الترجمة لغة العالم
يخلد العالم في 30 شتنبر من كل سنة، اليوم العالمي للترجمة، اعترافا بدورها الريادي في مد جسور التواصل والحوار بين المجتمعات والدول، و تقريب المسافات بين اللغات والثقافات.
وبذلك أصبحت الترجمة لغة العالم التي يتكلم بها، بحثا عن الانفتاح و التقارب بين الشعوب وإرساء أسس التعاون والتضامن في عالم مزقته الصراعات والحروب والانقسامات والكراهية والعنصرية.
أي ترجمة نريد للألفية الثالثة؟ كيف يمكن تصحيح مسارها لجعلها تسمو فوق لغة المصالح والأهواء والتمركز الذاتي؟ كيف يمكن لوعينا الجمعي الاقتناع بدورها الاستراتيجي ليس فقط في بناء الثقافات ولكن في إعادة بناء الحضارة الإنسانية التي تتهاوى وتتجه نحو الانحدار؟
لقد كان ولا يزال دور الترجمة حاسما للتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى ومستوى تطورها لمواكبة المتغيرات على جميع الأصعدة. لذلك، شكلت الترجمة جسرا ممدودا بين الدول والمجتمعات على مر العصور، في إطار من التفاعل والحوار والتعاون بالرغم من الاختلاف والصراع بخلفيات الهيمنة والسيطرة خدمة لمصالح وأهداف اقتصادية و سياسية. لكن الشعوب كانت دوما تتواصل و تتعاون وتتكامل من أجل خلق مناخ التعايش المشترك بما يحقق السلم والاستقرار والتضامن.
في هذا السياق، تعمل الترجمة في المقام الأول على فهم ثقافة الآخر واختلافه، في شروطه التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، كبنيات أنتجت مجموعة من النصوص والمعارف في مختلف الميادين العلمية والفكرية والأدبية، يتوجب على المترجم فهمها وتفكيكها تفكيكا منهجيا للوصول إلى ما وراء النص و البنيات العميقة المتحكمة في النص الأصلي.
بهذا الفهم، تعتبر الترجمة أداة أساسية لحوار الثقافات والمجتمعات وتقاسم المعارف في مختلف المجالات الفكرية والعلمية والأدبية بالرغم من الاختلاف والتعدد. يقول أنطوان برمان :” إن جوهر الترجمة هو الانفتاح والحوار و التلاقح والتفتح، ووجودها رهين بتواصلها.”
إذا كانت الترجمة تساهم في تدبير التواصل والاختلاف اللغوي والثقافي فهي أيضا تعمل على تطوير العلم والمعرفة في مختلف اللغات وثقافات العالم بما تتيحه من إمكانيات الإطلاع على الحقائق العلمية والاجتهادات المعرفية باعتبارها تتخذ طابعا كونيا تساهم فيه مختلف الثقافات والحضارات في تطورها وتفاعلها. فالترجمة ساهمت تاريخيا في تطوير الثقافات والحضارات عبر العصور بنقل الإرث الفكري والعلمي الذي أدى فيما بعد إلى تقدمها و ازدهارها.
والأمثلة عديدة ومتنوعة للمترجمين العرب الذين ترجموا الفلسفة والفكر اليوناني إلى اللغة والثقافة العربية والاستفادة من الحضارة اليونانية وازدهار العلوم وخصوصا في العصر العباسي. كما ساهمت الترجمة التي أنجزها العلماء العرب لأعمال الفلاسفة اليونانيين، في إحداث الطفرة الفكرية والفلسفية ليس فقط بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية وإنما للإنسانية ككل.
بحيث انتقلت، في ما بعد، إلى أوربا لتشكل النواة الصلبة والمنعطف النوعي الذي سيؤدي إلى النهضة الأوربية وإقلاعها الفكري والعلمي و بروز النزعة الإنسانية والتحرر من الفكر الإقطاعي للقرون الوسطى ابتداء من القرن السادس عشر، في صيرورة متواصلة الحلقات، مرورا بعصر الأنوار للقرن الثامن عشر وتطور الفكر العقلاني مع مجموعة من الفلاسفة المتنورين، كجون لوك وجان جاك روسو و مونتسكيو وفولتير وديدرو.
وتأسيسا على ما سبق، يمكننا القول أن الترجمة تكون حاضرة في أي تقدم وتطور للمجتمع، وتساهم فيه بفعالية، من أجل تملك العلم والمعرفة والتكنولوجيا والانطلاق نحو بناء المستقبل والتفوق في جميع المجالات، بترجمة العلوم ومعارفها، مساهمة بذلك في الانفتاح البناء والإغناء والملائمة مع اللغة والثقافة الهدف. هذه الترجمة شكلت الأساس الفكري والعلمي الذي ستبني عليه الدول الأوربية نهضتها وتقدمها وخصوصا حين ربطت الترجمة بالاجتهاد العقلي والمنطق والتحرر من الفكر الإقطاعي المتخلف للقرون الوسطى.
لذلك، فإن أي مجتمع أراد تحقيق النهضة العلمية والتقدم، مطالب بتوفير الإرادة الفعلية للتغيير الايجابي نحو المستقبل وفق إستراتيجية شاملة تكون الترجمة إحدى ركائزها، وذلك لتدبير الاختلاف الثقافي مع الثقافات الأخرى والتواصل من أجل تطوير مشروعه الفكري والعلمي والمعرفي واستدراك التأخر التاريخي.
لكن، نلاحظ اليوم أن كثيرا من الكتب العلمية في مختلف التخصصات لا تترجم في حالات كثيرة إلا بعد مرور عقود أو قرون من الزمن، دون أن تكون للباحثين والمفكرين والعلماء والطلبة إمكانية قراءتها فور صدورها. الشيء الذي يؤدي إلى التأخر وعدم مسايرة التطور الفكري والعلمي والسقوط في الجمود وإعادة استهلاك الفكر التقليدي بدون القيام بتطوير الفكر والعلم في علاقتهما وتفاعلهما بالمتغيرات الحاصلة في المجتمعات و الثقافات الأخرى.
أما اليوم، فإن الطفرة الرقمية غيرت الشيء الكثير في بنياتنا القيمية والذهنية، وفي شكل التعامل مع المعرفة والعلم. فالترجمة مطالبة بالمساهمة في إنجاز الحوار، لخلق التغيير المطلوب كضرورة العصر ومتطلباته والأخذ بأسباب التقدم لتحقيق مجتمع العلم والمعرفة ضمن تصور عقلاني ومغاير، للحد من واقع الانحطاط والجمود الفكري الذي نعيشه حتى يكون لنا موقعا بين الأمم المعاصرة . وهذا لا يمكنه أن يتحقق إلا باستراتيجية واضحة للترجمة تتوخى بناء أسس صلبة لمجتمع العلم والمعرفة و ثقافة الاختلاف والتعدد يكون بديلا لعالم يهيمن فيه نموذج حضاري أحادي يعتمد القوة والإقصاء.
لقد أصبح التواصل العلمي بين الثقافات ممكنا وسريعا بفضل الترجمة واستعمال التكنولوجيا الرقمية التي تقرب المسافات والاختلافات بين المجتمعات. وذلك بترجمة الكتب والنصوص الورقية و الرقمية أو أثناء عقد الندوات والمؤتمرات. ولتوفير مترجمين وباحثين في الترجمة تم إدراج الترجمة كمادة للتدريس في الجامعات والمعاهد في أغلب دول العالم، نظرا لأهمية هذا التخصص في تكوين كفاءات، تنظيرا وممارسة في هذا الحقل المعرفي و العلمي الواعد، لمواكبة تطور البحث العلمي في مختلف الميادين .
هذا الأخير، يحتاج إلى أطر متخصصة في الترجمة قادرة على إنتاج ترجمات جيدة، تواكبه وتسنده لترجمة الكتب والمقالات العلمية أو النقاش والحوار سواء فيما يتعلق بالمصطلحات العلمية أو البحث عن التكافؤ اللغوي والثقافي في مختلف ميادين الآداب والعلوم والفكر. كما تكتسب الترجمة أهمية بحثية رصينة لتطوير اللغة العلمية للغة العربية في علاقتها بلغات العالم.
أيضا، تساهم الترجمة العلمية من وإلى العربية في انفتاح المعرفة العلمية بكل أبعادها و ما توصلت إليه الثقافات الأخرى من علم ومعرفة و العمل على تملكهما. وخصوصا حين يكتب الباحثون والمتخصصون أبحاثهم العلمية باللغة الأم وترجمتها إلى لغات العالم.
إن المعرفة العلمية هي معرفة إنسانية تركيبية، وليدة سيرورة متواصلة الحلقات. ساهم في إنتاجها وتطويرها باحثون متخصصون ينتمون لشعوب مختلفة من العالم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، و بلغاتهم الوطنية. لكن ما نلاحظه هو أن لغات وثقافات العالم أصبحت عبارة عن روافد، كلها تصب في لغة علمية عالمية مهيمنة وهي اللغة الانجليزية وثقافتها الانجلوسكسونية. تكرس مركزية الثقافة الأوربية والغربية بشكل عام. وتستعمل الترجمة بشكل كبير لنقل ما ينتجه الكتاب والباحثون المتخصصون إلى اللغة الانجليزية كلغة العولمة بامتياز، إلى جانب اللغة الصينية الصاعدة والمنافسة.
ولنا أن نتساءل : كيف للغة تحتل الرتبة الرابعة عالميا وتعتبر من اللغات الرسمية بالأمم المتحدة أن يتم التشكيك في علميتها ومصداقيتها ؟ إن اللغة العربية هي لغة العلم والمعرفة بامتياز. تتطلب من الباحث والمتخصص والكاتب وكل الناطقين بها، استعمالها في أبحاثهم وإبداعاتهم، لأن في استعمالها وتداولها والإبداع بها، يعتبر تأهيلا لها وتطويرا لقدراتها التواصلية والترجمية في معادلة البحث العلمي والتواصل الثقافي.
كما يعتبر الانفتاح على لغات العالم كلغات وظيفية أساسيا، لاستعمالها قصد التواصل و الترجمة، وإغناء ثقافتنا بالعلم والمعرفة، وجعل البحث العلمي يواكب الطفرات العلمية والرقمية والتكنولوجية التي يعرفها العالم بسرعة ضوئية.