إصداراتاللغة العربيةسيميائيات

العربية ورهانات التدريج

الكتاب: اللغة العربية : بين المعيارية ورهانات التليج

المؤلف : سعيد بنكراد

الناشر : منشورات علامات

الطبعة : الأولى 2020


  • مقدمة

يتناول هذا الكتاب، بفصوله الستة، مجموعة من القضايا الخاصة باللغة عموما وباللغة العربية ورديفاتها اللهجية على وجه الخصوص. وهو عبارة عن دراسات نؤكد فيها فرضيات أكثر مما نصوغ أخرى جديدة.


ومع ذلك، فإن هذا التأكيد له ما يبرره في طبيعة السجال الذي عرفته بلادنا وبلاد الجوار الناطقة بالعربية حول ضرورة تبديل العربية المعيارية بلهجات محلية. ذلك أن طبيعة اللغة ووظيفتها وموقعها في الحياة ليست من بداهات الوجود، كما يتصور ذلك الكثيرون.


فكثير من المتكلمين ليسوا معنيين البتة بمعرفة ما تمثله اللغة في حياتهم أو الوظيفة التي يمكن أن تقوم بها، فهم يستعملونها في غفلة من أسرارها، فهي لا تختلف في شيء عن مجموع الوظائف البيولوجية التي تحرك الإنسان وتتحكم في موته أو حياته.


وقليل منهم أيضا لا يتعامل معها سوى باعتبارها أداة عرضية يمكن تبديلها بأخرى، أو يمكن التخلص منها بعد الاستعمال دون تشويش أو ضرر قد يلحق الكينونة أو يقلص من العوالم التي تأتيها من خارجها.


فاللغة في تصورهم هي مجرد أداة خارجية تأتي إلى الذات بعد الولادة كما تأتي إليها الأحلام والرغبات العابرة. فالأساسي في التبادل الاجتماعي والحوار الإنساني ليس لغة تعيد بناء العالم في مستويات بالغة التجريد، بل ما يمكن تبادله من أشياء على مستوى الحاجات المباشرة وغير المباشرة.


وقد يكون هذا التصور من الأسباب التي يقدمها الإشهاريون في المغرب مثلا لتبرير اعتمادهم الدارجة أداة للإقناع. فهم يعرضون “بضاعة” صامتة يجب أن يتلقاها المستهلك بلغة “محايدة” تكتفي في الغالب بتفسير دواعي الاستعمال والغاية والمنفعة المرجوة منها، أما ما يمكن أن تحيل عليه هذه البضاعة من انفعالات دفينة لا تُرى بشكل مباشر، فلا يُشكل مبررا كافيا للاعتناء بلغة العرض أو تغييرها ( الفصل الخامس).


والحال أن اللغة ليست من هذه الطبيعة، ولا يمكن اختصار وظيفتها في توجيه الكائن البشري إلى التعرف على عالم موجود في ذاته. فنحن لا نستحضر هذا العالم من خلال أصوات تضع الأشياء أمام الحواس، بل نُدرك سرها بواسطة كلمات لا تستوعب وجودا جاهزا، بل تُضَمِّن التعيين والتسمية موقفا ورؤية وتصنيفا.


إن الإنسان ذاته ليس سوى التمثلات التي تستوطن اللغة وتعشش في كل مستوياتها. لذلك، فإن الأشياء والكائنات التي تستوطن اللغة لا تموت أبدا. ” فنحن لا ننطلق من اللغة وإنما نعود إليها” (هايدغر).


بعبارة أخرى، إن اللغة ليست بديلا عرضيا عن عالم موجود في مادياته وحدها، وهي أيضا ليست غلافا عابرا “لفكر جاهز، بل هي الأداة التي يتخذ من خلالها الفكر شكلا (كاسيرير)، فما هو أساسي في الوجود ليس ماديات الأشياء وظواهره وسلوك الكائنات ومواقفهم، بل الوجه المفهومي الذي يكشف عن مضامينها.


وهو ما يعني أن اللغة لا تتميز بتركيبها ونظامها الصوتي والدلالي فحسب، بل تتميز أيضا بنوعية مفرداتها وقدرتها على إعادة بناء الواقع داخلها وفق قوانينها هي لا وفق مظاهر الأشياء.


ذلك أن المعرفة ذاتها ليست كَمَّا مفصولا عن اللغة، وإنما هي سيرورة فكرية موجهة نحو غاية هي محاولة مثلى لتقديم وصف لفظي للواقع. إنها تجميع لمعارف تعود إلى وقائع الحياة والطبيعة وتكثيف لها، وهي أيضا رصد لمجمل الروابط الممكنة بين الناس ومحيطهم.


إن قيمة اللغة تكمن في قدرتها على استيعاب هذه الوقائع ووصفها استنادا إلى المتاح المعرفي والثقافي المعاصر ( الفصل الثاني).


وذاك أيضا جزء من طبيعة الهوية ومكون من مكوناتها، فهي تتطور وتتنوع واجهاتها في لغة تبدع قيما جديدة، لا أن تكون مجرد حارس أمين لما أنتجه السابقون فقط، كما يصر على ذلك بعض حماتها. وهي صيغة أخرى للقول، إن قيمتها تكمن في قدرتها على تجديد النظر في العالم وإبداع صور متطورة عنه تستجيب للحاجات الجديدة.


فطبيعة الإبدال الحضاري الجديد لا يدعو إلى “تحصين ” الذات داخل زمنية تخصها وحدها، بل يقتضي في المقام الأول تأهيلها بما يمكنها من استيعاب ما يأتيها من خارجها استنادا إلى طاقة لغتها وخصوصية الإرث الحضاري الذي يتجلى فيها ومن خلالها.


لسنا خارج الزمنية الإنسانية، ونحن من يجب أن ينتمي إليها اعتمادا على لغتنا وإرثنا الحضاري بكل مكوناته وروافده، فالشعوب الناجحة هي تلك التي استفادت من المردودية العلمية للغات الأجنبية، ولكنها حصنت ذاتها بلغتها أو لغاتها الوطنية (الفصل الأول).


وتلك خطورة التلهيج. ذلك أن الغاية من الدعوة إلى استعمال الدارجة في التدريس، ليست مجرد استبدال لغة بأخرى، بل هو ما يمهد الطريق نحو التخلص من العربية لصالح لغات أجنبية، هي أداة التبادل التجاري والمالي بين مركز “متخم” بالحضارة، ومحيط يكتفي باستيراد نماذج جاهزة لم تنتج لحد الآن حداثة حقيقية،


وإنما عوضتها بـ”تحديث” براني أفرز “كائنات استهلاكية” ظلت مشدودة إلى القيم التقليدية في تدبير كل شيء في حياتها. وذاك مصدر الحاجة إلى مواجهة العربية بالوقائع التي تتسرب إلى عوالم محيطها ووقائعه، يجب أن تحتك بما تسمي وتصف، فمردودية اللغة تتحقق في قدرتها على قراءة ما يفرزه محيطها ( الفصل السادس).


لذلك، لا يتعلق الأمر من وراء هذه الدعوة باختيار يروم استنبات نموذج حضاري جديد تبنيه لغة “عالمية”، كما يوهمون الناس بذلك، بل هو في أصله بحث عن “ربح اقتصادي سريع” بذهنيات استهلاكية مطواعة. إن سلوك الداعين إلى الدارجة شبيهٌ بسلوك التاجر، فعلى عكس “الصناعي” الذي يستثمر على المدى البعيد في الإنسان والآلة.


فإن التاجر لا يقوم سوى بمبادلة المال بالمال، أي مقايضة بضاعة جاهزة بمقابل مالي مباشر لا تأثير له في الذات ولا في محيطها: يكفي استيراد لغة جاهزة من الخارج لنحدث ثورة في الاقتصاد والصناعة ( لقد تبنت نيجيريا الإنجليزية لغة وطنية لها، ولكنها ظلت مع ذلك متخلفة ولم تتخلص من القبلية وبوكو حرام).


والحال أن الكفاف ليس في متاع الدنيا فحسب، إنه في اللغة التي نستعملها للاستجابة إلى الحاجات أيضا. فاللغة لا توجد من خلال ما “يوحد بين الناس” فقط، بل تستمد قيمتها من قدرتها على التمييز بين الناس أيضا؛ تمييز المتعلمين من غير المتعلمين، وتمييز الأذكياء عن الأغبياء، وتمييز المتحضرين عن المتخلفين.


بعبارة أخرى، إن النفعي مشترك بين كل الناس، أما المتعة فتفصل بينهم، لأن الوجدان ليس مساحة عذراء تبنيها الفطرة وحدها، بل هو حاصل سيرورة تعلم واحتكاك مع آخرين منا أو من غيرنا تلعب فيه اللغة دورا مركزيا ( الفصل الرابع).


وتلك وظيفة المدرسة، إنها ليست تلقينا لمعارف ” بكر”، أو تعليما للكتابة والقراءة فحسب، بل هي في الأساس طريقة مهذبة لتقديم العالم إلى ناشئ يستهويه، في مراحل عمره الأولى، حس الأشياء أكثر مما تستقر ذاكرته على مفهوم يدل عليها.


فإما أن نقدم إلى المتعلم عالما غنيا متعددا واسعا يساعد الذهن على التفتح واستيعاب تعددية الوجود في الطبيعة والأفكار والمعتقدات، وإما أن يكون هذا العالم وثيق الصلة بما يمكن أن يمليه العيش الحافي وحده.


بعبارة أخرى، هناك، فيما هو أبعد من الوجود الوظيفي، متعة الفضاء الروحي، يتعلق الأمر بإحساس لا يتحقق من خلال ما يعين أو يسمي، بل من خلال ما يوحي أيضا. ولقد كانت الدارجة، في الكثير من استعمالاتها، مشدودة دائما إلى حالات البقاء هاته.


وهي صيغة أخرى، للقول إن الذاكرة الدلالية قصيرة في التعبير الدارج، فإكراهات التواصل الشفهي المباشر يقلص من مدى هذه الذاكرة ويوجهها إلى الحاضر أمام الحس، لا المتواري في دهاليز النفس والوجدان (الفصل الثالث).


والحاصل أن الاحتفال وحده لن يحمي العربية مما تتعرض له يوميا من إقصاء، كما أن تهميشها والنيل منها لن يقود، كما يتوهم البعض، إلى صرف الناس نظرهم عنها وسعيهم إلى تعلم لغات جديدة تكون هي نافذتهم على العلم والحداثة والتحديث، بل سيقود إلى المزيد من إفقار الذات وعرضها على عالم بدون حماية “مفهومية” متطورة تمكنها من وعي محيطها بطريقة فضلى (انتبهوا إلى لغة الشباب وفقرها المتزايد وستدركون السر في تنامي ظاهرة العنف في الشوارع).


استنادا إلى كل ذلك لا قيمة للاحتفال بعيد خاص بالعربية، إذا كانت الممارسة اليومية تدفع بها يوميا إلى التخلي عن مواقع تحتلها في الغالب لغة حسية بلا مردود علمي.


لذلك قد لا يكون الاحتفال، في الكثير من الحالات، سوى طريقة مهذبة لدعوة المحتفى به إلى الانسحاب من فضاء لم يعد له مكان فيه، تماما كما نفعل ذلك مع الرياضيين والأبطال القدامى والمتقاعدين حين نكرمهم ونشكرهم على ما قدموه لنا في ” الماضي”. فهؤلاء جزء من زمنية ولت ولن تعود أبدا.


إن العربية في حاجة إلى قرار سياسي يعيدها إلى فضائها الحيوي الذي فقدته، أو فرضوا عليها التخلي عنه، فاللغة تحيا بدينامية “الوسط” الذي يحتضنها وتكون هي واجهة من واجهاته الرئيسية.


تماما كما تكبر وتتطور من خلال استيعابها للمنجز الفكري المعاصر وفق طاقتها في التقطيع وإعادة صياغة الكون من خلال مفهمة تنمو مع نمو الحاجات وتنوعها. فلا يمكن للغة أن تستمر في الوجود إذا كانت غريبة عن محيطها.


وسيكون المبدعون بالعربية في العلوم وفي كل مجالات فن القول هم حماة هذه اللغة، ويكون الذين يترجمون ويعيدون كتابة تاريخ الفكر الإنساني من خلال


ممكناتها في الدلالة والتركيب هم مصدر قوتها. فهؤلاء وأولئك هم من يمد اللغة بعناصر البقاء والتطور والابتكار، وهذه العناصر ليست سوى طريقة في بلورة تمثلات جديدة تشمل كل شيء في حياة الناس، فاللغة جزء من وجودنا في الحياة، أو هي “بيت كينونتنا”، كما يقول هايدغر.


  • المحتويات

الفصل الأول : اللغة: الهوية الثقافية والوحدة الوطنية

الفصل الثاني : اللغة بين المعياري والدارج

الفصل الثالث : الكتاب المدرسي ورهانات التلهيج

الفصل الرابع: هل الدارجة في حاجة إلى قاموس ؟

الفصل الخامس : الدارجة وبناء الوصلة الإشهارية

الفصل السادس : “النكات الخاسرة” والعري اللغوي

سعيد بنكراد

د- سعيد بنكَراد؛ أكاديمي ومترجم مغربي، أستاذ السيميائيات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس. الرباط - المغرب. يُعدُّ من أهم المتخصصين في السيميائيات في العالَم العربي. المدير المسؤول لمجلة "علامات" المتخصصة في الدارسات السيميائية، نَشر عشرات المؤلفات، منها: "وهج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية" (2013)، و"النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا" (1996). وعدد من الترجمات، منها: "رسالة في التسامح" لفولتير (2015)،و"دروس في الأخلاق" لأمبيرتو إيكو (2010)، و"تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لميشيل فوكو ( 2005).

تعليق واحد

  1. من خلال المقدمة وعناوين الفهرس تظهر قيمة الكتاب .وبحكم تخصصي إتمنى إن أحصل على نسخة منه ..وأكون شاكرا لمن يفيدنا بذلك..بارك الله في الكاتب والناشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى