإنكليزية الكاتب الروسي المتخصص باللغة الصومالية جورج كباشتس تحت عنوان “الحكايات الشعبية الصومالية”، والكتاب الذي نشره الباحث الصومالي أحمد علي أبوبكور بعنوان “الجمل في التراث الشفاهي الصومالي”. لكن لا ريب أنه ما تزال هناك حاجة ملحة لإجراء المزيد من البحوث للتعرّف إلى مضامين هذا الأدب ومعالجة ما يطرحه من قضايا جمالية ودلاليّة.

  • هل من أدب صومالي حديث؟

يتساءل الروائي والكاتب الصومالي إبراهيم هَوْد في أحد مقالاته حول الكتابة باللغة الصومالية، عن حال الإنتاج الأدبي الصومالي في السابق، ويجيب محقّا بأنه كان لدينا شعراء، ولكن لم يكن للأدب وجود بمعناه السردي الذي يحتوي على مكوّنات مثل الرواية والمسرح والنقد، باعتبار أن هذا الشكل هو العلامة على اقتحام الحداثة. ونجده في مكان آخر يستخدم عبارة “الفضيحة” معلّقا على انحسار الكتابة بالعربية في داخل الصومال والتي كانت شائعة قبل الاعتماد الرسمي على الأبجدية الحالية، وعلى حال رجل الدين الصومالي الذي تحوّل إلى نسخة متخلفّة من الوهابية، ولم يعد يمتلك صوتا مستقلّا في فكره الديني الإسلامي كسابق عهد الصومال الطويل بالطرق الصوفية.

بنحو أعمّ لا بد من أن نتذكر حداثة تدوين اللغة الصومالية بشكلها الحالي، وبالتالي كل شيء مكتوب حاليا بالصومالية يعتبر حديث عهد. وأول رواية مكتوبة بالصومالية بشكلها السردي الحديث هي رواية محمد أفرح طاهر “مانَ فاي” وأصدرها في عام 1981، وتبعتها منذ ذلك الحين عشرات الروايات وعدد أكبر من أعمال ودواوين شعرية، والتي تتناول أغلبها موضوعات اجتماعية وسياسية وتاريخية. وتصاعدت وتيرة إنتاج الرواية وأخذت مناحي مختلفة من حيث المضمون تحت تأثير المتغيرات السياسية التي انطلقت سيرورتها بحلول عقد التسعينيات، ومع ما عرفه الصومال من أحداث جسيمة، بحدوث الاقتتال الأهلي، كما اختبر الصوماليون العديد من الملفات الملحّة والحارقة مثل العنف الجهادي والتّهريب عبر البحر والحياة في الشتات ومخيمات النازحين في أصقاع العالم والتبعثر الهويّاتي، وأعتقد أنه رغم كل ما كُتب، لم تُنجز بعد أعمالٌ روائية صومالية تعبّر عن الوجع الصومالي الهائل وتفاصيله المتشعّبة.

  • الإنتاج الشبابيّ

إذا نظرنا إلى جانب الإنتاج الشبابيّ نلاحظ أنه مع شيوع فكرة التدوين الحرّ وما منحته المنصّات الحرة لجيل الشباب بالتعبير عن أنفسهم بشكل أكبر، اتّجهت الغالبية منهم إلى إنتاج القصة القصيرة بشكل أكبر مقارنة بنظيراتها من السرد الأدبي الفنّي. أما الكتاب الذين ينتجون أعمالهم بلغة أخرى، خصوصا من يكتب بالعربيّة، فإنه لا بدّ وأن يواجه مأزقا يتعلقّ بالجمهور والانتشار، فعدم وجود دور نشر عربية في الصومال وقصور الكتاب الصومالي في الداخل فقط يحتّم على الكاتب الاختيار: إما أن ينشر كتابه في الخارج وبذلك يفقد القارئ في الداخل والذي يهمّه الأمر، وإما أن ينشر كتابه في الداخل وذلك يعني مخاطبة جمهور أقلّ، وأن يتشكّل لديه جمهور مكوّن من أقلية لغويّة في داخل بلده.

في الصومال ما يزال اقتصاد الثقافة فكرة غائبة تماما، ولا توجد جوائز مخصصة للأدب أو النشاط الثقافي ككلّ، وهناك فقر في المؤسسات التي تعير المسألة الثقافية بالا، حيث تعدّ بأصابع اليد الواحدة جميع المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي. إذن الثقافة مسألة ملغاة، وقابلة للتهميش، فتظاهرة معرض الكتاب في هرجيسا مثلا الذي تحتضنها مؤسسة “ريد سي” من كل عام تمثل إحدى تلك السمات القليلة على وجود حراك ثقافي بات يرى النور، ومؤخرًا أخذت هذه الظاهرة بالانتشار وباتت تقام معارض كتب في مدنٍ صومالية عديدة. بالإضافة الى ذلك، بدأ ينمو حراك نوادي القراءة والملتقيات الثقافية الذي تشتغل عليه فئات الشباب.

يوجد مأزق آخر في الحالة الأدبية الصومالية يتعلّق بغياب النقد وعدم مواكبته للمنجز الأدبي، إذ يغلب السلوك الاحتفالي على كل ما يُكتب بغضّ النظر عن مضمونة الإبداعي والفنّي. وهناك ضرورة للتشجيع والدفع في سبيل إيجاد إبداع صومالي يمثل نفسه، وفي الآن ذاته لا بدّ أن يكون للنقد دوره بما هو جزء أساسيّ من معمار المشهد الإبداعي.

يعتبر كثيرون في العالم العربي وبأشكال مختلفة أن الرواية العربية اكتسبت مشروعيتها بعد أن نالت الاعتراف بها من العالم الغربي بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل. ولعلّنا من هذا المنطلق نشير إلى أن ما يحتاجه الأدب الصومالي هو الاقتباس من الآخر والخروج من حالة العزلة والانغلاق على الذات وماضيها، والخروج من المقولة المسلّمة التي مفادها أن الإنتاج الأدبي الصومالي الذي يهيمن هو الشعر (النظم) وهو غير قابل للترجمة، ولا يهم في مجمله إلا الصوماليون! إن نيل اعتراف الآخر مرهون بفرض الوجود وبذل الجهود في الاحتكاك مع الآخر أياّ تكن لغته. ألم يعلن غوته أن كل أدب ينتهي بأن يملّ نفسه ما لم ينعشه إسهام أجنبي؟

 

صهيب عبد الرحمن

كاتب من أرض الصومال. مهتم بقضايا الفكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى