المدارس العلمية والثقافية
يحفل التاريخ الثقافي العربي بالكثير من المدارس المتصلة بالمدن. ولعل التمايز بين البصرة والكوفة من بين أول التحققات التي تبين لنا بجلاء كيف كان يشتغل الرواة والعلماء في كل منهما، سواء تعلق الأمر بجمع الأرشيف الثقافي العربي، أو التصور المنطلق منه في تصنيفه، وبعد ذلك في قراءته وبناء نماذج نحوية ولغوية وبلاغية على أساسه.
ومع التطور برزت مدارس علمية عديدة في بغداد وقرطبة، لتكشف لنا المستويات التي بلغتها في علاقتها بالمدن، التي كانت تزدهر في ضوء السياسات الثقافية التي كان يشجعها الخلفاء أو الأمراء، وتتأسس على ذلك تقاليد تستمر مقاومة الزمن.
غاب هذا التقليد في الثقافة العربية الحديثة، رغم وجود مدن ارتبطت بظواهر ثقافية، خاصة في بعض فترات نموها. فالقاهرة، مثلا، عرفت حركة ثقافية وإعلامية سابقة على الكثير من المدن العربية لأسباب متعددة. وكان لذلك أثره في شيوع التأليف والتصنيف.
كما اشتهرت بيروت باحتوائها على أهم دور النشر العربية، وما يزال هذا التقليد سائدا إلى اليوم، رغم تعدد مراكز الطبع والنشر في الكثير من المدن العربية المعاصرة، ولذلك شاعت العبارة التي توزع العلاقة بالكِتاب بين العاصمتين: مصر تؤلف، ولبنان تطبع.
أما القراءة فظلت متحركة: مرة يقال: العراق، وأخرى المغرب، والآن صار الخليج. لكن ظاهرة التأليف، والنشر والتوزيع، والقراءة في التاريخ العربي الحديث، لم تفرز لنا مدارس ثقافية أو أدبية بالمعنى الحصري للكلمة، بالقدر الذي يجعلنا نميز بين الاتجاهات الفكرية والمعرفية بالوقوف على عاصمة بعينها، تنفرد بخصائص ومميزات لا نعثر عليها في غيرها. صحيح ظهرت في الثمانينيات ملامح للتمييز بين «مدرسة» مشرقية، وأخرى مغربية، ولاسيما على صعيد التفكير الفلسفي والأدبي.
كما أنه في الحقبة البنيوية ابتدأ الحديث في المغرب عن «مدرسة الرباط»، خاصة في مجال الدراسات الأدبية، تمييزا لها عما كان يروج في فاس، بسبب التجديد الذي طرأ على مستوى البحث الأدبي.
لكن المجهودات التي ابتدأت تعرضت للتوقف، ولم تتطور الرباط ولا فاس، وظلت المجهودات الفردية هي المهيمنة؟ لم يتحقق هذا التمايز، ولم يتطور وإن بقيت بعض آثاره بارزة بين الفينة والأخرى في مختلف الكتابات هنا وهناك.
لا شك في أن وحدة الثقافة العربية قائمة، وأن اتحاد الهواجس المعرفية مشترك بين العرب جميعا. يبدو لنا ذلك بجلاء في كون حتى بعض الدول العربية التي تأخر انخراطها في الصيرورة الثقافية العامة التي عُرفت مع التطور الحديث، قد بدأت تساهم بفعالية في المسار الذي تختطه الثقافة العربية المعاصرة، لكن غياب التمايز الثقافي بين «العواصم» العربية لا يؤكد طابع الوحدة، بالمعنى الحقيقي للكلمة.
إنه يعكس، بالمقابل، غياب دينامية ثقافية تدفع في اتجاه التنوع والتعدد الذي يعمق الوحدة، ويعطيها إمكانات للتطور والتفاعل البنّاء. إن غياب التمايز يبين على العكس مضمون تلك العبارة المسكوكة التي تقضي بأن بعض الدول العربية تنتج، وأخرى تعيد الإنتاج، أو فقط تستهلك.
يمكن لمن يستهلك اليوم أن ينتج غدا، وستظل المواقع تتبادل بدون أن يتغير المحتوى العام، الذي لا يمكن أن يفرز لنا التمايز، ويعمل على تأسيس التقاليد القابلة للتطور مع الزمن.
لا بد لنا من إعادة قراءة تاريخنا الثقافي، وتاريخ الثقافات، لنتبين كيف يتأسس البحــث العلمي ويتطور في كل الأزمــــنة، وكيف تتشكل المدن المعرفية المعاصرة لتحصيل ما يمكن استنتاجه للمستقبل.
عندما نتأمل واقع المدارس الأدبية والفكرية العامة في العالم المعاصر، نجد الإسهام في التطور المعرفي يتأسس على قاعدة «المدرسة ـ المدينة» كما كنا نرى ذلك في الثقافة العربية ـ الإسلامية.
يكفي أن نذكر مدارس علمية مثل: موسكو، تارتو أو باريس، أو براغ أو كوبنهاغن، أو برمنغهام، أو شيكاغو، أو ييل، لنجد أنها ترتبط بجامعات استطاعت أو تتوفر على المقومات الضرورية للبحث العلمي، وتسهم بذلك في خلق تقاليد قابلة للاستمرار والتطور، وتظل دائما مرتبطة بفضاء خاص.
إن كل المدارس التي أشرنا إليها لم تبق أسيرة الوطن الذي يحتضنها، ولكنها اكتسبت صبغة عالمية بمشاركة العديد من الباحثين من خارجها، وصار الكل يسهم في تطوير منجزاتها، وتعميقها، بل تجديد مساراتها.
وبذلك صارت تلك المدرسة المحلية التي تأسست في منطقة ضيقة منفتحة على العالم، وفارضة نفسها عليه، من خلال ما أنتجته من مفاهيم ومصطلحات، ومناهج صارت ترتحل خارج موطنها.
فما الذي يعوق تحول جامعات عواصمنا العربية، وفي بعض العواصم عدة جامعات، إلى أن تبزغ منها «مدرسة» علمية، ذات خصوصية معرفية، ترتبط بما يجري على المستوى العالمي، وتكون لها مكانتها قطريا، أولا، وعربيا، بعد ذلك، وأخيرا عالميا؟
لا بد لنا من إعادة قراءة تاريخنا الثقافي، وتاريخ الثقافات، لنتبين كيف يتأسس البحــث العلمي ويتطور في كل الأزمــــنة، وكيف تتشكل المدن المعرفية المعاصرة لتحصيل ما يمكن استنتاجه للمستقبل.
أما الآن فأهم عائق عربي يتمثل في أننا نؤسس الجامعات، ليس للبحث العلمي، ولا لتكوين الأطر الحقيقة، ولكن لتأخير بطالة الشباب في كليات الاستقطاب المفتوح، وفي الجامعات الخاصة، لتكديس ثروات رجال المال، ولتهجير المتفوقين في نطاق الشراكات مع الجامعات الأجنبية. أليس عجيبا أن تكون كل هذه العواصم والمدن، ولا تكون مدرسة واحدة؟