على آثار فولتير في مقهى البروكوب
يتأمل الكاتب الجزائري بقدر كبير من الحنين للماضي الذي اندثر، ما جرى للمقهى الباريسي القديم الذي كان صالونا ثقافيا للتفاعل بين الأفكار، وموطن ميلاد الكثير من الحركات الأدبية والفكرية والفلسفية. وكيف أن تاريخ تلك المقاهي الباريسية العريقة التي لم تُهدم كمقاهينا التاريخية، يناظر تاريخ التنوير والفكر.
لا جرم أن المقاهي الأدبية كانت وجها من وجوه البلد الثقافية بل صورتها تعكس حالة النشاط الذي يميزه، والخصب الذي يطبعه بطابعه. كما يعكس اندثارها أو قلتها حالة الجدب الذي ينتابه. هذا ما كان يميز عواصم العالم الثقافية بمقاهيها كالقاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وباريس ولندن وروما.
والذي لا شك فيه أن القهوة شراب عربي يمني الأصل، فقد كان منقوعه زاد المتصوفة يعينهم على السهر للتأمل والعبادة كما كان زاد الشعراء والملهمين. والأكيد أن القهوة أطلقت أول الأمر على الخمرة فقد قال الأعشى:
نازعتهم قضب الريحان متكئا ** وقهوة مزة راووقها خضل
وانتقل معنى القهوة من دلالته على الخمرة إلى هذا المشروب الأسود الساخن والمنعش والمنبه، واتُخذت له أماكن لشربه في عواصم الشرق منذ أن سمح بذاك السلطان سليمان الأول باتخاذه مشروبا للشعب، بعد الإفتاء بحليته وغدا الشعار “القهوة شراب والقهوة مجلس.”
ومن المشرق ومقاهيه نقل المستشرقون والرحالة الأوروبيون صورا رائعة عن الحميمية والتثاقف والمتعة الموجودة في هذه المقاهي فانتقلت إلى أوروبا.
وازداد المقهى أهمية وتكرس فضاء للتثاقف والتسلية والحميمية في القرن العشرين نتيجة الحربين العالميتين من جهة، ومن جهة أخرى إحساس الفرد بالعزلة والحاجة الماسة إلى التواصل فقد نقل عن سيمون دي بوفوار مؤلفة كتاب “الجنس الآخر” والذي استهلته بالعبارة الشهيرة :”المرأة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة ” قولها عن المقهى أشعر أنني في عائلتي”، وقال جورج مور الكاتب الإيرلندي: “إنني لم ألتحق بجامعة أوكسفورد ولا بجامعة كمبردج.
ولكنني التحقت بمقهى أثينا الجديدة فمن يريد أن يعرف شيئا عن حياتي ينبغي أن يعرف شيئا عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه، لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التي تقرأ عنها في الصحف.” ويقول هنري جيمس: “هنا يتمكن المرء من أن يجلس بسلام لساعات دون أن يزعجه النادل، وهنا يتمكن أن يقرأ ويكتب في الصباح ويقوم بأعماله في الظهيرة، ويضحك ويناقش الأصدقاء في الليل.”
المقاهي الأدبية الباريسية لعل أشهرها “فلور” مقهى سارتر المفضل والوجوديين ومقهى “لي دو ماجو” المقهى المفضل لدى الصديقين المتمردين العدوين رامبو وفرلين و”ليب” مقهى زولا المفضل ثم إرنست همنغواي فيما بعد، ولعل “البروكوب” هو أشهر واعرق المقاهي الأدبية في فرنسا .
في هذه المقاهي بدأت المسيرة التنويرية والثورية والاحتجاج فقد أثر عن مونتيسكيو قوله: “لو كنت حاكما لهذا البلد لأغلقت المقاهي التي يرتادها أناس يقومون بإشعال الأدمغة”! ومن مقاهي باريس اشتعلت الثورات الفكرية والفنية والأدبية.
وبين جدرانها نشأت التيارات السياسية والأدبية والفنية ومن أرحامها ولدت البيانات وتليت القصائد فأندريه بريتون يصدر البيانات الشعرية في مقهى من مقاهي الحي اللاتيني، ومن مقهى فلور يعترض سارتر على حرب الجزائر وينظم المسيرات المؤيدة للثورة الجزائرية، وفي هذا المقهى بالذات يتعرض لاعتداء يكاد يودي بحياته .
ونظرا لأهمية هذه المقاهي صارت مواضيع دراسات أكاديمية وثقافية وفنية وحتى أن كاتبة عربية هي هدى الزين كتبت كتابا عنها “المقاهي الأدبية في باريس حكايات وتاريخ”
لكن مقهى البروكوب هو أعرق مقهى في باريس- ولعله أعرق مقهى في العالم- فتاريخه يعود إلى القرن السابع عشر وبالتحديد إلى العام 1686 حين فكر السيد الإيطالي الأصل فرانشيسكو بروكوبيو في إنشاء مقهى صغير في المبنى رقم 13 المجاور للكوميدي فرانسيز سابقا في شارع لنسيان كوميدي بالدائرة السادسة سرعان ما نجح المقهى وصار يتردد عليه الأدباء والشعراء والفلاسفة.
فهو في مكان ممتاز في قلب باريس وفي مكان شاعري جميل تجتمع فيه بالنسبة للرواد من الشعراء والفلاسفة، حيث كانت تختلط فيه وقتئذ رائحة الطعام برائحة القهوة، والنبيذ المعتق ورائحة التبغ برائحة النساء.
مدخله شاعري يتسم بالأناقة والهدوء وديكوره جميل يحتفي بالألوان الشاعرية خاصة لون الخشب البني الداكن ولون الستائر تردد على المقهى فلاسفة الأنوار في فرنسا ويقال إن فكرة الموسوعة العلمية التي دشنها الموسوعيون فولتير الذي كان يشرب أربعين قهوة ممزوجة بالشكولاتة – ويعرض المقهى مكتبه الخشبي في الطابق الأول- وديدرو بدأت في هذا المقهى واستمر المقهى يكرس السلوكيات العلمية والحوارات الفلسفية والثورات الفكرية في القرن الثامن عشر وكتب فيه مونتيسكيو جزء من الرسائل الفارسية وشهد تردد شعراء الرومانسية عليه خاصة فكتور هوجو، موسيه ثم شعراء وكتاب آخرون فيما بعد كأناتول فرانس وفرلين.
يقدم المقهى المكون من طابقين الوجبات الفرنسية وفق تقليد خاص إضافة إلى القهوة الجيدة المذاق مع قطعة بسكويت والنبيذ المعتق والأيس كريم ولازالت الجدران مزينة ببنود حقوق الإنسان والمواطنة كهذه الصيحة من لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت وهما يساقان إلى الإعدام: “نتمنى محاسبة من تسبب في تعاسة الشعب”.
من هذا المقهى انطلقت شرارة الثورة الفرنسية عام1789 ففي مجالسه عقدت المناقشات السياسية وأصدرت البيانات وكان من المترددين عليه اثنان من شرارتها دانتون وروبسبير. لكن أبرز المترددين عليه كان وبلا شك الملازم وقتها نابليون بونابرت الذي كان يرهن قبعته لقاء شرب القهوة عند تعذر الدفع ومازال المقهى يحتفظ بقبعته معلقة على الجدار ومعروضة للزوار مع توقيعاته وحتى أن تردد الزوار على المقهى وأخذهم صورة أمام القبعة قد يؤدي أحيانا إلى الزحام في السلم.
ومن أبرز المترددين عليه العالم والدبلوماسي الأمريكي بنامين فرانكلين الذي صاغ فيه جزء من الدستور الأمريكي ،ولعب دورا في تحسين علاقات بلاده مع فرنسا ثم الرئيس الأمريكي كذلك توماس جيفرسون.
أنشأ المقهى جائزة فكرية سنوية عام 2011 ويرأسها “جاك أتالي” تعرف” بجائزة البروكوب” تمنح للبحوث والدراسات الفكرية المتسمة بالجدة والابتكار والاحترافية وتشرف عليها لجنة متخصصة وقد كان الكاتب والمفكر الجزائري مالك شبل عضوا فيها.
فضلت ارتشاف فنجان قهوة مع قطعة بسكويت في مقهى البروكوب ذات زوال باريسي بارد من أيام يناير، فقد انعطفت إلى شارع لنسيان كوميدي حيث المقهى بعد أن حوصرت بمسيرة لأصحاب السترات الصفراء في احتجاجهم السبتي في بولفار سان جرمان ضد قرارات الحكومة الفرنسية التي لم ترق للطبقة الوسطى.
جلست على كرسي عبق بتاريخ الأمس ومجده الغابر واستحضرت في ذهني صورة الحراك الفلسفي والأدبي والسياسي في هذا المقهى الذي يحتفظ بصور وتوقيعات الكبار الذين ترددوا عليه أو مروا به
لا جرم أن يجتمع الشعر والقهوة – بمعناها الحديث – في خاطر كل من يتردد على المقاهي الأدبية والباريسية خاصة فهي مقاهٍ خاصة جدا، لكنها فقدت كثيرا من ألقها الفني والفكري والفلسفي.
وأصبحت تكاد تكون مقاه عادية –اللهم إلا كثرة الفضوليين من السياح- الذين يقصدون هذه المقاهي للفرجة وأخذ الصور التذكارية فهي مذكورة في كل دليل سياحي، واستحضرت في ذهني قول الكاتب المصري الراحل ألبير قصيري في حوار له قبل موته: قال لي بحزن: «أترى كيف تحول مقهى فلور إلى مكان ضاج بالسياح السذج الذين يأتون لزيارة معارض الألبسة الجاهزة في بورت دي فيرساي» هذه المقاهي التي كانت تعج ذات مرة بالنقاشات والمناظرات وصعود التيارات الفكرية، مثل الوجودية والسريالية والدادية وغيرها.»
وقول الكاتب الاسباني فيرناندو آرابال: «لم نعد نرتاد المقاهي الأدبية ونتداول ما كتبناه مع زملائنا، لأن الحياة المعاصرة لم تعد تسمح لنا بذلك، فإننا نرسل مخطوطات كتبنا إلى الناشر، وهو يبعث إلينا بحقوقنا عن طريق التحويل المصرفي أو البريدي وانتهى الأمر”
كل المقاهي التي زرتها في رحلاتي لاحظت تغير حالها فبعضها غير النشاط وبعضها الآخر اندثر والبقية الباقية منها تحتفظ فقط بين جنباتها بمجد الأمس وربما بؤس الحاضر المعولم الذي لا يمكن لمقاهيه الفاخرة والسيبرانية –المعتدية على حرمة اللفظ ومعناه- أن تحل محل مقاهي زمان.
إبراهيم مشارة – كاتب من الجزائــر